العراق: عن الفساد… والمسلحين المحصنين!
منذ 2006 وأنا أقول إن الفساد الذي مصدره المال العام، في العراق، ليس فساد أفراد (موظفون عموميون أو أفراد يمتلكون سلطة أو لديهم مدخل اليها) بل هو فساد بنيوي يشكل جوهر النظام السياسي والدولة، ويتمدد ليصبح ظاهرة مجتمعية أيضا!
وقلت كذلك، إن الجهات المكلفة بمكافحة الفساد نفسها (هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية والقضاء) هي جزء من بنية الفساد القارة تلك، لهذا وجدنا هذه الجهات الثلاث تتواطأ، مثلا، فيما بينها ومع سلطات ومؤسسات الدولة جميعها، للتغطية على سرقة أموال التأمينات الضريبية التي تزيد عن 2.7 مليار دولار، ويخرج المتهم الرئيسي فيها من الحبس، ويُرفعُ عنه منع السفر ويرفع الحجز عن ممتلكاته وممتلكات عائلته التي اشتراها عبر المال المسروق نفسه!
وهذا لا يمنع، بطبيعة الحال، من بعض المسرحيات الموجّهة للجمهور، والتي يتوهم صانعوها أن بإمكانها التعمية على حقيقة أن الفساد محصّن وأن السلاح أيضا محصّن في العراق!
في 27 آب/ أغسطس 2020، أصدر رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي أمرا ديوانيا بالرقم 29 يقضي بتشكيل «لجنة دائمة للتحقيق في قضايا الفساد والجرائم الهامة» وقد تشكلت هذه اللجنة من ضابط برتبة فريق في وزارة الداخلية، وممثل واحد من كل من جهاز المخابرات، وجهاز الأمن الوطني، وهيئة النزاهة، على أن يتم تنسيب 25 محققا من الجهات المذكورة لإسناد عمل اللجنة، ومفاتحة مجلس القضاء الأعلى لتسمية قاض أو أكثر، ونائب مدع عام، للإشراف على إجراءات التحقيق.
وقد نشرنا مقالا في «القدس العربي» حينها، قلنا فيه إن تشكيل هذه اللجنة ينتهك أحكام الدستور بشكل صارخ، وكانت الفضيحة الأكبر في هذا السياق أن القضاء نفسه كان شريكا أصيلا في هذه اللجنة غير الدستورية، وقد أصدر أحكاما قضائية بناء على التحقيقات التي أجرتها!
لكن الأمور تغيرت فجأة، وكان من الواضح أن هذه اللجنة قد بدأت بالاقتراب من «فاسدين محصنين» ومن «رعاتهم»؛ حيث بدأت الأصوات تتعالى ضدها، لنكون أمام حملة منظمة ومنهجية، ليصل الأمر إلى تشكيل مجلس النواب في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2020 لجنة برلمانية خاصة «بمراقبة أعمال لجنة الأمر الديواني رقم 29 «غير الدستورية من الأصل، وكانت أهم ما توصلت إليه اللجنة «التوصية الى مجلس القضاء الأعلى لفتح دعاوى قضائية في ادعاءات التعرض الى التعذيب من قبل الموقوفين» وهي توصية مضحكة لأن مجلس القضاء الأعلى، عمليا، هو عضو في تلك اللجنة، وكان هو المشرف على التحقيقات!
الجميع في العراق، دون استثناء، يعلمون يقينا أن التعذيب في العراق إجراء روتيني أثناء التحقيق، وأن المحققين يعتمدون على التعذيب بوصفه أمرا طبيعيا في سياق عملهم، وأن القضاء العراقي يأخذ بالاعترافات المنتزعة تحت التعذيب دون مراجعة، وأنه يرفض بشكل منهجي التحقيق في ادعاءات التعذيب، وتقارير لجنة حقوق الإنسان التابعة لبعثة الأمم المتحدة في العراق مليئة بشهادات عيان تثبت هذه الحقائق!
لكن كل ذلك لم يمنع لجنة الأمر الديواني من الاستمرار بعملها، ليصل الأمر إلى أحكام قضائية صدرت بحق متهمين دون الإشارة إلى مسألة «التعذيب» تلك!
لكن الهجوم المضاد لم يتوقف، بل انضم اليه «حملة السلاح» الذين يمثلون الدولة الموازية في العراق، حيث رفع شخص اسمه «حمداوي عويد معارج» (وهو والد المتهم باغتيال الناشط هشام الهاشمي) دعوة أمام المحكمة الاتحادية يطالب فيها بالحكم بعدم دستورية اللجنة، لتحكم المحكمة الاتحادية في 2 آذار/ مارس 2022 بعدم صحة الأمر الديواني رقم 29، وإلغائه لمخالفته المادة 47 من الدستور ولمبدأ استقلال القضاء واختصاصه بتولي التحقيق والمحاكمة، ولكونه بمثابة تعديل لقانون هيئة النزاهة، ولم يشر أحد إلى حقيقة أن مجلس القضاء الأعلى كان شريكا أصيلا في تلك اللجنة، وأنه لم يعترض مطلقا على أن يكون طرفا في لجنة يرأسها موظف في السلطة التنفيذية، تماما كما هيئة النزاهة (وهي نفسها الأسباب التي قلناها لحظة إصدار الأمر)!
ومراجعة حيثيات قضية اغتيال الناشط هشام الهاشمي وارتباطات القاتل بالميليشيات، فضلا عن عملية اعتقال لجنة الأمر الديواني رقم (29) لقاسم مصلح القيادي في الحشد الشعبي بتهمة اغتيال ناشط في كربلاء، وحيثيات الإفراج عنه، تكشف عن جزء من علاقات القوى التي أفضت، في النهاية، إلى صدور قرار المحكمة الاتحادية المسيسة أصلا!
لكن كان واضحا أن ما جرى ليس كافيا، وأنه لا بد من التنكيل بمن توهم للحظة أن بإمكانه أن «يناطح» الكبار، فاسدين وحملة سلاح، فاستمر مسلسل شيطنة الفريق أحمد أبو رغيف رئيس لجنة الأمر الديواني رقم 29، التي تأتي في سياق شيطنة رئيس مجلس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي نفسه!
بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، أعلن مستشار رئيس مجلس الوزراء لحقوق الإنسان، بتاريخ 22 كانون الأول/ ديسمبر 2022 أنه «إزاء ادعاءات الشكاوى التي تحدّثت عن حصول حالات تعذيب وانتزاع للاعترافات بالقوّة» قرر رئيس مجلس الوزراء إحالة ملفات ادعاءات انتهاكات لجنة الأمر الديواني(29 لسنة 2020) إلى جهاز الادّعاء العام من أجل اتخاذ الإجراءات الملائمة وفق القوانين المرعية النافذة». ولكن رئيس مجلس الوزراء لم يكتف بذلك بل شكل لجنة تحقيقية غير قانونية في جهاز الأمن الوطني للتحقيق في الاتهامات الموجهة للجنة الأمر الديواني رقم 29 بشأن التعذيب!
المهزلة هنا أن كلا الجهتين، الادعاء العام وجهاز الأمن الوطني كانا طرفين في تلك اللجنة، وشريكين أصيلين فيها، وتعارض المصالح هذا يفضح النية المبيتة للتنكيل بأبو رغيف أكثر مما يعكس رغبة في الوصول إلى الحقيقة!
يوم الأربعاء 21 حزيران/ يونيو، أعلن المتحدث باسم الحكومة العراقية أن رئيس مجلس الوزراء قد «صادق» على توصيات اللجنة التحقيقية/ جهاز الأمن الوطني التي تضمنت «إحالة الملف والأوراق التحقيقية الكاملة إلى القضاء» و «إحالة الأفراد الذين أسهموا بتلك الانتهاكات إلى التقاعد» لكن في الوقت نفسه «توجيه العقوبة الإدارية الى العناصر والأفراد الذين امتنعوا عن إخبار مراجعهم بارتكاب منسوبي اللجنة آنفا تلك الإساءات والانتهاكات لحقوق الإنسان» وقد أُحيل «الفريق أحمد أبو رغيف و8 ضباط ومنتسب واحد الى التقاعد! ما الذي يعنيه ذلك:
أولا: أن جهاز الأمن الوطني الذي كان عضوا في لجنة الأمر الديواني رقم 29، وشريكا أصيلا فيها عبر محققيه، هو نفسه من حكم على أبو رغيف و9 فقط من جماعته بثبوت ارتكابهم «الانتهاكات» فيما حكم على الآخرين، ومن بينهم منتسبوه ومنتسبو هيئة النزاهة والمخابرات الذين شكلوا الجهاز التحقيقي للجنة، بعقوبات إدارية فقط، فيما لم يشر مطلقا إلى دور القضاء والإدعاء العام، وهذه فضيحة بحد ذاتها!
ثانيا: أن جهاز الأمن الوطني يحيل الملف إلى «القضاء» الذي كان شريكا أصيلا في اللجنة نفسها، وكل أوامر القاء القبض صدرت عنه، وكل التحقيقات جرت تحت إشرافه، وكل الأحكام القضائية صدرت من محاكمه، ليكون حَكَما في اتهامات تعذيب غض الطرف عنها، وغطى عليها، وهذه فضيحة ثانية!
عندما يتمكن الفاسدون وحملة السلاح المحصنون كلاهما، من السيطرة على الدولة، فوصفة الخراب ليست بعيدة وإن توهموا أنها كذلك!
وسوم: العدد 1038