ضمائر الكونغرس الأمريكي: كاشف العنصرية الإسرائيلية
نادرة هي التصريحات التي تصدر عن أعضاء في الكونغرس الأمريكي وتكون مكشوفة واضحة في انتقاد دولة الاحتلال الإسرائيلي، فكيف إذا كانت تذهب إلى صميم قبائح الكيان الصهيوني وتسمه بالعنصرية مثلاً، أو تقتبس توصيفات مماثلة لمنظومات الأبارتيد كما سجلتها منظمات حقوقية دولية ذات شأن؛ مثل «منظمة العفو الدولية» أو «هيومان رايتس ووتش» أو حتى «بتسيليم» الإسرائيلية. إحدى هذه النوادر نطقت بها مؤخراً النائبة عن واشنطن براميلا جايابال، حين قالت في اجتماع عام لتجمّع تقدمي في شيكاغو: «أريدكم أن تعرفوا أننا نقاتل كي نوضح أن إسرائيل دولة عنصرية» وأنّ «الشعب الفلسطيني يستحق تقرير المصير والاستقلال الذاتي» وأنّ «حلم حلّ الدولتين يتلاشى أمامنا».
ولقد توجّب، كما يتوجب عند كلّ نادرة كهذه، أن تقوم قيامة عابرة للحدود بين الحزبَيْن في الكونغرس، فيستغلّ الجمهوريون الواقعة للبناء ضدّ زملائهم أعضاء الحزب الديمقراطي، وتسعى غالبية من الديمقراطيين أنفسهم إلى التنصّل من تبعات تصريح جايابال أو الالتفاف عليها؛ في غمرة هرج ومرج، بالمعنى الحرفي للتعبير وليس المجازي وحده، في أوساط الإعلام الموالي لدولة الاحتلال. وهكذا، في ما يشبه الضربة الاستباقية، سارع 43 من النوّاب الديمقراطيين إلى صياغة مسودة بيان يشير إلى «القلق العميق» من الأقوال «غير المقبولة» التي صدرت عن زميلتهم؛ فسعى زعيم الأقلية، الديمقراطي حكيم جيفريز، إلى إصدار نصّ يقول إنّ «إسرائيل ليست دولة عنصرية» شارك في التوقيع عليه كاثرين كلارك، بيت أغويلار، وتيد ليو. لا عجب، حين يستذكر المرء أنّ مجموعة الضغط «أمريكا المؤيدة لإسرائيل» ساهمت في حملة انتخاب جيفريز بمبلغ 213 ألف دولار، وفي حملة ليو بأكثر من 37 ألف، وتلقى أغويلار 101 ألف من الـ«أيباك» المنظمة الأشهر المؤيدة للاحتلال، وحصلت كلارك على 45 ألف من المنظمة ذاتها.
طريف، إلى هذا، أنّ هؤلاء الأشاوس، في استماتتهم لتنزيه دولة الاحتلال عن العنصرية، اتكأوا على إعلان استقلال الكيان الصهيوني، 1948، الذي يساوي بين جميع «مواطني» الدولة من دون تمييز على أساس العرق أو العقيدة أو الجنس. وهم، عن سابق قصد بالطبع، تناسوا تماماً قانون جنسية الدولة الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي سنة 2018، وأنّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو شخّص الأمر عيانياً في ردّ على الممثلة الإسرائيلية روتيم سيلا، التي اتهمت حكومته بمعاملة الفلسطينيين حملة الجنسية الإسرائيلية كمواطنين من درجة أدنى: «إسرائيل ليست دولة لكلّ مواطنيها» كتب نتنياهو على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، «طبقاً لقانون الجنسية الذي اعتمدناه، إسرائيل هي الدولة الأمّة للشعب اليهودي ــ ولهذا الشعب وحده». تجاهلوا كذلك أنّ إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي في هذه الدولة التي يستبعدون عنها العنصرية، سبق له أن أُدين بالعنصرية والتحريض على الإرهاب، في محكمة إسرائيلية؛ واجهها برفع لافتة كتب عليها: «اطردوا العربيّ العدو».
ضمائر الكونغرس الأمريكي، أو ما تبقى منها بمعنى المصطلح والدلالة على الأقلّ، اشتُريت بأثمان بخسة كما جرت العادة عند صياغة أيّ نصّ لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ فاجتمع الحزبان الديمقراطي والجمهوري على إصدار قرار يعبّر عن دعم الاحتلال، ويستنكر العداء للسامية، في ردّ على نادرة جايابال، يشدد ضمناً على آلية باتت جامعة مانعة: أيّ انتقاد لدولة الاحتلال هو عداء للسامية، بالتعريف القاطع. القرار صدر بأغلبية 412، مقابل رفض 9 من المجموعة التقدمية تحديداً (ألكساندريا أوكاسيو ـ كورتيز، رشيدة طليب، جمال بومان، سومر لي، إلهان عمر، كوري بوش، أندريه كارسون، ديليا راميريز، وأيان بريسلي)؛ وفي علامة جلية على سطوة مجموعات الضغط المؤيدة للاحتلال، فإنّ بيتي ماكولام (عضوة المجموعة التقدمية) لم تصوّت سلباً أو إيجاباً واكتفت بتسجيل الحضور؛ وأمّا العلامة الأجلى فقد جاءت من جايابال نفسها، التي… دعمت القرار!
مفهوم أنّ جايابال في حاجة ماسة إلى دعم الحزب الديمقراطي على مستوى القيادات صاحبة السلطة في تسمية المرشحين لانتخابات الكونغرس، خاصة وأنها أمريكية من أصول هندية؛ ومفهوم، في المقابل، أنها تترأس المجموعة التقدمية داخل مجلس النوّاب وهي مطالَبة أيضاً بالوفاء لجملة خيارات سياسية، بينها مساندة حقوق الشعب الفلسطيني وفضح ممارسات دولة الاحتلال في انتهاك حقوق الإنسان وإساءة استخدام مليارات المساعدات السنوية التي يصادق عليها الكونغرس. ولم يكن غريباً أن تصدر جايابال توضيحاً مركّب النبرة، سارت الفقرة الأولى فيه هكذا: «لست أؤمن أنها عنصرية فكرةُ إسرائيل كدولة. لكنني مع ذلك أؤمن أنّ حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة انخرطت في سياسات تمييزية وعنصرية صريحة وهنالك عنصريون متطرفون يسيّرون تلك السياسة داخل قيادة الحكومة الراهنة. وأؤمن أنّ من الوجب على كلّ المناضلين لجعل عالمنا مكاناً أكثر عدلاً ومساواة، التصريح بإدانة تلك السياسات ودور حكومة نتنياهو هذه في تطبيقها».
ولأنّ الرئيس في البيت الأبيض اليوم هو جو بايدن، والرئيس في حكومة الاحتلال هو نتنياهو؛ فقد يكون من الأخير ردّ الذاكرة إلى ربيع 2010، حين قام الأدميرال مايكل مولن، رئيس الأركان المشتركة الأمريكية بزيارة إلى فلسطين المحتلة، اجتمع خلالها مع غابي أشكنازي، رئيس أركان جيش الاحتلال، وأبلغه ضرورة وضع النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في «سياق إقليمي أعرض» يخدم أهداف أمريكا. الصدفة ــ يا لمحاسنها أحياناً! ــ شاءت أن يكون بايدن، نائب الرئيس يومذاك، في اجتماع مع نتنياهو؛ حين أبلغ المضيفُ ضيفه أنّ الحكومة لا ترفض تجميد المستوطنات، فحسب؛ ولكنها تستقبل بايدن بالعزم على بناء 1600 مستوطنة جديدة، وفي القدس الشرقية. ولقد تطوّع الصحافي الإسرائيلي شيمون شيفر، في «يديعوت أحرونوت» باطلاع العالم على «قلق» نائب الرئيس الأمريكي، وعلى بعض العتب: «ما تفعلونه هنا ينسف أمن قوّاتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان والباكستان. هذا يُلحق الخطر بنا، وبالسلام في المنطقة»؛ وأيضاً: لهذه القرارات «تأثير مباشر على السلامة الشخصية للقوّات الأمريكية التي تكافح الإرهاب الإسلامي». وأمّا في أمريكا فقد سارعت سارة بيلين، المرشحة الرئاسية السابقة عن الحزب الجمهوري، إلى كتابة مقال في صفحتها الشخصية على الفيسبوك؛ توجّه فيه الملامة الشديدة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، ونائبه بايدن، بسبب «اختلاق» مشكلة مع دولة الاحتلال حول المستوطنات، يستفيد منها الإرهابيون!
وإذْ يستعيض الحزب الديمقراطي الأمريكي، في البيت الأبيض كما في الكونغرس، عن حرج استقبال نتنياهو ببديل يمثله الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، ذي الوظائف الشكلية البروتوكولية الاحتفالية؛ فإنّ أيّ تعويض عن ذاك بهذا لا يجبّ ضرورات الوفاء بالتعاقد العضوي التاريخي مع دولة الاحتلال، ولهذا حرص بايدن على إجراء اتصال هاتفي مع نتنياهو لدعوته إلى زيارة أمريكا، حتى من دون المرور على المكتب البيضاوي؛ والكونغرس، قبل خطبة هرتسوغ العصماء تحديداً، تقصد تمرير قرار بتجريم من تسوّل له نفسه انتقاد الكيان الصهوني المدلل. لا جديد، إذن، تحت شمس شهدت المئات من هذه التمارين في التسابق على اكتساب الودّ الإسرائيلي في عمق المشهد الأمريكي، حكومة ومعارضة، في الكونغرس كما في مجموعات الضغط، وفي الصحف الكبرى وأجهزة الإعلام العملاقة.
الأمر الذي لا يلوح أنه يجبّ، في الضفة المقابلة، يقظة ضمير ديمقراطي هنا، أو صحوة صوت صارخ في برّية هناك؛ خاصة حين تهبط قبائح دولة الاحتلال إلى حضيض عنصري كاشف فاضح، يصعب أن يُشترى للدفاع عنه ضمير.
وسوم: العدد 1042