التحرر من أوهام ثورة يوليو
كنت حتى وقت قريب من دراويشها، وناسكًا في محرابها، حتى حلت عليها اللعنة، أو انجلى عني سحرها، فتعرت في ناظري، وتحول لاعبوها إلى مجرد بهلونات في سيركها الذي يديره مخادع ماكر عتيد، تشعر بيده تعبث في كل شيء، وتحرك جميع الخيوط، ولكنك تحتاج إلى بصيرة من حديد حتى تراه، وإلى تجرد من الأوهام المسبقة حتى تؤمن بما سيطرحه عليك عقلك، ولما تسنى لي ذلك؛ وقتها عرفت حجم سذاجة اعتقادي القديم.
نحن لسنا بحاجة إلى مزيد من الأسانيد التي تشكك في “ثورة” يوليو 1952 وهي كثيرة ومتنوعة، لأن قليلا من المنطق وحده كفيل بأن يهدم صرحها العالي المبني على سراب اللامنطق، بدءا من كونها ثورة، وانتهاء بأنها كانت حركة وطنية صرفة، مرورا بالإنجازات وحروب التحرر “الوهمية”.
الثورة والانقلاب
ودعونا نتفق أن الثورة هي عمل موجه ضد السلطة، والسلطة كما هو معلوم يعبر عنها بأدوات القوة كـ”الجيش والشرطة” أو أدوات العدالة كـ”القضاء والمجالس النيابية”، وتفصيلا نقول إنه حينما تطغي أدوات القوة على أدوات العدالة تصبح هناك سلطة استبدادية، ولكن إن خضعت أدوات القوة لأدوات العدالة حين إذن تكون هناك سلطة ديمقراطية، والأهم في كلتا الحالتين أن يكون وصول هؤلاء أو هؤلاء لمناصبهم جاء بناء على قواعد ديمقراطية وليست جبرية.
ولكن حينما نجد أن أدوات القوة في السلطة هي من تقوم بعمل عسكري مباشر- وهذا تماما ما حدث في تلك الثورة المزعومة- أو غير مباشر عبر تحريضها الناس على العصيان- كما حدث في غيرها- هنا يصبح ذلك “انقلابا”، وذلك لأن السلطة هي من تحدث ضدها الثورات وليست هي من تقوم بها أو تدعو لها، وإن فعلت، لكان ذلك انقلابا صريحا، وذلك لأن سلطة رأس الحكم المعني بالإطاحة بها لا قيمة لها ما لم تخضع لها أدوات انفاذها.
حركة وطنية ومهلبية
الحركات الوطنية الحقة التي تجئ معبرة عن إرادة الشعب لابد لها أن تمتاز بالتجرد والعدالة، وأبسط معاني هذا التجرد هو تسليمها السلطة للشعب بعد اقامتها حياة ديمقراطية سليمة، لكن ما حدث في هذه الحركة الوطنية المزعومة هو النقيض تماما، فقد ألغيت الأحزاب والمنظمات، وأممت الصحف وكافة وسائل التعبير، وصودرت الحريات، وتم الاستهانة بأرواح الناس وأعراضهم وأملاكهم، وكذلك أُهدر القضاء ليس عبر تطويعه كما يحدث في الديكتاتوريات التقليدية، بل إنهم وصلوا لمرحلة اعتلى فيها الضباط أنفسهم منصات القضاة، فصاروا الخصم والحكم!
ليست حركة وطنية أبدا تلك التي تزج بسفهاء القوم إلى لشوارع للهتاف ضد الديمقراطية بوصفها كفر، ثم تعتمد نظاما يُورث فيه الضباط الحكم بعضهم البعض دون أن يكون للشعب أي دور غير الجلوس في مقاعد المتفرجين، يستعملونه تارة كخزانة اقتصادية مكتظة يتم الجباية منها، وأحيانا يستخدمونه بوصفه خزانًا بشريًا هائلًا يمكن خداعه بسهوله ثم استدعاؤه في أي لحظة من أجل الانتقام من بعضهم البعض.
ليست حركة وطنية أبدا تلك التي يتفاخر قائموها بأنهم تخلصوا من حكم مستبد توارث الحكم أبًا عن جد؛ في حين أنهم ورّثوها من بعده لأنفسهم ولأسرهم، ومنحوا أنفسهم ما يشبه الحق الإلهي في التحكم في مصائر البلاد والعباد، فما كانت المحصلة إلا استبدال الإقطاع بالإقطاع، وتكاثر المستبد الواحد إلى عشرات الأمثال.
وللأمانة، ديمقراطية الملك هي من منحت هؤلاء الضباط إمكانية الالتحاق بالجيش رغم انتماء أسرهم للمستويات الدنيا من الناس، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل عن اتساع هامش التوظيف في المناصب السيادية لعامة الشعب، وهو الهامش الذي ضيقه وقصره الضباط الأحرار على أسرهم ومحاسيبهم حينما تمكنوا من الحكم، ما ألقي بمصر في جب التوريث الأسري السحيق.
تساؤلات قاتلة
ما هو المبرر المقبول لسماح بريطانيا لهذا الانقلاب أن ينجح في حين كانت مصر إحدى أهم مستعمراتها التي يعنيها استقرار الحكم فيها بأي ثمن، وكانت بريطانيا هي التي أخمدت عشرات الثورات والانقلابات في كافة مستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس؟
وكيف لها أن تتخلى عن حليفها بتلك البساطة لهؤلاء النفر من صغار العسكر وهم من كان يكفي لاعتقالهم جميعا عربة ترحيلات واحدة؟
ولماذا لم تكرر ما فعلته في واقعة 4 فبراير 1942، وهي الواقعة التي حاصرت خلالها قصر الملك بالدبابات وأجبرته على حل حكومة الأغلبية بعدما تصورت تعاطفها مع القائد الألماني رومل في العلمين، وأجبرته على تشكيل النحاس باشا رئيس حزب الوفد حكومة الأقلية ليؤمن ظهرها في الحرب؟
وكيف سمحت وهي من تسيطر على المجري الملاحي لقناة السويس بعبور قوات الملك شرقا للمشاركة في حرب فلسطين 1948 لولا أنها على ثقة أن بينهم من سيفشلون تلك الحرب ويصنعون النكبة العربية؟
كيف حدث ذلك ما لم يكن الأمر يعبر عنها وعن إرادتها، وذلك نكاية في هذا الملك الذي تستر على تواصل حكومته مع عدو بريطانيا، بخلاف عصيانه الأمر البريطاني بدعم إنشاء دولة إسرائيل وإرساله قوات للحيلولة دون ذلك عام 1948؟
لما الحيرة والمثل يقول العبرة بالنتائج، وكل ما استتبع هذه الثورة على مدار 70 سنة من أحداث رئيسية كالنكسة ثم الحرب منزوعة المكاسب في 1973 ثم كامب ديفيد وما تلاها، هو أن تحولت مصر من عدو إلى ما يشبه الحليف لهذا الكيان؟
وهل جاء تحرر مصر رسميا من الاستعمار البريطاني عام 1956 بسبب مقاومة شعبية أو عسكرية، أم أنها رحلت طواعية عن مستعمراتها القديمة في كافة بقاع الأرض تمهيدا لبدء مرحلة الاستعمار بالوكالة طبقا للقاعدة الثالثة من قواعد ميكافيللي في السيطرة على المستعمرات، وخشية من ثورة تلك المستعمرات الكبرى التي كان سيدعمها الاتحاد السوفيتي والصين؟
الحروف وُضعت على النقاط وبمقدور الناس قراءة الأحداث بشكلها الصحيح وليس كما أُريد لها أن تُقرأ.
وسوم: العدد 1042