مصلحة الشعوب بين مطرقة الحكومات وسندان الجمعيات
إن المتدبر في طرق تحكم عدد من الحكومات في رقاب شعوبها من جهة، وفي الضغوط التي تمارسها مجموعة من جمعيات ما يطلق عليه "المجتمع المدني" على هذه الحكومات لتمرير أجندات معينة، لا يملك إلا أن يتساءل عن مدى وجود ميثاق أو عقد يضبط العلاقات بين الشعوب وبين حكوماته من جهة، وبين الحكومات والجمعيات من جهة ثانية ثم بين الشعوب والجمعيات من جهة ثالثة؟ ولعل الإجابة البديهية التي تتبادر إلى الذهن هي أن هذه العلاقة في أبعادها الثلاثة يُفترض أن يُحْتَكم فيها إلى قواعد الديموقراطية، على اعتبار أنها وسيلة ومطية للتدافع، لا محيد عنها بالنسبة لكل من يرغب في خوض غمار معترك الحياة في مختلف تجلياته. غير أن استقراء الواقع يبين أن تجسيد الديموقراطية كمفهوم على أرض الواقع، يختلف باختلاف الأمم والشعوب وحكامها، حتى وإن كانت التعريفات المفروض الاحتكام إليها لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض، و سأعتمد على سبيل المثال التعريف الاصطلاحي التالي: "الديمقراطية نظام حُكم، تكون فيه السلطة العليا بيد الشعب، الذي يمارس سلطاته بشكلٍ مباشرٍ، أو عن طريق مجموعة من الأشخاص يتمّ انتخابهم لتمثيل الشّعب بالاعتماد على عمليةٍ انتخابيّةٍ حرةٍ، وهي ترفض جعل السلطة كاملةً ومُركَّزة في شخصٍ واحد، أو في يد مجموعة من الأشخاص كالحكم الدكتاتوري، أو الأوليغارشية" لكونه من التعاريف الشائعة، بحيث يمكن أن نستشف مدى احترام مجموعة من الحكومات للقواعد الديموقراطية أثناء أجرأته في علاقتها بشعوبها، وعلى رأسها علاقة الحكومة المغربية بالشعب المغربي، وسأستند في قراءة العلاقة بين الحكومة والجمعيات المسماة جمعيات المجتمع المدني، على مدى حضور أحد أهم عناصر الديموقراطية، كما هو وارد في قرار الأمم المتحدة لسنة 2002 تحت رقم 2002/46 والذي ينص على ما يلي:" احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير وحرية تكوين الجمعيات"
انطلاقا من تعريف الديموقراطية أعلاه، يُفترض أن الانتخابات بمختلف أنواعها ومستوياتها، من الانتخابات المحلية إلى الانتخابات الرئاسية، مرورا بانتخابات هياكل الجمعيات والأحزاب والنقابات... تُفرز مُنتَخَبين يعملون لمصلحة مُنتخِبيهم، وفق البرنامج الذي تم انتخابهم من أجله، باعتباره عقدا وتعهدا يتعين الالتزام به، غير أن الواقع على مستوى الدول المتخلفة خصوصا، وحتى بالنسبة لعدد كبير من الدول الموسومة بالمتقدمة، يبين بالملموس بأن لا الحكومات ولا البرلمانات على اختلاف مسمياتها... تلتزم بما تعهدت به أمام منتخِبيها، بقدر ما تخدم مصالح فئات معينة من الذين يتحكمون في توجيه ما يسمى بالرأي العام إن وُجد، على اعتبار أنه لا وجود له حسب المفكر Pierre Bourdieu الذي يَعتَبر بأنه "لا يوجد رأي عام، على الأقل بالصيغة التي يصورها أولئك الذين يريدون إثبات وجوده" وإنما "هناك أراء مُشَكَّلة، ومجنَّدة، ومجموعات ضغط مجندة حول نظام مصالح مصاغة صياغة صريحة". ولا شك أن الحكومة المغربية السابقة والحالية على حد سواء، تأتي على رأس الحكومات التي نبذت عهودها وراء ظهرها، وقامت وتقوم بتنفيذ أجندات تضرب في العمق انتظارات جل المغاربة إن لم يكن كلهم، وذلك بتواطؤ مع الأغلبية البرلمانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما كان الشأن بالنسبة لتمرير القانون المتعلق بتعميم تدريس الفرنسية، حيث لعبت الأغلبية لعبة الامتناع عن التصويت، لإعطاء الضوء الأخضر لتمرير المشروع، وقانون القنب الهندي تحت غطاء الاستعمالات الطبية، بالإضافة إلى التطبيع مع إسرائيل وإحداث مجموعة الصداقة البرلمانية المغربية الإسرائيلية... ويتواصل هذا الاستخفاف بالشعب المغربي، من خلال مجموعة من الممارسات التي تصدر عن بعض الوزراء، كإصرار وزير العدل على مناصرته لكل ما يخل بثوابت الأمة، من مثلية ورضائية وإفطار علني وإجهاض...وكمحاولة وزير الثقافة مؤازَرا بوزير العدل للتأصيل لنوعٍ من الفن الذي لا يمت لثقافة المغاربة ولا لأخلاقهم بصلة، من خلال تشجيع الميوعة والبذاءة، كما جسدها الرابور طوطو السيء الذكر وغيره كثير، مع العلم أنه تمت مشاركة رابور إسرائيلي ضمن فعاليات النسخة العاشرة من المهرجان الدولي لموسيقى الشباب، بمدينة الرباط، الذي تنظمه جمعية "هيب هوب فاميلي" بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، و"صندوق الأمم المتحدة للسكان ومنظمة اليونسكو"!!! حسب ما أورده موقع "بيان اليوم" الإلكتروني...
وانطلاقا من القرار رقم 2002/46 يتضح أن تكوين الجمعيات حق من حقوق الإنسان، الذي تسهر الأمم المتحدة على احترامه من قبل الأنظمة والحكومات، عبر إخضاعها لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهذا ما يفسر استنبات العدد الهائل من جمعيات المجتمع المدني الذي يقدر ب 268000 جمعية في الوقت الذي لا يتعدى فيه عدد الجمعيات التي تتمتع بصفة المنفعة العامة 244 جمعية! حسب ما أوردته جريدة هسبريس الإلكترونية. وإذا علمنا أن جل هذه الجمعيات ممولة من جهات خارجية، فليس غريبا أن تنخرط في تنفيذ أجندات هذه الجهات بكيفية أو بأخرى، ولنا في الجمعيات النسوية خير دليل على ذلك، ويبقى السؤال الأساسي هو لماذا يتم الترخيص لها ما دامت أهدافها لغير صالح ثوابت الأمة والمجتمع المغربي؟ وللإجابة على هذا السؤال أزعم أن هناك احتمالا كبيرا في وجود تواطئٍ بينها وبين الحكومة إن طوعا أوكرها، وغالب الظن أن عامل الإكراه حاضر بقوة لدى الطرفين من قبل جهات خارجية، قد تبدو مختلفة في الظاهر، لكنها واحدة في الجوهر، بالنظر إلى الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.
يلاحظ إذًا أن الديموقراطية مفهوم يتم استغلاله من قبل أغلب الحكومات والبرلمانات، وحتى النقابات والجمعيات ... لاكتساب الشرعية التي تُخولهم التكلم باسم الشعوب، والنيابة عنها في اتخاذ القرارات، وهذا أمر مشروع ومطلوب في حد ذاته، ما دام الكلام لا يخرج عن إطار البرامج التي تم انتخابهم على أساسها، وما دامت القرارات لا تتصادم من المصالح الفضلى للشعوب وثوابتها. ولأن الأمر ليس كذلك، وهوما يتجسد في عدد من قرارات الحكومات كما تمت الإشارة إلى ذلك، وفي برامج وممارسات عدد من الجمعيات التي تَفرض نفسها على الشعب، وتأخذ الكلمة باسمه دون إذن منه خارج أدنى قواعد الديموقراطية، قلت في هذا السياق لا نستغرب أن يؤدي فقدان الشعوب ثقتها بمختلف الجهات التي يُفترض أنها تمثلها وتدافع عن مصالحها، إلى التمرد الذي قد يؤدي إلى الإضرار بمصالح فئة أو فئات معينة من الشعب، كما هو حاصل بالنسبة لمصلحة التلميذ التي تضررت بفقدان الشغيلة التعليمية ثقتها في الحكومة والنقابات على حد سواء، مما حَمَلها على الانضواء تحت هياكل التنسيقيات التي اكتسبت مصداقيتها ميدانيا، ومع ذلك لا زالت الحكومة تتشبث ب"الحوار" مع النقابات الموصوفة بالأكثر تمثيلية، علما أن هذه الصفة لم تعد تنطبق عليها بعد فقدانها عمليا لثقة جل رجال ونساء التعليم.
في الأخير أتساءل عما إذا كان من الممكن مواصلة الضحك على الذقون باسم الديموقراطية، علما أنها مُطَوَّقة بقيود لا يمكن الانفكاك منها ما دامت الأنظمة وكل الجمعيات والنقابات الدائرة في فلكها، تأتمر بأوامر الغرب ونواهيه، وهو الذي لا يقبل بغير "الديموقراطية" التي تخدم مصالحه دون اعتبار لأية مصلحة أخرى، ولنا في تعامله مع الديموقراطيات التي أوصلت إلى الحكم من لا يخدم أجنداته، كما كان الشأن في الجزائر ومصر وتونس وعدد من الدول الإفريقية... أمثلة حية لكون الديموقراطية أداة من أدوات هذا الغرب الذي يَنْدَسُّ وراء مصطلح "النظام العالمي" ليقول للأمم والشعوب ما قاله فرعون لقومه كما جاء على لسانه الآية 29 من سورة غافر ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾.
وسوم: العدد 1062