ملحمة غزة إقبار لوهم البيت الإبراهيمي وقد سقط في أيدي المراهنين عليه وأضحوا في حالة شرود مع الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي الحر
تعددت الأساطير المؤسسة لدولة الكيان الصهيوني على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي رجاء جارودي رحمه الله تعالى ،ومنها ما سمي بالبيت الإبراهيمي ، وهو بيت عنكبوت أراد به ذلك الكيان الذي استنبته الكيانات الغربية في قلب الوطن العربي التمكين لنفسه في هذا الوطن الذي تلفظه شعوبه باعتباره ورما خبيثا .
ووهم البيت الإبراهيمي ،عبارة عن محاولة يراد بها معاكسة إرادة الله عز وجل التي قضت بألا ينسب لخليله عليه السلام نسب يهودي أو نصراني، كما جاء في محكم كتابه جل شأنه : (( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين )) . ولقد فنّد سبحانه وتعالى ادعاء اليهود والنصارى نسبة خليله عليه السلام إليهم في قوله تعالى : (( يا أهل الكتاب لمَ تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) .
ولقد كان هذا الإفحام منه سبحانه وتعالى كافيا لإقناع المراهنين الرهان الخاسر على وهم البيت الإبراهيمي ، وصدهم عنه ، لكنهم أصروا على ذلك إصرارا ،وقد دعوا إلى التراجع عنه إسرارا وإعلانا ، لكنهم صمّوا آذانهم، وأصروا واستكبروا استكبارا حتى أذهلتهم ملحمة غزة التي أقبرت ذلك الوهم ، وبخرت حلم ما سوقه إليهم، وذلك بإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعدما كان الكيان الصهيوني يروم طمس معالمها مع تراخي الزمن ، وذلك بشغل هؤلاء المراهنين على وهمه ، وصرفهم عن التفكير في ضرورة تخليص أرض الإسراء والمعراج من احتلالها ،باعتبارها وقفا إسلاميا ، يقع واجب حمايته على كل الشعوب العربية ، والإسلامية ، وعلى حكامها بالدرجة الأولى بحكم مسؤولياتهم.
ولقد كان المراهنون على الوهم الصهيوني ، يتوقعون أن يكون اكتساح جيشه لقطاع غزة ، وهو الذي زلزله السابع من أكتوبر زلزالا شديدا ،عبارة عن نزهة حشد لها العديد من فرقه العسكرية على اختلاف تخصصاتها مع تغطية جوية كبيرة ،هي دعم ،بل مشاركة مباشرة من سلاح الجو الأمريكي، فضلا مسيرات تجسسية بريطانية ، وفرق مخابراتية متعددة ... وما خفي أعظم مما لم يُصرَّح به من عون ودعم مقدم للكيان المحتل ، ويتعلق الأمر بجهات أخرى داعمة وممولة ، سيكشف عنها النقاب لا محالة في مستقبل الأيام ، إلا أن النزهة المأمولة سرعان ما تحولت إلى مستنقع وقعت فيه قوات الاحتلال ، وصارت توابيت الهالكين منها ، والجرحى ، تنقل عبر المروحيات على رأس كل ساعة ، إما إلى المقابر أو إلى المستشفيات . أما الدبابات والآليات ، والجرفات فكانت تفجر بمن فيها ليل نهار كأنها مجرد لعب .
وبانتكاس العدو الصهيوني، انتكس معه من باعهم الأحلام الوردية ، والأمل في ولوج البيت الصهيوني المنسوب إلى خليل الله ـ حاشاه ـ ، وبهذا كانت ملحمة غزة تصحيحا للوهم المشترك بين مُصدره ، وبين المصدر لهم ، وقد سقط في أيديهم جميعا بملحمة غزة . وفي المقابل أحيت هذه الملحمة، وهي في الحقيقة أمل واقعي ، قد وعدت به المقاومة الغزوية الباسلة الأمة العربية والإسلامية ،كي تتحرر من عقدة وهم الجيش الصهيوني الموصوف بالأسطوري الذي لا يهزم . ولقد باتت هزيمة هذا الجيش المنفوخ فيه نفخا إعلاميا مبالغا فيه ، تشكل إحراجا للجيوش العربية والإسلامية التي لا تقارن أعدادها، ولا عدتها ، وهي مجموعة بعدد المقاومين ، ولا بما في أيديهم من سلاح هم من صنعوا بعضه . ولقد صار الرأي العام العربي والإسلامي اليوم ، يتساءل : إذا كان هذا هو بلاء المقاومة الفلسطينية التي أذلت الجيش الصهيوني ، فكيف يكون بلاء الجيوش العربية والإسلامية إذا ما حذت حذوهت ؟ ومن يطرح هذا التساؤل ، ويغيب عن ذهنه أمران مهمان : أولهما اعتماد المقاومة، وتوكلها على الله عز وجل ، ثم استرخاص رجالها أرواحهم في سبيله ، ومن أجل تحرير المسجد الأقصى. وهذان الأمران هما سر ثباتهم وصمودهم ، وانتصارهم . والتعويل على عون الخالق سبحانه وتعالى والتوكل عليه ، واحتساب التضحية بالأرواح في سبيله، ومن أجل تحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، لا يتأتيان إلا بقوة إيمان راسخ بالله تعالى وبنصره الموعود لعباده المجاهدين الصابرين ، وهذا ما يعدمه من لا يضع في حسابه عند النزال سوى العدد والعدة فقط.
ومن المؤكد أن ما سيترتب عن ملحمة غزة على المدى البعيد ،هو هدم الأساطير والأوهام الصهيونية أسطورة أسطورة ، وهما وهما ، وأول ما هدم وهم البيت الإبراهيمي ، لأن بهدمه ، وانتكاس المراهنين عليه ، سيكون في العالم العربي والإسلامي واقع جديد غير الواقع الذي كان الغرب المتغطرس يريده ، ويعبر عنه بعبارة الشرق الأوسط الجديد ، والذي رفع له شعار البيت الإبراهيمي الذي بخّرته ملحمة غزة التي لها ما بعدها . ولله الأمر من قبل، ومن بعد ، ولا غالب إلا هو سبحانه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وسوم: العدد 1067