الإسلام منهج الحياة (1) مَصدَر الظلم في المناهج البشرية ومشروعاتها
أولاً: بَدهيّات ومفاهيم
1- مَنهج الحياة الإنسانية:
هو مجموعة الأسس والقوانين والتشريعات، التي تُنظِّم الجوانبَ المختلفة لحياة المجتمع الإنسانيّ، الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والأحوال الشخصية، والتربوية، والثقافية، و.. أي: إنّ منهج الحياة ينظم شؤون الناس في كل أمرٍ خاصٍ أو عامٍ من حياتهم!.. وإنّ أي منهجٍ يُسَنّ، لا يوضَع إلا لينفَّذ على الناس، ولِيُحمَلوا على تنفيذه، بقوّة القانون وسطوة السلطة التي وضعته!..
2- مَن الذي يَدَع الآخرين أن يتصرّفوا بكل أموره، وشؤونه، وحياته، وعلاقاته، ومَأكله، ومَشْربه، ومَلْبَسِهِ و..؟!..
- الجواب : هو العبد.. نعم العبد الطائع المنقاد، هو الذي يترك للآخرين التصرّف بشؤون حياته على ذلك النحو!..
ومن الأمور البديهية، أنّ لكلّ عبدٍ سيداً أو ربّاً.
3- وهل يمكن للبشر أن يكونوا أرباباً؟!.. وكيف يكون ذلك؟!..
- الجواب واضح من الآية الكريمة:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).. (آل عمران:64).
أي: إنّ البشر يمكن أن يصيروا أرباباً.. لكن كيف؟!..
- الجواب : بِسَنّهم تشريعاتٍ أو بوضعهم منهج الحياة للناس، وبفرض أوامرهم ومناهجهم ودساتيرهم الخاصة عليهم!..
4- النتيجة :
يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضهم الآخر، أو في ظلِّ وَضعِ بعضهم مناهج الحياة لبعضهم الآخر.. إلى فئتين:
أ- أرباب يُشرِّعون ويضعون منهج الحياة.
ب- وعبيد يُطيعون ويُنفِّذون ما يضعه الأرباب (أو واضعو منهج الحياة) لهم.
وهذا بالضبط ما جاء القرآن الكريم ليدحضه ويلغيه من أساسه، بقول الله عزّ وجلّ: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)!.. أي بالمعنى الحرفيّ:
(لا يُطع بعضنا بعضاً في معصية الله، بتنفيذ منهجٍ موضوعٍ بأيدي البشر، غير منهج الله ودستوره وشرعه الذي أراده لهم)!..
* * *
ثانياً: حول المفاهيم العقدية التي تعرضها الآية الكريمة
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).. (آل عمران:64).
تعرض لنا هذه الآية الكريمة جملةً من الأمور العَقَدية، ذات الأهمية البالغة في توضيح الخطوط الفاصلة بين الشرك والإيمان، وذلك بشكلٍ محدّد.. كما تفتح الطريق واسعاً، أمام فهم خطورة انجرار المسلمين وراء المشروعات الوضعية ومناهجها، ووراء المخطّطات الاستعمارية الحديثة، سواء أكان مَنشؤها الدول الاستعمارية الدولية أو الإقليمية الكبرى.. أم أنظمة الحكم التي لا تحكم بما أنزل الله عزّ وجلّ.
وبذلك، فإنّ هذه الآية العظيمة تعرض لنا المفاهيم الآتية:
1- مفهوم العبادة بشكلٍ عام، وعبادة الله عزّ وجلّ بخاصة.
2- تحريم إشراك غيره سبحانه وتعالى في العبادة.
3- مفهوم الربوبية، وتحريم اتخاذ غير الله عزّ وجلّ ربّاً أو إلهاً.
4- المفاصلة العَقدية الكاملة بين أهل الإسلام وأهل الشرك أو الكفر.
* * *
ثالثاً: مناقشة المفاهيم الأربعة
- العبادة: هي التوجّه إلى الله عزّ وجل بكل أمر، والخضوع إليه خضوعاً كاملاً، والتذلل إليه، مع إرفاق كل ذلك بمحبّته الكاملة سبحانه وتعالى.. وقد ورد في محكم التنـزيل قوله عزّ وجلّ:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل:36).
- والطاغوت: الوارد ذكره في الآية الكريمة الآنفة الذكر (.. وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ..)، هو كل ما يُعبَد من دون الله عزّ وجلّ، وهو الذي يصرف الناس عن طريق الخير، وهو كذلك، كل سلطةٍ أو قوّةٍ أو قيادةٍ تتمرّد على شرع الله ومَنهجه، ثم تحمل الناسَ على تنفيذ منهجٍ للحياة، تُشَرِّعه من عندها، وتضعه للناس بيدها وفق رؤيتها أو هواها أو مصلحتها.
- والربّ: الوارد ذكره في الآية: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)، هو المدبِّر والمشرِّع، والسيّد، وصاحب السلطة العليا، أي: مَن يضع الشرائع والدساتير للناس، لتكون لهم منهجاً لحياتهم.. أو: هو مَن يضع لهم (دِيناً) يعملون به ويحتكمون إلى ما جاء فيه.. في شؤون حياتهم كلها.
- والدِّين: هو الذي يحدّد النظام والمنهج الفكري والعملي للسلطة العليا، وهو الشرع والقانون، وهو الذي يحدّد الحاكمية وسلطات السلطة العليا، ويحدّد طريقة الإذعان لها، كما يحدّد الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. وفي هذا يقال مثلاً: (فلان دانَ الناسَ)، أي: قهرهم أو حملهم على الطاعة، كما يُقال: (دِنْتُهُ)، أي: سُسْتُهُ ومَلَكتُهُ.
ولمزيدٍ من توضيح الصورة في شرح المفاهيم الآنفة الذكر.. نوضّح معنى (الإله)، فنقول:
- الإله: هو الذي يتوجَّه إليه الناس بالعبادة والطاعة والخضوع التام.
* * *
رابعاً: مَن هو الذي يليق به أن يُنظّم حياة الناس
(أي: يضع لهم منهج حياتهم، ويُشرِف على تنفيذه)؟!..
للجواب على هذا السؤال، نعرض المثال التمهيديّ الآتي:
عندما يخطئ الطبيب في تشخيص مرض المريض، فيصف له علاجاً خاطئاً بناءً على تشخيصه الخاطئ.. فإنّ ذلك الخطأ سيؤدي إلى إحدى نتيجتين:
- إما استمرار علّة المريض وتفاقمها..
- أو موته!..
وفي الحالتين، فإنّ المريض يكون قد لحقه (ظلم) من قبل الطبيب، على الرغم من أنّ الطبيب في الأصل قد لا ينوي أن يظلمَ مريضَه، والظلم هنا لا يقع على المريض فحسب، بل يمكن أن يتأثر به أولاده الذين يعولهم، وزوجته، وربما أصحابه وأقاربه وهكذا ..!..
وبصورةٍ أخرى نقول:
لقد (أخطأ) الطبيب (حتى لو كان ذا نيـّةٍ حسنةٍ في سعيه الجادّ لمعالجة مريضه).. فنتج عن خطئه (ظلم)!.. وهذا يقودنا إلى القاعدة الآتية:
(الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم)!..
احفظوا هذه القاعدة، وانتقلوا معي إلى الفكرة الثانية:
كل مناهج الحياة توضع لتحقيق (سعادة) الإنسان (على افتراض أنه لا خلاف على النيّة الحسنة)، لذلك ينبغي لها ألا تكون ظالمةً في أي بندٍ من بنودها أو أي جزئيةٍ من جزئياتها، لأنّ وقوع الظلم لن يؤدي إلى سعادة الناس بأي حالٍ من الأحوال.. فإذا كان منهج الحياة ودستورها من وَضْعِ الإنسان نفسه، أي من وَضْع البشر، فإنها ستحتوي حتماً على الكثير من الأخطاء، لأنّ الإنسان (خَطّاء)، وبالتالي سيقع في موضع كل (خطأٍ) في ما يضعه الإنسان -عند التنفيذ- (ظلمٌ) على قدره وبمقداره، فيكثر الظلم بمقدار كثرة الأخطاء في منهج الحياة الموضوع.. لذلك ينبغي لمن يضع منهج الحياة للناس وينظّم شؤونهم، أن يكون مُنَـزّهاً من (الأخطاء)، فيكون بذلك مُنـزّهاً من (الظلم)، فتتحقق (سعادة) الإنسان!.. أي بمعنىً آخر:
هو مَن يملك أن يضع للناس منهجاً صحيحاً خالياً من الأخطاء، وصحّة المنهج شرط أساس هنا، فمن هو الذي يتصف بهذه الصفة العظيمة؟!..
- الجواب : هو الله عزّ وجلّ وحده، الذي لا يخطئ، فهو لا يظلم، فهو الوحيد القادر على تحقيق سعادة الإنسان.. والوحيد الذي يليق به أن يُنظّم حياة الناس الذين خلقهم وأراد لهم السعادة، وذلك بِوَضْعِ منهج الحياة الصحيح لهم، ثم بالإشراف على تنفيذه بشكلٍ صحيحٍ عادلٍ لائق، وفق منظومةٍ تشريعيةٍ شاملةٍ متكاملةٍ متوازنة!..
وغني عن الذكر، أنّ واضع المنهج أيضاً، ينبغي أن يكون عادلاً، وحكيماً، وخبيراً، وقادراً على محاسبة الناس مهما عَلَت رتبهم، وقادراً على الانتصار للمظلوم أو صاحب الحق حتى بعد موته أو موت ظالِمِه، لكي يتحقق العدل، فلا ينجو ظالم ولا يضيع حق مظلوم.. و.. فَمَن يتصف بهذه الصفات غير الله تبارك وتعالى؟!..
* * *
خامساً: النتيجة الأخيرة
كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة في أسُسِها التي تُبنى عليها، يضعها البشر الذين يُخطئون (حتى على افتراض حسن النية)، فهم بذلك يَظْلمون، وهم بذلك أيضاً يُصادِرون (سعادة) الإنسان، أو جزءاً منها!..
أي: إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..) .. هذا (الأساس) هو:
إنّ البشر هم الذين وضعوها!..
وسوم: العدد 1074