هل وصلت الحرب على غزة إلى نقطة اللاعودة؟

لما قُتل وائل بن ربيعة التغلبي المسمى بكليب على يد جساس بن مرة الشيباني البكري، نهض أخوه الشاعر والفارس العربي المعروف عدي بن ربيعة الملقب بأبي ليلى المهلهل، أو الزير سالم للثأر لأخيه، وفشلت جهود الوسطاء في إقناعه بقبول الصلح، إذ اشترط إحياء أخيه القتيل. مثل هذا الشرط التعجيزي لأحد طرفي الحرب، هو بمثابة إعلان الاستمرار في الحرب كخيار أوحد، لتحقيق سلام على مبدأ الإفناء، سلام المنتصر مع الأموات والأرض المحروقة.

حتما لا يرقى مجرم الحرب الصهيوني نتنياهو لتشبيهه بفرسان العرب في شهامتهم ومروءتهم ونبلهم وشجاعتهم، ولا نستطيع حتى أن نشبهه وهو الظالم الجائر بالزير سالم، الذي كان له حق الثأر، لكنه يسير هنا على المبدأ ذاته: الشرط التعجيزي.

نتنياهو أجهض كل جهود الوسطاء في التوصل إلى مفاوضات، تنتهي بها الحرب، وكلما أبدت حماس مرونة في المقترحات المطروحة، قابلها هو بالتعس والرفض، ثم يقدم هو مقترحات تعجيزية، كان آخرها ما ذكره مسؤول إسرائيلي كبير إلى موقع أكسيوس الأمريكي، من تقديم الاحتلال السبت مقترحا للولايات المتحدة بشأن صفقة تبادل الأسرى، ووقف إطلاق النار في غزة، وذلك قبل اجتماع الأحد في روما بين مدير الموساد ديفيد برنياع ومدير وكالة المخابرات المركزية بيل بيرنز ورئيس وزراء قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل لمناقشة الصفقة. تضمن المقترح الجديد لنتنياهو بعض الشروط التعجيزية كالعادة، من بينها إنشاء آلية لمراقبة حركة الأسلحة والمسلحين الفلسطينيين من جنوب غزة إلى شمالها، والحفاظ على السيطرة الإسرائيلية على حدود غزة، والتزام أمريكا بالسماح لحكومة الاحتلال بالعودة إلى القتال في القطاع بعد المرحلة الأولى من الصفقة، حال عدم نجاح المفاوضات الخاصة بالمراحل اللاحقة. نتنياهو يعلم يقينا أن حماس لن توافق على شروطه، فالشرط الأول يمثل ضربة للمقاومة في الصميم، والشرط الثاني يعني مزيدا من حصار وعزل غزة، والحفاظ على تموضع الاحتلال فيها، والأخير يجعل من معاودة الاحتلال للحرب أمرا مجزوما به، مع بزوغ أي خلاف يمكن للاحتلال اختلاقه بكل سهولة. ووصفها بأنها تعجيزية ليس رأيا تفردت به كاتبة هذه السطور، بل هو ذاته ما نقلته صحيفة «هآرتس» العبرية مساء الجمعة، عن أحد كبار المفاوضين الإسرائيليين، الذي حذر من أن مطالب نتنياهو الجديدة تشكل ضربة قاضية للمفاوضات، وأن نتنياهو يقود عن علم إلى أزمة في المحادثات مع حماس لتحسين الموقف، وأنها مخاطرة غير محسوبة تشكل خطرا على حياة الأسرى الإسرائيليين في غزة. نتنياهو يهدف من هذه الشروط التعجيزية إلى أن يردّ الكرة إلى ملعب حماس، لتبدو وكأنها هي من ترفض السلام، ليستمر في حربه القذرة على القطاع. استمرار الحرب هي طوق النجاة لنتنياهو الذي أوصل شعبه وجيشه إلى أكبر تهديد وجودي تعرضت له الدولة اللقيطة منذ 1948، مغتنما قوة اليمين المتطرف، الذي يقف في ظهره ويدعم توجهاته النازية، مستثمرا كذلك الغطاء والدعم الغربي الأمريكي. السلام الذي ينشده نتنياهو هو أن يربح كل شيء دون التنازل عن أي شيء، هو يريد القضاء التام على المقاومة، وإعادة جميع الأسرى، وإبادة القطاع بأكمله حتى يغدو غير صالح للحياة، ذلك هو السلام الذي ينشده نتنياهو. لا يلوح في الأفق ما يشير إلى أن نتنياهو يمكن أن يذعن لوقف القتال وفقا لشروط عادلة، لأنه يعلم يقينا ما ينتظره من محاسبة بعد الحرب، لذا لا بديل له عن تصفية القضية الفلسطينية، ليمحو كل ما استوجب تلك المحاسبة، لأن المنتصرين لا يُحاسَبون.

السلام الذي ينشده نتنياهو هو أن يربح كل شيء دون التنازل عن أي شيء، هو يريد القضاء التام على المقاومة، وإعادة الأسرى، وإبادة القطاع ذلك هو السلام الذي ينشده

في الجهة المقابلة، المقاومة لن تقبل بأي حال شرط عدم الوقف الكامل لإطلاق النار على القطاع، ولن تقبل بأي حال نزع السلاح عن المقاومة، وهو رفض منطقي طبيعي، فالمعركة التي انطلقت لإحياء القضية الفلسطينية من جديد، وفتح الطريق أمام الفلسطينيين لخوض معركة شاملة للتحرير، لم تكن لتتوقف على شروط نتنياهو الجائرة، بعد كل هذه التضحيات التي قدمها شعب غزة ومقاومته. تأسيسا على ذلك، نستطيع القول إن هذه الحرب قد وصلت إلى نقطة اللاعودة، من المستبعد فيها إبرام أي صفقة لوقف إطلاق النار وفقا لمفاوضات عادلة. طول أمد الحرب بالنسبة للكيان الإسرائيلي يكبده خسائر جسيمة، لكن قوة الإسناد لديه هائلة، يمكن أن تعوضه بالمال والسلاح والخبرات، وأعتقد أن تدمير الأعداد الهائلة للقطع العسكرية الإسرائيلية على يد المقاومة لا تمثل خطرا كبيرا على العدو الصهيوني، وإن أبدى ذلك بما يمكن تفسيره على أنه ابتزاز لأمريكا من أجل مزيد من الدعم العسكري. لكن أخطر ما يمكن أن تواجهه إسرائيل هو تزايد الخسائر في الأرواح، لأنه يمثل ضغطا كبيرا من الداخل الإسرائيلي على نتنياهو، وربما تضع المقاومة الأولوية لعمليات القنص والتفخيخ ومهاجمة القوات الراجلة لهذا الغرض، لتلحق بالعدو أكبر قدر من الخسائر البشرية. طول أمد القتال يستنزف قدرات المقاومة لا شك ويضغط عليها بكثرة الضحايا من سكان القطاع، وفي الوقت نفسه ليست قوة الإسناد لديها بالأداء المطلوب، فليست عمليات الحوثي وحزب الله من القوة بحيث تخفف الضغط عن القطاع ومقاومته، لكن في الوقت نفسه يعزز طول أمد القتال من فرصة إسقاط نتنياهو، بفعل ضغط المعارضة والجماهير الإسرائيلية الغاضبة بسبب تفريط نتنياهو في أبنائهم الأسرى. يبدو أن الحرب لن تنتهي قريبا، بعد أن تخلت الأمة عن دورها لنصرة القضية الفلسطينية، وارتضت بأن تكون في موضع المراقب، وتركت غزة تدفع الثمن وحدها في حرب نابت فيها عن الأمة، لكن مما لا شك فيه أن الحرب وإن طال زمنها سوف تحدث تغييرات كبيرة في الشعوب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 1089