استذكار ألكسندر كوبرن: في غزّة
في 36 فصلاً على امتداد 420 صفحة، صدر مؤخراً الكتاب الموسوعي «دليل راوتلدج إلى حرّية التعبير والرقابة»، بتحرير جون ستيل وجوليان بيتلي؛ باللغة الإنكليزية، وعن دار النشر البريطانية/ العالمية العريقة. ورغم عشرات المؤلفات التي تصدر سنوياً حول هذَين الموضوعين الواردَين في العنوان، وحول تشعباتهما الكثيرة المتشابكة؛ فإنّ فصول هذا العمل تحديداً، وما تناولت من مسائل تخصّ السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والثقافة والإيديولوجيا، فضلاً عن الأمن والدفاع والاستخبار، تفضي إلى حصيلة مدهشة لجهة اتصالها بما تمارسه ديمقراطيات غربية من تضييق على الرأي العام، ورقابة مباشرة سافرة، بصدد حرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزّة خصوصاً؛ وكذلك أيّ، وعملياً كلّ حراك تضامني مع الشعب الفلسطيني ينتهي موضوعياً إلى إدانة سلوك دولة الاحتلال.
وإلى جانب الحرص على الإشارة إلى الكتاب وإطراء محتوياته التي تغطي ميادين ذات ضرورة قصوى وفي توقيت حاسم، فإنّ هذه السطور تبتهج على نحو خاصّ بما يُفرده المشاركون في الدليل من إقرار بفضل وإنصافٍ لجهود عدد من روّاد الدفاع عن حرّيات التعبير ومناهضة الرقابة في قلب تلك الديمقراطيات الغربية، وفي مواجهة أعتى مؤسسات تصنيع الرأي العام العملاقة المهيمنة النافذة. وبين هؤلاء الأيرلندي ــ الأمريكي ألكسندر كوبرن Cockburn (1941 ــ 2012)، أحد الضمائر الأشجع والأنقى والأصلب خلال خمسة عقود خلت، على الأقلّ.
ومن المعروف أنّ كوبرن أقام في الولايات المتحدة منذ سنة 1972 حتى وفاته، فواظب على تشريح أكاذيب «الحلم الأمريكي» وأضاليله وجرائمه بدأب وعناد ويقظة وسخط، وبعمق قلّما نجد له مثيلاً في الأساليب الصحافية السائدة، المنحنية إجمالاً لنموذج الـ CNN والـ «نيويورك تايمز». ولعلّ ما سلّحه بقدرات خاصة في هذا السبيل كان أنه سليل بيت سياسي ــ فكري معارض، مكّنه من أن يتحوّل إلى ضمير قلق أبداً، منشقّ عن المألوف والروتيني والتنميطي؛ يجوس ليل الظاهرة (سياسية كانت أم اجتماعية أم أدبية، جليلة أم تافهة، محلية أم كونية)، بحثاً عن الخفيّ والمخفيّ، كي يكشف دائماً عن صحّة القاعدة الذهبية: ما خفي كان أعظم!
عنوان كتابه/ الظاهرة، «العداء للسامية: كلّ ما أردتَ أن تعرفه عن العداء للسامية ولكنك شعرتَ بأنكَ أكثر إحساساً بالذنب من أن تطرح السؤال»، لم يكن طويلاً من غير تصميم قصدي مسبق؛ إذْ دشّن ما سعى إليه كوبرن من خلخلة الركود المتعمّد غالباً أو التلقائي نادراً، حيال فتح ملفات العداء للسامية كما يتوجب أن تُفتح: علانية، بلا نواهٍ أو محرّمات. ومع جيفري سانت كلير، حرّر الكتاب اللاحق «سياسة العداء للسامية»، 2003، فكان بمثابة الحاضنة الأبكر لأفكار نورمان فنكلستين المناهضة لما سيطلق عليه الأخير صفة «صناعة الهولوكوست».
وفي التعليق على العدوان الإسرائيلي ضدّ القطاع مطلع 2009، كتب كوبرن: «شبكات التلفزة تخصص وقت بثّ غير محدود لأبواقها، والرسالة هي أنّ إسرائيل مخوّلة بكلّ فعل غير مشروع في قاموس القانون الدولي، من أعمال العنف ضدّ السكان المدنيين (أهل غزّة، المعرّضين للتجويع تحت حصار دائم)، إلى القرصنة في أعالي البحار، إلى الهجمات المميتة للكوماندوز الإسرائيلي ضدّ أسطول المساعدات. القاعدة الناظمة في تسونامي الهراء هذا هو دفع المشاهدين إلى التفكير بأنّ إسرائيل تمتلك الحقّ والواجب في أن تتصرف مثل كلب الإنسانية المسعور».
من جانب آخر، كان كوبرن هو الذي ذكّر العالم بأسره أن ونستون شرشل، البطل القومي البريطاني وحامل جائزة نوبل، هو أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة، وتجريبها على بدو العراق في الجنوب تحت الذريعة الصريحة التالية: «الأسلحة الكيماوية تمثّل تطبيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أي ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود».
وفي سنة 1995 كان كوبرن قد نشر عملاً ضخماً، برهن مجدداً على أنه الضمير القلق واليقظ في آن، المتوثب أبداً إلى كشف الأستار والأغوار، والمؤهّل المدرّب على الغوص في أعماق الظاهرات. ففي كتابه ذاك «العصر الذهبي كامنٌ فينا: رحلات ومواجهات»، أماط كوبرن اللثام عن مزيد من تجليات «الحلم الأمريكي»: في رمزية الكوارث الطبيعية، وفي مهازل لجان الكونغرس، وفي الصراع الزائف الدائر بين نزعة نيو ـ ليبرالية شبيهة بأختها النيو ـ محافظة، وفي حرائق مجمّع واكو ومذبحة «الداوديين»، وزيف الضمير الأمريكي الطهوري، وفي ظواهر أخري تخفي ما هو أعظم.
وفي أعماله السابقة واللاحقة، كما في مقالاته الساخنة الفضّاحة التي كتبها بانتظام في مجلة The Nation والموقع الإلكتروني CounterPunch، ظلّ ألكسندر كوبرن هو «ألكسندر اللامع» كما وصفه إدوارد سعيد ذات يوم. ويبقى اليوم أيضاً، ألكسندر اللاذع والكشّاف والرائع.
وإذْ تستذكره هذه السطور في مناسبة موسوعة راوتلدج حول حرّيات التعبير والرقابة، فلأنه أيضاً جدير بالاستذكار على خلفيات أخرى عديدة تبدأ من أخلاقيات (أو انعدامها تماماً لدى) تغطيات حرب الإبادة الإسرائيلية؛ وتمرّ بإخراس الأصوات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي في قلب المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي، ولا تنتهي عند قمع الطلاب في شتى الجامعات الأمريكية.
وسوم: العدد 1094