البيجر المتفجر: تجربة مصغرة لكارثة قادمة؟
ما الذي حدث في لبنان ظهيرة تفجير أجهزة النداء الآلي بصورة جماعية أدت إلى خروج آلاف من منتمي حزب الله ومناصريه من الخدمة، في وقت تقترب فيه المعركة على الحدود الجنوبية بعد تصاعد التحرشات الإسرائيلية؟ قبل المباشرة في الإجابة، واستنادا إلى معلومات أو تكهنات، من المناسب الوقوف عند حقيقة بسيطة وهي أن أحدا حتى اليوم لم يقدم إجابة عن العديد من الأسئلة المعقدة التي ارتبطت باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وسلسلة من الانتحارات الغامضة لشخصيات سورية لعبت أدوارا في لبنان أو حوله، وإلى اليوم، لا أحد يمكنه الجزم بصحة ما أظهرته بعض التسجيلات المرئية لصاروخ يستهدف مخازن الأمونيا في مرفأ بيروت. فلماذا نتوقع أن تصدر رواية معقولة وكاملة تصف يوم الهول الذي عاشه لبنان مع التساقط المتزامن للآلاف ممن حملوا الأجهزة المتفجرة؟
الحدث في لبنان عالمي وتاريخي، ونقلة خرافية في مفهوم الحرب، لو كان هجوما سيبرانيا خالصا، إذ ظهر الحزب الذي تخلى عن تكنولوجيا الهواتف الخلوية في بعض المستويات ليعود إلى تكنولوجيا شبه منقرضة، كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولكن الساعات التالية للضربة الواسعة التي أدت إلى وفيات وإصابات بليغة في صفوف الحزب، أظهرت أن الأمر يتضمن مؤامرة واسعة ومعقدة.
مستخدمو أجهزة البيجر هم غالبا من مقاتلي الحزب، ووجود الجهاز معهم يهدف إلى حشدهم بطريقة منظمة للانخراط في مهام قتالية أو مساندة. فلا يوجد ما يدعو لاستخدام التكنولوجيا القديمة إلا للإفلات من التتبع الخارجي، ولتخيل فداحة الخسارة، فإن الإصابات البشرية للحزب في ضربة البيجر في السابع عشر من الشهر الجاري لم تكن بعيدة عن خسائره في حرب تموز/يوليو 2006. بذلك، تتمكن (إسرائيل) من إلحاق هذا العدد من الإصابات، بعضها أدى إلى العطب الكلي، من غير تكلفة تُذكر تقريبا، فهي كانت ستحتاج لتحقيق ذلك في اشتباكات عسكرية على الأرض إلى خسائر بشرية في حدود عشرات الجنود، ومصاريف طائلة قد تصل إلى مليارات الدولارات.
لإسرائيل شهية مفتوحة لإطالة الحرب وتوسيعها إلى الحدود القصوى الممكنة، وهذا يرتبط بالتشابك بين المصالح الشخصية لنتنياهو والتيار اليميني المتطرف في إسرائيل
التوقيت لا يعمل في مصلحة الحزب، وعلى الرغم من عدم وجود تقديرات واضحة لقوته القتالية، أو لمستويات المقاتلين بين النخبويين والعاديين، فإن الضربة تعني عدم قدرة الحزب على حشد نسبة كبيرة من رجاله في لحظة حرجة، يمكن أن تشهد بداية حرب شاملة. ستكون سيطرة إسرائيل على أجزاء من لبنان أمرا محتملا، إلى جانب تدمير البنى التحتية للإمداد تجاه الجنوب، ما يعني وجود منطقة محتلة وأخرى محترقة وثالثة عاجزة. فهل يمكن أن تحقق إسرائيل ذلك؟ بعد انتهاء حرب يوليو، تحدث أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في أحد اللقاءات التلفزيونية، مبديا ندمه على عملية الأسر التي فجرت الحرب. ومع إجادته للحرب النفسية على الجانب الإسرائيلي وتلاعبه المتقن بمعطيات العلاقات داخل المجتمع الإسرائيلي، وتقديرها للتكلفة الاستنزافية التي يشكلها الحزب لإسرائيل، يدرك الأمين العام أن التورط في حرب شاملة، تستخدم فيها إسرائيل ترسانة أسلحة متقدمة، قد يحول لبنان إلى أثر بعد عين، وهو التعبير المجازي الذي لا يمكن تجنبه، إلى جانب تعبير آخر: إعادته إلى العصور الوسطى.
غزة تشبه حبة البندق القاسية، التي يمكن أن تُلحق ضررا بأسنان آلة الحرب والتوحش الإسرائيلية، ولبنان في المقابل تفاحة تحب إسرائيل أن تقضمها. المسألة لا تتعلق بطبيعة مقاتلي حماس أو حزب الله، أو التسليح المتوفر، بل تتعلق بطبيعة البنية السياسية والاجتماعية المتباينة بين القطاع ولبنان، وقدرة القوى الفاعلة عسكريا وميدانيا على تحقيق السيطرة، بالإضافة إلى طبيعة الأرض ومواصفات فكرة التحصن والتخندق، وكلها عوامل تصب في مصلحة غزة، التي أصبحت مدينة من مستويين أو طابقين فعليا. في جميع الأحوال، لإسرائيل شهية مفتوحة لإطالة الحرب وتوسيعها إلى الحدود القصوى الممكنة، بل إضافة جبهات جديدة وغير متوقعة، وهذا يرتبط بالتشابك بين المصالح الشخصية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والتيار اليميني المتطرف في إسرائيل. يخلط نتنياهو الأوراق في استراتيجيته للإفلات من المحاسبة التقليدية، متجنبا مصير رئيس الوزراء السابق أولمرت، الذي يجلس الآن ذليلا في أحد السجون بعد ارتكابه أخطاء أقل بكثير من تلك التي اقترفها نتنياهو، يقدم التنازلات لليمين الذي يسعى للخروج من المستوطنة ليكون صاحب الكلمة النهائية في دولة تعرف أنها أطلقت وعودا كثيرة لقيادة المنطقة، في وقت كانت تفتقر فيه للحد الأدنى من التماسك الضروري لتحقيق مشروع طموح وعبثي في الوقت ذاته.
الضربة الموجعة تسببت في ارتباك الحزب، فمن ناحية، الخسارة فادحة للغاية، ومن ناحية أخرى، على الحزب أن يجري غربلة في صفوفه في توقيت غير مناسب، قد يشكل حالة من الفوضى، في وقت تبدو فيه الحاجة إلى كل تراص ممكن على مستوى الحزب، بوصفه كيانا داخل لبنان، وعلى مستوى لبنان ككل.
أحداث البيجر تصلح كمقدمة لأحد أفلام نهاية العالم والكوارث الكبرى، وإسرائيل تتخطى توصيفات الدولة الإجرامية وممارسات العصابات لتصبح ذلك الشرير المتوحش الذي تقدمه أفلام مافريك، مقدمة فصلا لم يخطر حتى في ذهن كريستوفر نولان، الذي قدّم النسخة التاريخية الأفضل من الجوكر، الشرير الذي لا يحب حتى أن يبرر شروره في سلسلة أفلام باتمان.
وسوم: العدد 1096