مصارحة عن العمليات الانتحارية / الاستشهادية في سوريا

مصارحة عن

العمليات الانتحارية / الاستشهادية في سوريا

د. حمزة رستناوي

[email protected]

من المُؤكد في سوريا الآن و منذ بداية النصف الثاني للعام الجاري انتشار معيّن للعمليات التي يقوم فيها شخص يقود سيارة مفخَّخة بتفجير نفسه و السيارة مستهدفاً نقطة أو مقر عسكري لجيش السلطة الأسدية , و يوجد العديد من التسجيلات المرئية توثق ذلك في ريف حماة و ادلب و حلب على الأقل , و لأشخاص سوريين من السكان المحليين لأبناء المنطقة نفسها.

*

عبر التسجيلات المرئية المعروضة و الأخبار المتداولة على صفحات التنسيقيات غالبا ما يتم التحفّظ على هوية منفذي هذه العلميات عبر التشويش على صورة الوجه أو استخدام ألقاب , مما يعكس حجم القمع و البطش الذي يعاني الشعب السوري في هذه الظروف خوفا من انتقام السلطة من أهالي منفذي هذه العمليات , و ظاهرة التستّر هذه أكثر انتشارا في سوريا مقارنة مع المثال الفلسطيني أو العراقي ..الخ.

*

منفذّي هذه العمليات معظمهم ما دون سنّ العشرين أو أكثر منه بقليل , مما يطرح تساؤلات تتعلق بإساءة توظيف الحماس الثوري لهؤلاء المراهقين / الشباب , و كذلك غلبة التفكير العاطفي , و قصور الوعي السياسي و النقدي لديهم , بحيث يتم إغوائهم و تشجيعهم على المضي في هذا الطريق الغير مجدي كما سأعرض .

*

رغم ادراكنا أن الطبيعة الاستبدادية المتوحشة للسلطة الأسدية هي المسئول الأول عن النفق المظلم و ما آلت اليه البلاد , و لكن هذا لا يبرر الأخطاء التي قد يقوم بها الافراد و الجماعات المنضوية تحت إطار الثورة السورية.

فموقف و سلوك القوى الثوريّة يجب أن يكون لغرض اضعاف و اسقاط النظام الاستبدادي , و كذلك بما يمهّد لبديل وطني سوري ديمقراطي , بما يضمن استقراراً و أمناً حقيقا.

*

من هنا يحق لنا التساؤل هل انتشار العمليات الانتحارية / الاستشهادية يخدم هدف اسقاط النظام؟

إجابتي : بالتأكيد إنّ هذه العلميات تساهم في اضعاف الروح المعنوية – التي هي اساسا ضعيفة - لجنود و مرتزقة السلطة , و تساهم في تعطيل قدرة النظام الاستبدادي على فرض هيمنته في الجغرافيا الثائرة , و لكنها لن تغيّر بشكل ملموس في ميزان القوى على الارض بين جيش السلطة الاسدية و القوى المسلحة للثورة السوريّة , فالحاجز العسكري الذي يقوم الانتحاري / الاستشهادي بتدميره غالبا ما يمكن تدميره بوسائل عسكرية أخرى , و عادة ما يقوم جيش السلطة الاسديّه بإعادة تنصيب الحاجز أو نقله لمناطق مجاورة مثلاً , و السلطة الاسدية الحاكمة لا تكترث كثيرا بعدد القتلى في صفوف جيشها حتى تضرُّها الخسائر البشرية تحت ضغط الرأي العام للانسحاب , على غرار اسرائيل في اجتياحها لجنوب لبنان , أو نزول قوات المارنز في لبنان في الثمانينات , أو حتّى الاحتلال الامريكي لأفغانستان و العراق مثلا.

إن اسقاط النظام عسكريا قد يكون مُتاح فقط في حال تقديم دعم دولي أو إقليمي وازن للجيش الحر بما يشمل مناطق عازلة أو حظر جوي مثلا , أو عند حدوث انشقاقات عاموديه في المؤسسة العسكرية للنظام , أو عند على الأقل عند توفر دعم لوجستي عسكري مستمر بأسلحة نوعية , تمكّن السوريين من اسقاط النظام الاسدي عبر حرب تحرير شعبية , أو عقب انهيار حاد في معنويات جيش السلطة الأسدية لسبب أو آخر.

*

بمتابعة الاشرطة المتوفرة و التسجيلات الصوتية لمنفذي هذه العلميات يتبين للمراقب حضور الخطاب الجهادي التكفيري على طريقة تنظيم القاعدة (أناشيد جهادية مثلا) مع ضعف للخطاب التحريري الوطني , المَعْني أساسا ببناء سوريا كوطن حر كريم.

لذلك ان احتمالات اساءة استخدام هذه العمليات من قبل المخطِطين لها أمر وارد بحيث يتم اختزال السلطة الاسدية الحاكمة في لفظ كافر أو نصري ..الخ

و بحيث تصبح أداة ارهاب موجّهة للقوى السياسية و الاجتماعية المخالفة لهم في الموقف , و النموذج العراقي يشكّل قدوة سيئة في ذلك , فما قتلته هذه العلميات هناك من العراقيين أضعاف ما قتلته من الامريكان مثلا , و النظام السوري نفسه كان شريكا و داعما للقاعدة في العراق و كان يستخدمهم لخدمة اغراضه السياسية.

*

إن انتشار العمليات الانتحارية / الاستشهادية في سوريا يشكّل علامة خوف و ريبة للقوى الاقليمية و الدولية الراغبة في دعم الثورة و الجيش الحر حاضرا و مستقبلا , فلن تدعم تركيا او الخليج او الغرب قوى سياسية تؤمن بهكذا نمط من العمليات , حيث أن هذه العمليات بمثابة علامة واسمه على أدلجة و أسلمة الحراك الثوري المسلح ضد السلطة بما يخدم أولاً و أخيرا نظام السلطة الاسدية نفسها , و هو ما كان يسعى إليه هذا النظام منذ بدء الثورة السورية , فهو كان و ما يزال يخاطب الغرب بأنه يقاتل إرهابيين من تنظيم القاعدة , و كان و ما يزال يسوّق نفسه كمقاتل في خندق العالم المتحضّر ضد تنظيم القاعدة و الجهاديين ممن يسعون لتشكيل امارة طالبانية في سوريا؟!!

و هذا لا يخدم الغرض الاساس و الحيوي للثورة في بناء سوريا دولة مدنية ديمقراطية حديثة بعيدة عن التطرف و الاقصاء.

*

قد يلتمس المرء عذراً للشباب الذين يقومون بهذه العلميات لكونهم منساقين تحت وطأة الظروف القمع الوحشي من قبل النظام و الرغبة في الانتقام ممن قتلوا و اغتصبوا أعراضهم و نهبوا ممتلكاتهم , و قد يحكمهم منطق رد الفعل و انسداد الافق السياسي , و لكن كل اللوم و المسؤولية على من يستخدمونهم و يحرضونهم و يخططون لهكذا نمط من العلميات و التفكير التقويضي الغير مُنتج , و إن فداحة ظلم النظام الاسدي رغم كونها المسئول الاساس عما آلت اليه سوريا , و لكن الرد على سياساته التدميرية للمجتمع و الوطن السوري يجب ان يكون محكومة في اطار و عي لمشروع سياسي حيوي.

*

العمليات الانتحارية / الاستشهادية كأي حدث أو واقعة يعرض لمصالح أكثر أو أقل حيويّة ربطاً بسياقات و ظروف الحدث , فالعملية الانتحارية / الاستشهاديّة تستهدف موكب مثلا لهرم السلطة أو رموز فاعلين في نظام السلطة تكون أكثر صلاحية و حيوية بالمقارنة من عملية انتحارية / استشهاديه تستهدف حاجز أو نقطة عسكرية في ريف إدلب أو حماة أو حلب مثلا.

*

تجنّبتُ قاصدا مناقشة موضوع العمليات الانتحارية / الاستشهادية من وجهة نظر عقائدية فقهية , لكونه موضوع جدلي ملتبس قابل لآراء مختلفة , و كلٌّ يستشهد بنصوص قرآنية أو أحاديث – غير محكمة الدلالة - بما يدعم وجهة نظره ناسبا إيّاها إلى الشارع.

و أفضّل في هكذا مواضيع اشكالية الاسترشاد بروح الاسلام و مقاصد الشريعة الاسلامية .

*

" المتطرّفون الذين لا يشعرون بتطرّفهم , ينظرون إلى الوسط الذهبي على أساس كونه رذيلة كبرى , و يتقاذفون الانسان المعتدل فيما بينهم كما يتقاذفون الكُرة , فالجبان يعتبر الشجاعة تهوّرا و اندفاعا , كما يعتبر المتهوّر الشجاعة جُبنا و ضعفا"

أرسطو – عن كتاب : قصة الفلسفة ص 88

*

 ما عرضته أعلاه في متن المقال يدين و يفسّر قصور تبنّي العمليات الانتحارية الاستشهادية كثقافة أو سياسة ممنهجة في القتال ضد أي سلطة محتلّة أو مستبدّة , لكون الحياة هي الأصل و الموت طارئ ( و هذا لا يتنافي مع الايمان بالله و اليوم الآخر بأي حال من الاحوال )

و لكون الحرية و التحرر من القصور هو الهدف و المآل , و ليس الهدف قتل الظالم و الانتقام منه.

و لكوننا - نحن البشر - نتقبّل الموت كمخاطر مُحتَمَلة , و لكن ليس كحتميّة و مآل قصدي .

يا صديقي الانتحاري / الاستشهادي : تذكّر أن لك أمّا أو زوجة أو حبيبة أو شقيقة أو أصدقاء ينتظرون / يأملون برجوعك سالماً مُكلّلاً بالغار من ساحة الوغى .

سلامة يكلّلها نصر قريب بانت تباشيره بإذن الله

على خُطى حرّية الانسان , آملين بسوريا وطن حُرٍّ كريم.