فتن العلماء

حسام مقلد *

[email protected]

لاشك أن الربيع العربي قد حرك كثيرا من المياه الراكدة في حياتنا، وأحدث تغييرات كبيرة وعميقة لدى أصحاب مختلف التوجهات الفكرية، وكان من أبرز نتائج الثورات العربية هذا الصخب الفكري والديني والسياسي والاجتماعي الحاصل حاليا، ودخول معظم فصائل التيار السلفي ـ في مصر تحديدا ـ معترك السياسة، ورافق ذلك وجود مشاكسات حادة وصلت لدرجة الصراعات العنيفة بين العلمانيين والليبراليين من جهة وبين الإسلاميين من جهة أخرى، بل وصل الحراك إلى حد تصادم التيارات الإسلامية أحيانا، وهذا كله أمر متوقع ومقبول، بل وصحي وإيجابي أيضا، بشرط عدم تجاوز حدود الأدب واللياقة، والتزام الجميع بآداب الاختلاف، والحرص على الحوار الراقي والنقد البناء، دون الإساءة لأحد أو التشكيك في نواياه، أو شخصنة الخلافات في وجهات النظر.

ولا يخفى على أحد أن هناك جهات كثيرة ـ داخلية وخارجية... ـ تسعى بمنتهى الخبث والدهاء إلى إثارة الفتن والوقيعة بين الناس في مجتمعاتنا العربية، وجرهم إلى صراعات ونزاعات وحروب إعلامية (إن لم تكن حروبا حقيقية...!!) تبدد طاقاتهم، وتهدر قواهم، وتضيِّع جهودهم وتنسفها، لكن للأسف الشديد يبدو أن معظم العلماء والمشايخ والمفكرين لا يعيرون لذلك انتباها، ولا يكترثون أننا نعيش في زمن الفضائيات وعصر الإعلام الجديد الذي يرصد آراءهم وأقوالهم وينقلها للجمهور والعامة في كل مكان، ومن ثم نرى أغلبهم لا يبالون بالآثار السلبية بالغة السوء التي تنجم عن تصريحاتهم العلنية، ومن ذلك مثلا هذه العناوين:

"الشيخ السديس إمام المسجد الحرام يُحمِّل الشيخ القرضاوي دماء عشرات آلاف الليبيين"!!

"الشيخ الرضواني يكشف الشيخين حسان ويعقوب"!!

"الشيخ وجدي غنيم يرد على الشيخ حسان"!!

وقطعا من حق أصحاب جميع الرؤى والقناعات المختلفة أن يعبروا عن آرائهم بكل حرية، لكن ليس من حق أي أحد أن يطعن في الآخرين، أو يشوِّه صورتهم، ويتهم نواياهم، ومن المحزن حقا أن يخرج علينا كل يوم شيخ من المشايخ ليسفِّه آراء علماء آخرين وينتقد مواقفهم ويجرِّحهم بكل قسوة لمجرد أنه يختلف معهم، ورحم الله الإمام مالك حين قال:"كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صاحب هذا القبر"وهو يشير إلى قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبون شاسع بين النقد البنَّاء الهادف وبين إثارة الفتن وشن الهجوم على المخالفين في الرأي، ومن العبث أن نرى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء هم من يثير هذه البلبلة في نفوس الناس بدلا من إرشادهم إلى طريق الحق والصواب!!

وطبيعي جدا أن يكون للعلماء مشارب متنوعة، ومنازع شتى، وتوجهات متباينة, لكن ليس مقبولا أبدا أن نراهم متى اتفقت آراؤهم تحابوا وتناصروا وأسرفوا في مدح بعضهم بعضا, ومتى اختلفت توجهاتهم تقاطعوا وتدابروا، بل تناحروا وتراموا بالنبال كما نشهد الآن! فأين الحب في الله؟! أين الإخلاص والتناصح والإنصاف؟!

ولم تزل قلَّة الإنصاف قاطعة                 بين الرِّجال وإن كانوا ذوي رحمِ!!

ولا يضير العالم أبدًا أن يخطئ فكل بني آدم خطاء، إنما يضيره ويضير أمتنا بشدة هذه الفتن المدمرة التي يثيرها تناحر العلماء بين صفوف العامة؛ فهي تهز ثقة الناس فيهم، وتزعزع القناعات الإيمانية ذاتها في النفوس، وليت علماءنا الأجلاء يركزون على مقاصد الشريعة وغاياتها الكبرى، ليتهم يعملون بكل طاقتهم لخدمة الحق ونصرة الدين، وليكن شعارنا جميعا "رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ" [الأعراف:89] "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر:10].

                

 * كاتب إسلامي مصري