هل حقيقية علينا أن نخاف من الإسلاميين في سورية
هل حقيقية علينا أن نخاف من الإسلاميين في سورية؟
محي الدين قصار
اقتصادي واكاديمي سوري
شيكاغو
تقف أدوات التحليل السياسي مرتبكة أمام "الإسلام السياسي" وهي تحاول وضع إطار "عقلاني" يساعد على إدراك هذه الظاهرة، وتأتي الممارسة العملية لتجعل العبارة الأكثر ترددا على لسان الجميع "الإسلاميون يرهبون الدنيا والجميع يخشى وصولهم للحكم" ويتم عن طريق أمثال هذه العبارة مصحوبة بالعجز البنيوي عن ادراك الظاهرة نشر الرعب في صفوف الجميع من العلويين والإسماعيليين والدروز والمسحيين وغيرهم، بل أن هذا الرعب يتجاوز الشروخات الدينية والمذهبية ليصل إلى الشُعَب المناطقية والحزبية وغيرها. ويلعب النظام الدكتاتوري اللعبه نفسها برسم صور التهديد للمجموع من المجموع الأكبر، حتى باتت الأغلبية ما هي إلا مجرد أقلية ذات عدد كبير.
واعتقد أننا أمام عنصرين من عناصر الرؤية القاصرة ينبع من أصلهما هذا السؤال؛ العنصر الأول هو رؤية تاريخية محدودة بإطار وتوجه فكري غير محايد، والثاني تكمن في فرضية أن الإسلام أو التيار الإسلامي لا يستطيع أن ينجز تعددية داخلية. أما بالنسبة للرؤية التاريخية فهي تنسى أن الفكر السياسي الإسلامي في السبعينات ما هو إلا نتيجة الحراك السياسي السائد للعقود التي سبقته. فأغلب التحليلات تنظر للعلاقات مع التيار الإسلامي في السبعينات وكأنها ساكنة، فبرأيي لم لم يكن فكر السبعينات الإسلامي هو نفسه في النصف الأول من القرن العشرين، فتحت الانتداب الفرنسي لم يكن الفكر الإسلامي أو فكر الإسلاميين في سورية بالفكر المأزوم أصلا، فهم يعتبرون أنفسهم أنهم "أصاحب البيت" وأنه لم يكن هناك تهديدا للـ"هوية الإسلامية" للبلد. كما أنه حتى تلك اللحظة التاريخية كان النظر إلى الدولة كمؤسسة على أنها سلطة "تسيير أعمال"؛ ومع تسييس الحراك الفكري في البلد وبعد الإستقلال تغير دور الدولة تدريجيا؛ فباتت السلطة برأي الجميع أداة "تعقيد" أو أدلجة بمعنا أداة نشر للعقيدة، فالقوميون يريدون أن "يقومجوا" المجتمع عن طريق السلطة، والحداثييون يريدون أن يُحدّثوا المجتمع عن طريق السلطة، والإشتراكيون يريدون أن يُؤشّركوا المجتمع عن طريق السلطة، وانتقل دور السلطة وبسرعة من سلطة "تسيير أعمال" إلى سلطة حاكمة وموجّهة للمجتمع، فعوضا عن أن تخدم السلطة المجتمع اصبح ينظر لها على أنها قائدته والمسيطرة عليه، وهذا طبعا وصل إلى نتيجته الأكيدة مع دستور حافظ أسد حيث "الحزب هو قائد المجتمع".
فالفكر الإسلامي في النصف الثاني للقرن العشرين برأيي ـ أو على الأقل الممارسة الإسلامية ـ كانت عبارة عن ردة فعل على هذه القوى التي تنظر للسلطة كأداة تغيير. وحتى فكرة الحاكمية التي حملها الإخوان لاحقا لم تكن مبلورة بعد. لذلك يجد البعض صعوبة في إدراك ما تسمى غلطا بـ"الحلول التوفيقية" التي ظهرت من خلال كتابات القيادات الإسلامية في سورية آنذاك، فعلا سبيل المثال عندما كتب الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله حول "اشتراكية الإسلام" فذلك نابع من رؤية معينة تعكس غياب التناحر من وجهة نظره بين هوية المجتمع الإسلامية وامكانيات العدل (في إعادة التوزيع) التي تتطلبها الاشتراكية. فخلافا لما يعتقده البعض فالشيخ السباعي لم يقم بإنشاء "اشتراكية جديدة"، وأنا ارى أنه ما أراد قوله أن الهوية الإسلامية تفتح المجال لحراك داخلي يسمح للإشتراكية بالعيش والعمل، وكذلك الحال عندما نتكلم عن القومية أو الحداثة أوغيرهما. ولكن في المقابل لم تكن التيارات الأخرى تسعى لكي يتموضع فكرها وتطبيقاتها مع الهوية الإسلامية للمجتمع، بل في الوقت الذي نجد الإسلاميين يبحثون عن "الحلول التوفيقية" كما ذكرنا نجد أن رفض الأحزاب (أغلبهم على الأقل) للإسلام كان في احسن الأحوال مبطنا إن لم يكن ناكرا لوجوده أصلا في تلك الفترة. فقد كانت الدعوة قائمة للإسلام للإنحسار على كل الصعد. وكانت هذه الصورة أكثر وضوحا في الستينات، إلى أن وصلت هذه الممارست لنهايتها بمقولة حافظ أسد: "لاحياة في هذا القطر إلا للتقدم والإشتراكية". فصفق بعض أبناء الأحزاب متناسيا أن صاحب هذه المقولة أودع نصفهم في غياهب السجون.
وبكل أسف كان "الإسلام السياسي" منبوذا في ظل هذه التيارات في ذلك الوقت، ولمن يعود إلى مداولات البرلمان السوري والحوار السياسي السوري في الخمسينات يجد أن جميع هذه الأحزاب تتناحر حتى الموت فيما بينها، ولكن لمجرد دخول التيار الإسلامي في "الحوار" يتحد الجميع ضده، هذا الأمر تطور ليتتوج كمؤسسة مع وصول الجبهة التقدمية حيث وفرت مكانا لأغلب الأحزاب (أو بعض قياداتها) ما عدى الإسلامية رغم أنه حتى تلك اللحظة لم يكن هناك من يستطيع إن يتهم الإسلاميين بالعنف النسبي مقارنة مع ما كسبت أيدي الآخرين. ومن هنا علينا أن ننظر للإخوان في سورية السبعينات، عندما طالبوا بالحكم لم يفعلوا سوى ترديد صدى دور السلطة "كأداة تحكم بالمجتمع" السائد في تلك اللحظة التاريخية؛ فإذا كان البعث يريد أن "يُبَعّث" المجتمع من فوق وما زال، فهم (أوبعضهم على الأقل) كانوا يريدون إذا أن "يؤسلموا" المجتمع من نفس المنطلق.
العنصر المُشكل الآخر يكمن في رفض البعض قبول فكرة أن التيار الإسلامي يحمل في داخله حراكا يسمح له بالتطور والنمو. فأغلب من يكتب في هذا يقر للإخوان في سورية تطوير خطابهم بعد الميثاق الوطني في مطلع القرن الواحد والعشرين، وبنفس الوقت يشك هؤلاء في أن تستمر قدرات الإخوان أو التيارات الإسلامية على التطور بعد التخلص من الإستبداد والدكتاتورية، وأجد أن هذه الطروح لا تنسجم مع ذاتها. فمن جهة أولى يتناسى هؤلاء بأن الإسلام يحمل في داخله بذور تعددية داخلية، بل هو يشجع على هذه التعددية. ومن جهة أخرى يضع أصحاب هذه رؤية الحرية نفسها موضع السؤال، فهذا الخوف ينبع من افتراض أن الحرية نفسها لا تشكل إلا مزيدا من التطرف الإسلامي، وهذه مشكلة زائفة، فلو أن هذه القضية حقيقية لاختفى انسجامنا مع الذات في نضالنا من اجل الحرية، إذا الحرية لا يمكن أن تنتج "استبدادا" او "تطرفا". فإذا كان هناك اعترافا بأن الإسلاميين طوروا طروحاتهم تحت قصف الإستبداد والقهر أليس من الأولى أن يستمروا بتطويرها في ظلال الحرية. كما ان هذه الطروح تحمل الكثير من التعميم والتصنيف الجماعي، فالتيارات الإسلامية ليست كلها سواء ومن المغالطة أن نصنفها كلها بفئة واحدة. والفروق بينها ليست بالأمر الذي يستهان به وليس بالأمر السلبي في المطلق.
لذلك أعتقد أننا في صفوف المعارضة ولاسيما السورية نحتاج أن نقفز قفزة ثقة بالذات، فمهما حضر عندنا من خطابات من الإسلاميين اليوم حول تعلقهم بالحرية والديمقراطية فلن يكون هناك ضامنا سوى الممارسة الحقيقية التي نراها على أرض الواقع والتي سنراها في عهد الحرية، ولكن هذا الكلام ينطبق على كل التيارات السياسية الأخرى الموجودة على الساحة السورية، وللإسلاميين الحق أن يطرحوا نفس السؤال على التيارات الأخرى. ونحن في ظروفنا اليوم لا نملك السعة أن نقف طويلا أمام هذه الأسئلة على اهميتها أو أن ننتظر هذه الضمانات الخيالية، وعلينا أن نقفز قفزة الثقة بالآخر وأن لا ندع الطاغوت يستمر في لعبته المفضلة باللعب على ألوان طيفنا.