محاكمة الأستاذ الجامعي

محاكمة الأستاذ الجامعي !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لا أقصد محاكمة المدرس الجامعي الذي سطا على الإمام القرطبي ، واستباح تفسيره العظيم ، وأغار على أجزاء منه قصها ولصقها وباعها لطلابه في جامعة كفر الشيخ الوليدة ، ولم يجد حرجاً أو غضاضة في الزعم أنها دراسة مستخلصة من تفاسير القرآن ، وعنونها بعنوان ضخم ومثير " في النص القرآني " ، ومع أن الزميلة جريدة " وفد الدلتا " نشرت عن ذلك فى عدد أغسطس 2007م تحت عنوان صارخ : " أستاذ جامعي يسرق الإمام القرطبي" ، فإن رئيس جامعة كفر الشيخ المحترم ، حتى يومنا هذا لم يتخذ قراراً ، ولم يُسائل المدرس الجامعي الذي ينتمي إلى الحزب الوطني ، وينوب عنه في مجلس الشعب الموقر .. لماذا يا معالي رئيس الجامعة لم تتخذ قراراً حتى اليوم ؟ وما الذي يُخيفك من مساءلة المدرس المذكور الذي يفترض أنه يخضع لعدة رؤساء بعدك : رئيس القسم ، الوكيل ، العميد ، النائب ؟ هل تمنعك الحصانة البرلمانية من مساءلته إدارياً ، وإخلاء ساحته إن كان بريئاً ؟ أو إنه يملك حصانة القرب من وزير التعليم العالي الذي شرّفه – كما يتفاخر – في بيته ، وشرب لديه الشاي بعد أن تناول الغداء لدى زميله الآخر نائب الدائرة ؟

ليس المقصود الآن هذا المدرس ، وإن كانت لنا عودة إليه إن شاء الله تعالى ، بعد أن نتناول المحاكمة الهزلية التي انعقدت للأستاذ الجامعي ، وسادها التخليط والمغالطة والمكايدة ، على شاشة تلفزيون الريادة – رحمه الله – ذات ليلة من ليالي البؤس في المحروسة !

ضم العرض أو المحاكمة الهزلية للأستاذ الجامعي المصري عضواً في لجنة السياسات ومسئولة جامعية تنتمي إلى الحزب الحاكم ، بالإضافة إلى مجموعة طلاب أتوا بهم على طريقة برنامج المذيعة التي أعدت فتيات بائسات ليعترفن أنهن فتيات ليل ، نظير مبلغ تافه .. وكان الطلاب في برنامج المحاكمة قد لقنوا – كما هو واضح من السياق – الأسئلة وطريقة عرضها بحيث يبدو الأمر متقناً وطبيعياً .. ولكنى وغيري من المشاهدين لم يُصدقوا ما رأوه ..

تحدث الطلاب عن عدم التواصل بين الأستاذ وطلابه ، واستعلاء الأستاذ عليهم ، وعدم وجود وقت لديه كي يُجيب على أسئلتهم ، وأشياء أخرى طريفة منها على سبيل المثال أن أحد الأساتذة رفض أن يشرب أحد الطلاب ماء إلا بعد أن يردد دعاء قبل الشرب ، بالإضافة إلى القضايا المعروفة حول الكتاب والزحام في القاعات والمدرجات وعدم استقبال الأساتذة للطلاب الجدد ..

كان مقدم البرنامج الذي لا يُجيد غير هجاء " المحظورة " ، ومدح " المحظوظة "، و الإشادة بأزهى عصور الديمقراطية ، يُثير من خلال الثرثرة موضوع العمل السياسي في الجامعة ، وليته ما أثاره .. فقد كان الكلام حوله سخيفاً  لا يغنى ولا يُسمن من جوع !

لقد سبق أن تناول أساتذة جامعيون وغيرهم مشكلات الجامعة ، وحقوق الأساتذة الضائعة ، وأيضا السلبيات التي تجرى من بعضهم ، وكاتب هذه السطور سجل عشرات المقالات في هذه الصحيفة وغيرها على مدى ربع قرن من الزمان ، أملاً في إصلاح الحال ، ولكن الحال كانت تسوء أكثر فأكثر لأسباب لم يستطع صاحب العرض المهزلة أن يعالجها أو يُشير إليها ، واكتفى باستعراض ما يقوله طلاب " لاظوغلي " على الشاشة ، وتصفيق " الكورس " عند جمل بعينها ، وعبارات بذاتها .

إن تطاول الطلاب على أساتذتهم في برنامج تلفزيوني لا يعنى إصلاح حال الجامعة ، ولا يؤدى إلى معالجة الخلل الكبير الذي جعل الجامعة المصرية تحتل المراكز الأخيرة في ترتيب الجامعات الإفريقية ولا أتكلم عن الترتيب بالنسبة للجامعات العالمية ، فأمره معلوم للكافة . وهو لا يسرّ إلا الأعداء !

والذي لا يريد أن يقتنع به المسئولون عن أمر التعليم في بلادنا ، أن المرحلة الأساسية سبب انهيار المرحلة الجامعية ( المناهج ، والمدرسون ، والإدارة ، ووباء الدروس الخصوصية ) ، وتشترك هذه العناصر أو بعضها في تعميق الضعف الجامعي .. يُضاف إليه التدخل الأمني الذي لا يوجد له نظير في العالم باستثناء دولتين عربيتين أو ثلاث .. وهو ما يدفع كثيراً من أساتذة الجامعة إلى الانضواء تحت " الرضا الأمني " أو القبول الأمني ، كي يجدوا لأنفسهم مكاناً يُحقق طموحاتهم ويفي بالتزاماتهم المادية حتى لو كانت سرقة الكتب كما فعل أساتذة كثيرون ، ومنهم المدرس القديم الذي يتمتع بالحصانة في كفر الشيخ وسطا على الإمام القرطبي ، ولم يُسائله رئيس جامعته حتى الآن !

والعجيب أن القوم يعنيهم هجاء الإسلام والمنتسبين إليه أكثر من المعالجة الحقيقة لأمراض المجتمع ، وعلى رأسها ضعف الجامعة وتخلفها . إذا افترضنا جدلاً أن أستاذاً في رحلة أو لقاء خارج المحاضرة ، مع طلابه ، ورأى أن يُعوّد طلابه على  الارتباط بالله في سلوكهم وأعمالهم ، وطلب من تلميذه أن يدعو ربه قبل أن يتناول الماء .. ماذا في ذلك ؟ وما هي الجريمة الكبرى التي ارتكبها الأستاذ الذي لم يسرق الإمام القرطبي ولم يُعكر مزاجه أحد حتى هذه اللحظة ؟

لقد ذكرتني هذه الواقعة بأمر آخر حدث منذ سنوات ، حيث صنع وزير سابق للتعليم أسطورة خرافية روّجت لها صحف النظام وعملاؤه . فقد ادعى أن هناك متطرفين في المدارس يُحرّضون التلاميذ أو يمنعونهم من تحية العلم في بدء اليوم الدراسي . وحاولت أن أعثر على ظل من الحقيقة لهذا الأمر فلم أجد ، ولا أظن أن متطرفاً أيا كان يستطيع أن يمنع التلاميذ من تحية علم الوطن ، حتى لو افترضنا وجود حالة شاذة ، فهي استثناء لا يُقاس عليه . ومع أن القوم يُرددون كثيراً أن هناك غزواً وهابياً لمصر ، فإني أروى لهم قصة طريفة تتعلق بأحد أبنائي قبل عقد أو أكثر من الزمان ، فقد كنا عائدين من السعودية ، وفى المدرسة الابتدائية طلبوا من ابني أن يتقدم ليُحيى العلم بوصفه مندوب المدرسة ، فنسي وبدأ يُردد النشيد الوطني للسعودية الذي تعود عليه منذ طفولته :

 سارعي للمجد و العلياء
مجدي خالق السماء
 .. حتى وصل إلى المقطع الأخير :

وارفعي الخفاق أخضر / يحمل النور المسطر / ردّدي الله أكبر / يا موطني عاش الملك للعلم والوطن "

 وضجت المدرسة بالضحك ، حتى الغزو الوهابي كما يُسمونه " يُحيى العلم " .. فمن أين نبتت الأسطورة والخرافة ؟

اسألوا الوزير الأمني أو الجستابو ، الذي لا يعنيه أمر الوطن ، بقدر ما يعنيه التشهير بالإسلام والمسلمين .

إن معالجة ضعف الجامعة وتخلفها معروف لجميع من يعنيهم الأمر ، وتتمثل في الارتقاء بالأستاذ الجامعي مادياً ومعنوياً ، وتحقيق الاستقلال الذاتي للجامعة ودعمها بالمعامل والمكتبات والميزانية المحترمة لتمويل البحوث ، وتحريرها من قبضة الاحتلال البوليسي الفاشي ، وتخليصها من أشباه الأساتذة والمدرسين الذين أهدروا كرامة الجامعة وهيبتها بالتصفيق للحزب الحاكم والقوانين الاستثنائية المقيدة للحريات بالإضافة إلى اللصوص الذين يسرقون جهد غيرهم جهاراً نهاراً ولا يجدون في ذلك منكراً أو عيباً ، والذين تحولوا إلى سماسرة للكسب غير المشروع بالوقاحة والبجاحة .. أما محاكمة الأستاذ الجامعي على شاشة تلفزيون الريادة – رحمه الله – بهذه الطريقة الهزلية ، فهو أمر لا يحتاج إلى تعليق ، بقدر ما هو عنوان على فجاجة الدعاية الرسمية وتسطيحها للوعي ، وتغييبها للعقل . ولله الأمر من قبل ومن بعد !