من يبايعني على الوعي
من يبايعني على الوعي؟
أ.د/
جابر قميحةفي سنة 15 هـ (636م) وقف جيش المسلمين في أربعين ألف مقاتل في مواجهة جيش الروم الذي كان في 240 ألف مقاتل, أي ستة أمثال جيش المسلمين, مع تفوق ظاهر في العدة والخيل والسلاح. واهتز أحد المسلمين لهذا الفارق الهائل في العدد والعدة, فصرخ «ما أكثر الروم, وأقل المسلمين!!», فصاح خالد بن الوليد.. «بل ما أقل الروم, وأكثر المسلمين, إنما تكثر الجنود بالنصر, وتقل بالخذلان والهزيمة».
من يبايعني علي الموت ؟
وانقض الروم بكثافتهم العددية علي المسلمين, فأزاحوهم عن مواقعهم, وكادت تكون كارثة ماحقة لجيش فيه ألف من الصحابة, ومائة ممن شهدوا بدرا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم. وكان لابد من عمل فدائي سريع يوقف هذه الموجة العدوانية الكافرة, وهب عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه, وصاح صيحة ارتجت لها جوانب الميدان : «من يبايعني علي الموت ؟ من يبايعني علي الموت ؟» واستجاب له أربعمائة (400) من خيرة المسلمين فيهم ولده عمرو, وعمه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور, واخترق الأبطال فيالق الروم يعملون فيهم سيوفهم في استماتة مذهلة, ودب الجبن والاضطراب والخلل في صفوف جيش الروم, وبدأ التراجع المخزي أمام «أربعمائة فدائي بايعوا عكرمة علي الموت».
وأفاق جيش المسلمين من «الصدمة» الأولي, وبقيادة خالد بن الوليد شن الجيش المسلم «هجومه المضاد» بشدة وقوة وإصرار, وتحقق النصر المبين بمصرع 120 ألف رومي, أي نصف الجيش, وفرار النصف الآخر. وبقيت هذه الكلمة الخالدة علي مدار التاريخ وصارت شعارا متجددا لا يموت, وهو شعار يحمل من المضامين المباشرة - وغير المباشرة - المعطيات الآتية:
1- رفض واقع قائم غير سوي, وغير صالح.
2- دعوة إلي التضحية, والتخلص من هذا الواقع الأليم.
3- ابتداء الداعي بنفسه فهو في موقع القدوة التي تحتذي ويتأثرها الملبون المستحيبون.
4- الاستمرارية في المسيرة, دون نكوص, أو توقف إلي أن يتحقق الهدف, أو تتمهد الطرق, وتذلل العقبات لتحقيقه.
وبتحليل هذه الصيحة الشعار نجد عكرمة رضي الله عنه رفض واقعا قام فجأة وهو تراجع المسلمين أمام الروم, ودعا إلي التضحية للتخلص منه وبدأ بنفسه فكان القدوة التي قادت قافلة الشهادة.
وأصبح هذا الشعار كالمثل: له «مورد» و«مضرب» . وللتوضيح نعرض المثل الآتي من كتاب «مجمع الأمثال» للميداني, ونصه: «كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟ . فهذا المثل - ككل مثل - له «مورد» و«مضرب» ويقصد «بالمورد» الواقعة الأصلية التي قيل فيها المثل. والمورد في هذا المثل خلاصته: أن «حية» نهشت أحد الأخوين فقتلته, فأراد الثاني أن ينتقم لأخيه, فلما تمكن منها, وهم بقتلها عرضت عليه أن يعفو عنها مقابل أن تعطيه كل يوم دينارا من الذهب, فسعد بهذا الحل, وأثري ثراء فاحشا, وذات يوم أخذه الندم للتفريط في دم أخيه, فحمل فأسا وانتظر الحية, فلما همت بدخول جحرها, ضربها بفأسه فأخطأها, وتركت الفأس أثرا غائرا في مدخل الحجر الصخري, فلما رأت غدره قطعت عنه الدينار, فخاف الرجل شرها, وندم, فقال لها«هل لك في أن نتواثق, ونعود إلي ما كنا عليه؟» فقالت :«كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟!!» أي: كيف أثق فيك بعد أن غدرت بالعهد, وأثر فأسك أمامي في الصخر يذكرني بغدرك ؟». وهو مثل «يضرب لمن لا يفي بالعهد».
و«مضرب» المثل هو الواقعة الجديدة اللاحقة التي تشبه - في خطوطها الرئيسية - واقعة «المورد» وعلي سبيل التمثيل: إذا جاء: شخص ما ليقترض منك مبلغا من المال, سبق له انكار قرض سابق أخذه منك, فلك أن ترفض, وتقول له :«كيف أعاودك, وهذا أثر فأسك؟» ويمكن أن نطرح هذا المثل في مواجهة إسرائيل إذا ما طلبت منا السلام الدائم.
**********
واإسلاماه..!!
ومن المواقف الخالدة في موقعة «عين جالوت
وتحولت هذه الصيحة المباركة إلي شعار يجري مجري الأمثال.. شعار له مورد مفرداته: معركة حربية وقائد, وميدان, وإعلان بالتقدم للتضحية والفداء. أما «مضرب» هذا الشعار «واإسلاماه» فهو موقف الشعور بخطر شديد يهدد الإسلام, وقد يكون هذا الخطر عسكريا, أو سياسيا, أو عقديا, أو اقتصاديا, أو فكريا. وهو شعار يدور في فلك شعار «من يبايعني علي الموت؟!» الذي سبقه بقرابة ستة قرون ونصف قرن, ويسمح أن نتمثل به, ونردده إذا ما شعر «المسلم الواعي الغيور» بأن هناك خطرا ما يهدد الدين والقيم والأرض والعرض والفكر والعقيدة. فهو دعوة قومية لحماية «القيمة المهددة المنتهكة» بأنسب الآليات والوسائل التي قد تكون جيشا وسلاحا, أو تدخلا حاسما من السلطة الحاكمة, أو نهوضا من المفكرين الأسوياء الغيورين علي الحق والدين والفكر للتصدي للغازي المهدد بالصد والإفحام والتفنيد ..
**********
ثم كانت الصيحة العباسية..
وتأسيسا علي هذا التخريج - وما أري إلا أنه عين الصواب - يكون «حصر» هذا الشعار العكرمي في نطاق ساحة الوغي بما فيها من سيوف ورماح وفرسان ودماء, خنقا وإساءة فادحة إلي طبيعة هذا الشعار الإسلامي الرحب الواسع الكريم, لأن «مورد» الشعار إذا كان محدودا, محصورا في نطاق هذه المفردات, فإن «مضربه» - وإن اتفق مع مورده في خطه الأساسي وفكرته النخاعية- يتغير تبعا للمواقف والوقائع, ومقتضيات الأحوال.
ومن ثم تصبح دعوة «من يبايعني علي الموت؟» دعوة إلي طلب الاستجابة إلي المبايعة علي الوعي والفهم, أو العلم أو التضحية بالمال أو الولد أو النفس تبعا لطبيعة الخطر الحائق الذي يهدد «قيمة عليا» تحتاج إلي حماية ودفاع. وهذا ما فهمناه ونفهمه من صيحة الدكتور محمد عباس «من يبايعني علي الموت ؟» التي جعلها عنوانا لمقاله الدرامي الطويل المنشور في صحيفة (الشعب) في 28/4/2000, وقد واجه به وبغيره رواية السقوط والدعارة والفجور «وليمة لأعشاب البحر» . وأحسن صنعا بإعادة نشره في آخر كتبه «الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة».
**********
وكانت وزارة الثقافة المصرية قد نشرت رواية الفجور والسقوط «وليمة لأعشاب البحر
السجاجيد.. والزَّبَد.. والفقاقيع!!!
وعز علي فصيل الضلال ألا تنتصر الرواية المستنقع, فأعلنوا الحرب علي الرجل النظيف محمد عباس, وانضووا تحت راية ملوثة عمياء, وكان منهم كتَّاب «سجاجيد» يحرصون علي أن يعيشوا حياة.. نعَمٍ حياة» فالحياة عندهم هدف وغاية, حتي لو خلت من الكرامة والإباء, والسجاجيد لا ترفض أي حذاء يطأ, ولا أيّ قدم تدوس.
ومنهم صحفيون «زَبَدَ» - بفتح الزاي والباء, يركبون كل موجة, طمعًا في «الوصول» إلي شاطئ من عسل ولبن وكباب.
ومنهم مسئولون «فقاقيع», لا يهمهم من الحياة خلود الذكر, وإنسانية المسيرة, بل «النفخة» المنفوشة الكدابة», واللمعة التي تخدع الأبصار, وإن لم تخدع العقول والبصائر. ثم:
أجْمَعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاءُ
من مناد, ومن مجيبٍ, ومن تَصْـ هالِ خيل, خلال ذاك رُغاءُ
الحرب القذرة
وشن جيش السجاجيد والزبَد والفقاقيع علي الرجل حملة عديمة النظير والشرف والنظافة, فخلعوا عليه الصفات الآتية:
مهووس - كاتب فاشل - طالب شهرة - مهدر للسلام الاجتماعي, محرض علي القتل - منافق - ردّاح - راقص - دكتاتور - متآمر - غوغائي - مليونير من تجارة الأشعة - عميل - متطاول علي اللّه - محرف للقرآن - كذاب أشر - أعمي البصر والبصيرة - فاجر الخصومة - بلطجي فكر - ملحد - كاتب عهر وفجور - مصاب بمرض الفصام - جاهل متعسف - مجذوب في غيبوبة - بذيء - مجنون عظمة - مشبوه - مأجور - مخبر يعمل لحساب مباحث الدولة..... إلخ.
وهذا قليل جدًا, من كثير جدًا استخرجته مما خلعه هؤلاء علي الدكتور عباس خلال ثلاثة أسابيع فقط (من 7 إلي 30 مايو سنة 2000) في صحف: أخبار الأدب - القاهرة - العربي - الأهالي - الأهرام - الأهرام العربي - البلد - الميدان - آخر خبر - روزاليوسف - الأيام.
وهي صفات لو توافر ربعها في «مخلوق» لما كان جديرًا بأن ينتسب - لا للمسلمين ولا للمصريين ولا للعرب فحسب - ولكن للجنس البشري. حقًا إنها لا تعمي الأبصار, ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.
وحَصٍحص الحق....
كما رأينا «اتحاد الكتاب» في آخر عدد من نشرته «أخبار الكتاب» يصدر بيانًا يعلن فيه «أنه يقف في صف حرية الإبداع ولا يدخل في نطاق هذا الإبداع الروايات الثلاث التي صادرها وزير الثقافة»(!!). مع أن الاتحاد أصدر من عدة أشهر بيانًا اعتبر فيه أن مهاجمة رواية الوليمة يعتبر عدوانًا وحجٍرًا مرفوضًا علي حرية الإبداع, وصدمة عاتية للثقافة والمثقفين...» مع أن «الوليمة» أشد فجورًا وسفورًا وانحطاطًا من هذه الروايات الثلاث!!
ياخبر!! إن المسألة إذن ليست مسألة إبداع, ولا مسألة موضوعية, وبحث عن الحق, ولكنها مسألة «رؤية سلطوية» - من وزير أو كبير - تدور معها كل الآراء حيث دارت. وإنا للّه وإنا إليه راجعون.
وأقول بعدها إن ما وصل إليه الوزير وبعض الكتاب السجاجيد أخيرًا إنما هو استجابة عملية حقيقية لنداء الدكتور محمد عباس «من يبايعني علي الموت؟, حتي لو لم يصرحوا بذلك. وهذا دليل عملي علي أنه كان شعارًا يحمل الدعوة - لا إلي القتل والدم كما ادعي السجاجيد والزبد والفقاقيع - بل إلي اليقظة البناءة, والوعي المتفتح, والتصدي الفكري النظيف الشريف.فالوزير فاروق حسني عاد بعد ذلك إلى طبعه الأصيل في الهجوم ـ بغير علم ـ على كثير من القيم والموروثات الإسلامية .
والوعي ينزف من ثقوب الذاكرة....
وهذه الدعوة لم تكن غريبة علي الرجل, فقد نشر قبل أزمة «الوليمة» خمسين مقالة, جمعها بعد ذلك في كتاب من قرابة سبعمائة صفحة بعنوان (الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة). لقد قرأت هذه المقالات من قبل في صحيفة الشعب, وأعدت قراءتها كتابًا, فكأني ألتقي بها لأول مرة لما فيها من قوة وحيوية متجددة إنها تمثل «تشخيصًا حقيقيًا صادقًا» للواقع بمفهومه الشامل: تشخيص للواقع النفسي الذاتي, وتشخيص للواقع الاجتماعي, وتشخيص للواقع الوطني المحلي, تشخيص للواقع العربي, وتشخيص للواقع الإسلامي, مع بيان واع لطبيعة العلائق التي تربط كل هذه «المشخصات» بالمواصفات العالمية.
والكاتب في تشخيص هذا الواقع الشامل يجمع بين الوقار العقلي والتوهج الوجداني, ويعايش الخاص, لينطلق منه إلي العام, ويقف أمام «الحدث الصغير» في الماضي البعيد, أو الماضي الوسيط, أو الحاضر القريب, ليكشف فيه أثرًا أكبر بكثير من حجمه الظاهر للعيان. وكم من حدث عابر يحمل «جرثومة» تؤدي إلي مرض خطير, وعدوي ماحقة, ثم إن الكاتب يضع كل واقعة في سياقها التاريخي, حتي يتمكن - ببراعة وأمان من أن يعتصر منها أقصى ما فيها من دلالات ومعطيات.
ويجند الدكتور عباس - في كتابه - آليات فنية عالية تجعله بحق «رائد المقال الدرامي». منها: الحوار البارع و«المونولوج», والالتفات, والمفارقة بنوعيها: اللفظية والتصويرية, والمقابلات الدقيقة, و«السيناريو» المخدوم المنتج, وهذا التلوين الفني في نطاق وحدة عضوية فكرية متلاحمة.
اكتب... واكتب.. يرحمك اللّه...
يا دكتور محمد عباس: إنها إرادة اللّه أن خلقك داعية رساليًا, لذلك استحلفك باللّه.. لا تغمد قلمك, بل جرّده.. وارفعه دائمًا أبدًا.. واجه به «جوقة» النفاق والفساد والإفك والهزائم والموائد والمساومات والضياع. واجه به السجاجيد والفقاقيع والزبد, فأنت تعلم أن السجاجيد تُعلى وتُداس, ولا تعلو وتدوس, والفقاقيع تذوب وتطير من نفخة." فأما الزبد فيذهب جفاء, وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " . (الرعد 17)