قيم ضاعت وقيم حلت
وإذا الموؤدة سئلت
السيد عبد الجبار محسن
في كل حارة من حواري بغداد ومدن العراق الاخرى، كان هناك شخص او عدد من الاشخاص ممن امتهنوا انتزاع ما يرومون بالقوة، ويؤكدون وجودهم بالقوة، ويعلون شهرتهم بالقوة، وباختصار انهم يستخدمون القوة او التلويح باستخدامها.
هؤلاء هم (الشقاوات) الذين لكل منهم معاونون، واتباع، ومريدون، وضحايا، ولكل منهم سطوة تتناسب مع قوته، وجراته، ومدى الروح الاقتحامية عنده، كان سلاحهم الاهم هو السكين او (البشتاوة) والبوكس حديد، والعصا، واخيراً وليس اولاً المسدس.
كانوا مهابين من رجال الشرطة والامن ويحسب هؤلاء لمواجهتهم الف حساب، وكان رداؤهم في الغالب الطاقية واليشماغ التي توضع على الكتف ليتدلى جانباها على الصدر والظهر، ثم القميص الابيض وسروال الكالي، اما الحذاء فهو الخف او (الكيوة) الابيض الخفيف، وأما مشيتهم فهم يسيرون بطريقة تظهر قوة الخطى، والتحدي، وانتفاخ عضلات الساعدين.
كانت هذه الحرفة هي مصدر رزقهم من الشباب حتى اضمحلال القوة... وكانت لمغامراتهم حكايات يتبادلها الناس في المقاهي وجلسات السهر...
ولكن:
كان الواحد من هؤلاء كالافعى لا يلسع الا اذا قمت باستفزازه، او منافسته، او التجاوز على مركز نشاطه.
كان لهؤلاء ايضا قيم لا يؤمن بها ولا يمارسها او يخضع لها اليوم الكثيرون من دعاة التدين والوطنية، و(المستوظفين) عند رؤساء عدد من الاحزاب ورجال السياسة.
عندما يدخل (الشقاوه) محلته او زقاقه فانه يغض الطرف عن كل امراة من محلته حياءاً وتعففا...
كان يعين الضعيف ولا يسلب منه شيئا بل كثيراً ما يعطي عما زاد عن حاجات يومه، فهو ليومه يعيش.
كان لا يسرق من اهل محلته ولا يخدع احداً منهم، ولا يعتدي على احد، ولا يهدد جاره بالتهجير او يقوم بتهجيره لانه من هذه الطائفة او تلك.
على العكس كان (الشقاوة) حامى ذمار المحلة، والمدافع عنها، والراصد لكل غريب، ومعيد الحق لمن سلب منه... ولهذا فان اهل المحلة كانوا يقفون معه ضد كل (عدوان خارجي) يقع عليه، وعندما تتداهمه الشرطة، فانهم يخبئونه في بيوتهم.
حتى (الشقاوات) كان عندهم خط احمر لا يتجاوزونه، وكانت لهم قيم متفق عليها، ومعايير سلوكية لا تقبل النقض، والا فان من ينقضها ليس (شقاوة) محترف بل هو مجرم عادي وشتان بين الاثنين كما يقولون.
اما في الريف العراقي فان اللص حتى اللص كان لا يسرق جاره ولا قريته، ولا المقربين، لان هذا ليس (مرجلة) انما هو اخلال بالشرف.
كان اللص لا يسرق سيدة وحيدة في بيتها لان هذا ليس من الرجولة في شيء...
ومما يروى عن هؤلاء ان احدهم دخل ذات يوم داراً، ولم يكن يعرف انه ليس في الدار سوى امراة وطفلها، فرش عباءته في فناء الدار وراح يجمع ما خف حمله وغلى ثمنه قياسا اليه ذلك ان الناس في الريف لم يكونوا يمتلكون ما هو غال حقيقة الا في عرفهم طبقا لمستوى معيشتهم المتواضع...
كانت ربة الدار مستيقظة وهي تضم طفلها الى صدرها وتراقب ما يجري، وعندما هم اللص برفع الحمل... تفأجا اللص بسيدة الدار تخاطب ابنها قائلة (وخر يمه) اي ابتعد يا بني (خليني اعاون خالك)، اضفت على اللص اذن صفة الاخ وكلمت ابنها بمساعدة خاله، بذكاء كان ذلك هو سلاح مقاومتها الماضي انه القيم فما ان سمع اللص كلمة (خالك) حتى صارت الكلمات حقيقة وانتماءا فما كان منه الا ان اعاد المسروقات الى اماكنها، ولملم عباءته، ومر خارجا ليغلق الباب خلفه...
ومن طريف ما يروى: ان اثنين من قطاع الطرق اوقفا سيارة للنقل الخارجي في هدأة الليل، وقف الاول امام السيارة شاهراً بندقيته وولج الثاني الى السيارة حيث الركاب شاهراً مسدسه وبدأ بجمع النقود.
- شنو شغلك ؟
- طبيب...
- هات مئة...
- شنو شغلك ؟
- مهندس هات مئة .
- شتو شغلك ؟
- تاجر.
- هات مئة.
- شنو شغلك ؟
- مقاول.
- هات مئة
- شنو شغلك ؟
- موظف.
- خذ مئة لعيالك.
اما العشيرة فكانت تستمد قوتها من كونها وسيلة لحماية الفرد من العدوان على ممتلكاته، او عرضه... وسيلة القصاص له واسترداد حقه ممن تجاوز عليه، ووسيلة العون عند الشدائد.
فالمضيف كان (برلمانا) لا يتم فيه التشابك بالايدي، ولا المناورات الحزبية، ولا الهرج والمرج، انما يقال فيه الرأي، ويؤخذ منه الرأي (فالمجالس مدارس)، وهو بيت الضيوف، وملاذ اللائذين بحمى العشيرة، ومكان حل المشاكل بين افراد العشيرة.
كانت العشيرة عونا للفرد عندما يفقد احداً من عائلته فهي تشارك كل وامكانيته في (الزهاب) اي كلفة تجهيز المتوفي ودفنه وكانت تعينه عند الزواج (بالشوباش) وصناعة الفرح وكانت عونا للفرد اذا كان وحيداً لا يستطيع ان ينهض لوحده بزراعة حقله او رعاية ماشيته.
واما الجار فهو قبل الدار اي اهم من مساحة الدار وطراز بنائها...
فالجار اخ، والجار عون لجاره، والجار، لم يكن يهدد جاره ولا يرغمه على الرحيل، ولا ينتهز الفرصة لسرقة النظر الى النساء...
كان الساكن الجديد لايام عدة بعد سكنه لا يطهي الطعام لانه يأتيه جاهزاً من جيرانه القريبين والبعيدين ويرددون (الله اوصى بسابع جار) و (جارك ثم جارك ثم اخاك).
وكان الناس لهم برسول الله صلى الله عليه وسلم اسوة حسنة (كاد الجار ان يرث).
ومن يتجاوز على جاره من الصبية والشباب يعاقب وقد يطرد من الدار لبرهة... فهو قد ارتكب اثما ليس بحق الجار وحسب انما بحق عائلته وسمعتها.
كان الرجل الذي يضطر لمغادرة بيته وترك عائلته يغادر وهو مطمئن انه جاره نعم الجار وهو الحامي بعد الله.
ككان الجيران يهبون عند كل صرخة واستغاثة على طريقة اجدادهم العرب:
كنا اذا جاءنا صارخ فزع كان الجواب له قرع الضنابيب.
و(قرع الضنابيب) هو الضرب على سيقان الخيل بالعصي لتسرع في النجدة...
اما اليوم، فيصح علينا قول القائل:
كنا نهب على الزعيق فمذ طغى صرنا ننام على الزعيق ونهجع.
لم يكن العامل و الموظف يخون رب العمل لا في ماله، ولا في سمعته، ولا في اسراره، بل كان احيانا حريصاً عليه اكثر من حرص رب العمل على نفسه لانه ولي نعمته، وبخلاف ذلك فانه يكفر بنعمة الرب.
كانت قيم الدين، والعروبة، والقبيلة، والمدينة، والمحلة، تملا كل عقل وشاخصة في كل سلوك، وكانت قد حققت من الانضباط الاجتماعي اكثر فما حققته القوانين الوضعية واجهزة الشرطة والامن... لم يكن لدى الناس سلاح سوى القيم...
اما اليوم فان ادعياء التدين والوطنية قد وضعوا القيم خلف ظهورهم، واصبح كل شيء سلعة برسم البيع: الدين، والوطنية، والنزاهة، والشرف، وقيم العشيرة، والزقاق، والعمل السياسي، والوظيفة.
صرنا لا نجعل اعداءنا سوى عمال فقراء، يقطعون نومهم مع صلاة الفجر، يؤدون الفريضة، يتناولون قطعة من الخبز واستكان الشاي، ليتجمعوا في احد الميادين، بانتظار متعهد او مقاول، ياتي ليختار منهم من يساعده الحظ بعمل يتيح له شراء الرغيف... ومن لم يتم اختياره يرجع خائباً...
اولاء صاروا هدف (ألجهاد) و (الوطنية) و (بقتلهم) ننتصر على اعداء الدين والوطن على امريكا والصهيونية والصليبية الجديدة.. ولسوف يسأل سبحانه هؤلاء المجرمين ذات السؤال الذين يسمى في اللغة سؤلاً (استنكاريا) .
( واذ الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت)....
اذا ما سؤل القتلة وسوف يوسألون (باي ذنب قتلتم هؤلاء المساكين)؟.
فالذي لا يستطيع الجواب امام الناس انا له ان يجيب امام رب شديد العقاب.