بكرٌ.. أم ثيِّب؟
سحر المصري
طرابلس - لبنان
لم يفاجئني تعليقها.. فقد كنتُ أتوقّعُ أن أُواجَه يوماً ما حين كلامي عن معايير اختيار الشريك بهذا السؤال بعد تناولي لمعيار "الأبكار".. إلاّ أنّ ردّة فِعلِها كانت قوية تنبع من حرقةٍ كَوَتها منذ طلاقها وحتى يومها هذا.. فالمرأة المطلّقة في مجتمعاتنا الشرقية –عامّة وفي أغلب الأحيان- كثيراً ما تكون المتّهمة بخراب بيتها ويُنظَر إليها نظرة شفقةٍ أو خشيةٍ أو ازدراء!
ويا ويل مَن فكّر بالارتباط بمطلّقةٍ وهو بكر.. فحينها ستقوم القيامة في بيته ولا تقعد لتستمر فصول المسرحية وتمتد إلى الأهل والجيران والأقارب حتى لو كانوا ملتزمين بشرع الله تعالى.. ولا تنتهي حتى يخرج هذا الشاب من المعركة رافعاً الراية البيضاء معلناً توبته مما فكّر فيه متطهِّراً من أذى ميله ورغبته بالارتباط من هذه المطلّقة.. وهذا ما مرّت به أختٌ جوبِهَت بالرفض من أهل شابٍ أُعجِب بدينها وأخلاقها وأرادها زوجة له ولكنه عدل عن خطبتها بعد رفض أهله لأنها: مطلقة!
تقول ذات محنة.. "ألستُ بَشَراً؟ إن عضّني ناب الطلاق يوماً وابتُليتُ بتجربةٍ فاشلة فهل هذا معناه أنني أصبحتُ "دون"؟ ما ذنبي إن لم أُوفَّق مع زوجٍ أوّل لأُحرَم من الزواج برجلٍ مقتنع بي لأنه بكر؟ لِم على المطلّقة أن لا تفكّر بالزواج إلا من مطلّقٍ أو أرملٍ أو معدِّد أو صاحب مشكلة؟ لِم يتم التغاضي عن كل مميزاتي؟ ألأني فقط مطلقة؟! قد دفعتُ ضريبة الحرمان والألم مرة فلِم عليّ أن أكمل الدفع طوال حياتي؟ هذا ظلم!"
أحياناً كثيرة تحفر كلمات معذّبٍ أخاديد ألم في عمق القلوب.. ولكنها الحياة والمؤمن مُبتَلى.. وهي دنيا الغرور سرعان ما سنتركها طالما أننا مجرد عابري سبيل فيها نسأل الله تعالى أن يُخرِجنا منها بسلام.. وعسى أن نحب شيئاً وهو شر لنا!
قلّبتُ بذاكرتي صفحات سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام مع أمهات المؤمنين وسِيَر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح فما وجدتُ هذه التعقيدات التي في مجتمعاتنا وما وجدتُ هذه النظرة السلبية والدونيّة للمطلّقة.. قومٌ عرفوا الله والتزموا بشرعه ولم يورِثهم ذاك أي عقد نفسية أو اجتماعية فعاشوا حياتهم ببساطة ويُسر.. أما اليوم فقد استفحلت المشاكل واختلفت نظرتنا للأشياء وتبدّل تقييمنا للأمور وانجررنا وراء الأهواء والإدّعاءات والمظاهر.. إلا من رحم ربي..
لم يوجد في الماضي عقدة الطلاق.. فترى المطلّقة ما إن تفقد زوجها حتى يسارع الرجال للتقدّم إليها بغية الإحصان والعفاف والتكاثر.. وقد نزلت آية كريمة تسمح بالتعريض للمطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى أو الأرملة فقال عز من قائل: "ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء".. فأمر الشارع جل وعلا أن يتم التعريض للخطبة حين تكون المرأة في العِدّة دون التصريح.. ولم يكن الأهل يتركون ابنتهم بدون زوج يحميها بل كانوا يسعون أحياناً هم أنفسهم لعرضها على مَن يتوسّمون فيهم الخير.. كل ذلك يجري في جوٍ هادئ وبطريقة عادية جداً دون استغراب أو تعيير.. أما اليوم فما إن تُطلَّق المرأة حتى يوضع على جبينها وبين عينيها كلمة "مطلقة" ومفادها: لا تقترب.. خطر الموت! وراعَني حقيقة ما سمعتُ يوماً من أحدهم وهو يعلِّق على شابٍ كان ينوي الزواج من مطلقة –طبعاً قبل خوض معركةٍ خاسرة- فقال: لا أدري كيف يقبل الزواج من امرأةٍ "مستعملة"! اختصر كل دينها وأخلاقها ومميّزاتها ومستواها العلمي والخَلقي والثقافي العالي ورحلة حياةٍ طويلة بعبارة واحدة لو مُزجت بماء البحر لأنتنته! هل أصبحت المرأة تُقاس كما السيارة بأنها مستعملة؟! يبدو أنها كذلك في زمن باتت القِيَم فيه والأخلاق ترفاً زائداً والمادة هي المعيار الأول..
حاولت تفنيد الأمور لهذه الأخت التي شيّبتها النظرات والخواطر وحرمتها المعايير الاجتماعية من السعادة في كنف زوج صالح لأنه بكر وهي مطلقة!..
ابتدأتها بأحاديث الحبيب عليه الصلاة والسلام التي تشجِّع المقبلين على الزواج –للمرة الأولى- أن يبغوا إن استطاعوا الفتاة البكر.. يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: "عليكم بالأبكار، فإنهنّ أنتق أرحاما، وأعذب أفواها، وأقل خبا، وأرضى باليسير".. وعندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جابرًا رضي الله عنه: "هل تزوجت؟" فقال جابر: نعم يا رسول الله، قال: "بكرًا أم ثيبًا؟" قال: "بل ثيبًا" قال: "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟"..
أوضحت لها أن الفتاة حين تكون بكراً تنظر إلى الزواج بلهفة ورغبة وتنتظر اليوم الذي يجمعها بمن اختارته سكناً لها في بيت واحد ليتشاركا في كل شيء.. وحينها يكون للنظرة طعماً وللمسة معنى وللكلمة سحرا.. ويكون لدخول هذه المرحلة الجديدة للإثنين معاً واكتشاف كل شيء جديد يعيشانه لأول مرة لذة ونشوة خاصة فيما يتعلق بالعلاقة الحميمية بينهما.. والبكر مجبولة على التآلف مع أول إنسان ترتبط به وتعاشره.. كما أنّ الخصائص النفسية للبكر تختلف عن تلك الخاصة بالثيّب.. فحين تكون الزوجة مطلّقة لن تشعر بلهفة البكر وبحماسها لاكتشاف معانٍ ما عاشتها من قبل.. وطبعاً تختلف درجة التفاعل بين امرأة وأُخرى ولكننا نتكلم بشكلٍ عام.. ومن جهة أُخرى فقد تكون الثيّب قد اعتادت أموراً معيّنة مع زوجها السابق فتقوم بمقارنة ما تعيشه مع زوجها البكر –الذي لم يخبر الحياة الزوجية بعد- بما كان يقوم به الآخر فتقع في خطر جسيم.. ويزيد من حجم المشكلة أن تكون قد طُلِّقَت وهي لزوجها مُحِبّة فحينها قد تتمنى أن يكون الأول مكان الثاني!
ولقد كانت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها تتفاخر أنها البكر الوحيدة التي تزوجها الحبيب عليه الصلاة والسلام.. بل لقد لفتت الحبيب عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بسؤالها إياه مرة :"أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أُكِل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها، في أيّها كنت ترتع بعيرك؟" قال: "في التي لم يرتع منها".
وفي روضة المحبِّين أوضح ابن القيِّم لِم كان تفضيل البكر على الثيِّب فأوعز هذا الأمر إلى أنّ البكر لم تذق وطئاً قبل ذلك ما يساهم في زرع محبة الزوج في القلب ويكون أدعى إلى دوام العشرة كما أن من مميزات نساء الجنة أنه كلما وطئ أحدهم امرأة عادت بكراً كما كانت..
حاولت تهدئتها والتخفيف عنها.. ثم التأكيد لها أنه لو كان قوياً بما فيه الكفاية لأقنع أهله بها ولكن الخيرة فيما اختاره الله تعالى ولعل الأيام تُظهِر لها أن زواجها منه لم يكن هو الخير..
تركتها وفي قرارة نفسي بقايا كَلِم.. فإنّه من المؤسف أن تُستَبعَد المطلّقة من اعتبارات الشباب -حتى ولو كانت بمميزاتها ترقى على قريناتها بدرجات- في حين أن الرجل المطلّق لا يُنظَر إليه بهذه النظرة! مع أن حديث الحبيب عليه الصلاة والسلام بالرغبة في الأبكار يشمل الرجل والمرأة.. فتجد المطلَّق حين يريد الزواج مرة أُخرى يعمد إلى رؤية الصغيرات في السِن واللواتي لم يسبق لهنّ الزواج.. ولا يُنظَر إليه على أنه "مستعمل" لأن الرجل لا يعيبه ذلك.. تماماً كنفس النظرة للشاب الذي يقيم علاقات كثيرة مع الفتيات فحين يفتش عن إحداهنّ للزواج يريدها عفيفة طاهرة لم يطمثها إنس قبله ولا جان.. من هنا تظهر التناقضات التي يتخبط فيها مجتمعنا الشرقي في حين ينبغي أن تكون المعايير واحدة وعلى قياس الشرع والدِّين وليس على الأهواء والرغبات وأحياناً الأنانيات..
وتبقى حقيقة لا يمكن إغفالها في خضم الحديث عن هذا الموضوع وهي أن الحبيب عليه الصلاة والسلام قد تزوج –وفي المرة الأولى من حياته- بامرأة ثيِّب وهي أمنا خديجة رضي الله تعالى عنها وقد كانت تكبره أيضاً بعقد ونيف.. ولمن يقول أن هذه خاصيّة للحبيب عليه الصلاة والسلام فأتساءل حينها ما معنى الآية الكريمة "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"! فإن كان كل ما قام به خاصيّة له صلى الله عليه وسلم فمتى يكون القدوة لنقتدي؟! ونقطة على حرف.. فإن الحبيب عليه الصلاة والسلام لم ينكر زواج جابر من الثيِّب بل دعا له حيث أن جابراً تزوّجها لأن عنده تسع –أو سبع- أخوات صغيرات لم يشأ أن يأتيهنّ بزوجة بمثل عمرهنّ لا تستطيع مراعاتهنّ..
وأمرٌ آخر لا يمكن تجاوزه وهو أن بعض الرجال –ولو أن النسبة ضئيلة جداً- يرون في المطلقة إمرأة ذات خبرة في معاملة الزوج خاصة من الناحية الحميمية وأيضاً زوجة ذات حرص على معاملة زوجها الثاني بطريقة أقرب للمثالية خوفاً من طلاق جديد ومعاناة جديدة..
وكخلاصة يمكن القول أنه حين تتوفر معايير الدِّين والأخلاق والشروط التي يجد فيها الرجل أنه سيتوافق ويسعد مع المرأة المطلّقة فحينها تتحقق المصلحة من هذا الزواج حتى وإن كان هناك افتقاد لمعيار الأبكار.. وما تعدد المعايير إلا للوصول إلى الانسجام الكامل والاستقرار الأسري الذي نطمح إليه.. وحين يقتنع الرجل بالزواج من مطلّقة فعليه أن يتأكّد من قوّة شخصيته وقدرته على مواجهة مجتمعاً لن يستطيع المرء إرضاء مَن فيه.. على أن يحاول إقناع المقرّبين منه كالوالِدَين على الأقل لأن هذا الزواج هو ارتباط عائلتين وليس فقط زوجين فإن رفض الأهل هذه الزوجة من الأساس فلن يكون هناك راحة وطمأنينة وتبقى الخشية من انقطاع صلة الرحم أيضاً..
الزواج مودة ورحمة وسكن.. فحين يجد المرء نصفه الآخر فليدرس هذا المشروع بكل حيثياته بعيداً عن التعقيدات التي زرعناها بأيدينا في مجتمعاتنا.. فإن وجد سؤله في المطلّقة وأقنع أهله وعزم على النكاح.. فليتوكل على الله..