أسس الاختيار
أسس الاختيار
ليس بالدِّين والخُلُق وحدهما!
سحر المصري
طرابلس - لبنان
"ابتدأت قصتها حين تقدّم لها شاب فاختارته عن قناعة لسبب واحد فقط لا غير: ملتزم!
من بين عشرات الخُطّاب الذين تقدّموا لها وجدت فيه نفحة إيمان تمثّلت في لحية واتّزان وطيبة ظاهرة.. ولم تلتفت لا لوضعه المادي ولا الثقافي ولا العلمي ولا للفروقات الكثيرة بينهما.. وقالت كلمتها التي اعتادت أن تبثّها بكل جرأة: هذا الذي أريده لأعيش حياة إسلامية معه! وفي أول لقاء بينهما كانت القاعدة التي أرادتها شعارًا للحياة: القرآن والسُنّة! وحين الخلاف نحتكم الى شرع الله جل وعلا.. فوافق وعُقد القران بعد أيام قليلة دون أن يأخذا وقتاً ولا جهداً في التعارف ودراسة الأمور بعمق أكبر..
وبعد العقد ابتدأت الأمور تتضِح لها.. أين التزامه الذي أريد؟.. إنه ضعيف الشخصية ولا يشغله إلا سفاسف الأمور.. ليس بالرقيّ الفكري والعلمي والديني الذي كنتُ أعتقد! اصطَدَمَت بحائط الواقع ولكنها لم تستطع الخروج من المأزق.. اعتمدت على الأمل فخانها! كانت تحلم بتغيير للأفضل حين يكونان في بيتهما ووعدت نفسها بالمحاولة فهو ملتزم وخلوق وبإمكانها النجاح..
تزوجا.. وكلما عاشرته أكثر وتقربت منه أكثر كانت تتيقن أن المسير بينهما قليل.. وأنها لا بد مفارقة!
وابتدأت رحلة الجفاف العاطفي من أول الطريق.. وتتالت صدماتها فيه.. فهو غير ناضج ولا يتحمّل المسؤولية.. فأصبح رفضها بحجم تلك الصدمات المتلاحقة! فانهار كل شيء ولم يبق إلا الألم..
كل يوم كان يبعدها عنه أميال وأميال.. ولا تكاد تدخل في نقاش جاد معه إلا تجده أبعد ما يكون عن فهمها وعن المنطق فتوقفت عن الكلام.. وانعدم الحوار بينهما.. حاول طمسها ليُخفي ضعفه.. فنفرت منه وأصبحا غريبين في دار واحدة.. لم تعد تستطيع المتابعة بعد أن استحالت الحياة بينهما فطلبت الطلاق بعد سنوات لتنتهي رحلة الزواج ويتحطم كل شيء!"
هذه قصّةٌ من ضمن سلسلة قصص مشابهة نعايشها كل يوم.. قصة كئيبة مبكية! ففي حين أننا نحلم بإعداد رواحل الأُمّة لإعادة مجدها نجد في كل لحظة بيتاً ينهار وزوجين محطّمَيْن وأولاداً مطعونين بحربة الطلاق والتفكك الأُسري والضياع!
ولو أمعنّا النظر لوجدنا ربما أنه من أهم الأسباب التي تؤدّي إلى الطلاق –كما في هذه القصة- هو سوء الاختيار من الأساس وعدم التمكّن من دراسة الموضوع بشكل كامل وشامل ودقيق ليرى كلّ من الطرفين هل يناسبه الشريك الآخر أم لا! والإعتماد على معايير محددة دون أُخرى لم تُدرَس هي نفسها كما يجب للتأكد من وجودها في الشريك!
وفي حين أوضح الحبيب عليه الصلاة والسلام المعايير التي يجب أن يتّبعها الخاطب لاختيار الزوجة المناسبة في حديثه الصحيح: "تُنكَحُ المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين ترِبَت يداك" كذلك أوضح للمرأة أساسا الاختيار الصحيح لزوج المستقبل فقال في الحديث الذي رواه أبو هريرة -وانفرد الألباني في تحسينه- "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".. فجعل الأمر الأساس في الاختيار لكليهما هو الدِّين لأنه الركن الأصيل والمقصد الرئيس الذي يجب أن يُبنى عليه الاختيار..
وظهر مَن يوصي ويتشدّق بأنّه إن تواجد هذا الشرط في الخاطب أو المخطوبة فلا داعي للتركيز على غيره! بل إنّ بعضهم يحارب مَن يوسِع الدائرة لتشمل جوانب أُخرى مهمّة ومُعتَبَرة عند القيام باختيار الشريك متّهمين مَن يدعو لتناول المعايير الأُخرى بالتطاول على الدِّين وبالعلمانيّة وبالانجرار وراء رؤى غربية! وهذا لا شك أنّه خطأ جسيم في التفكير وبهتان ما أنزل الله به من سلطان.. لأنّ الدِّين وإن كان أساساً للاختيار إلاّ أنّه ليس الشرط الوحيد الذي يفتش عنه المسلم أو الذي تكتفي به المسلمة ليَضْمَنا زواجاً ناجحاً وأسرة هانئة مستقرة خاصة في زمننا الذي نحيا فيه.. وفي السيرة النبويّة وسِيَر الصحابة ما يؤكِّد على ذلك ولكنه الجهل الذي استشرى والعمى الذي أصاب العقول والقلوب!
وحين حذّر الحديث أنه سيكون فساد عريض إن رُفِض صاحب الدِّين والخُلُق فالقصد كما فسّره المحدِّثون أن الفساد يكون حين يتم الرفض إيثاراً للجاه والمنصب والمال على الدِّين والتقوى.. وليس حين يُرفض الملتزم إن كرهت المسلمة منه خُلُقاً ولم تستطع التكيّف معه وتقبّله وهي كارهة.. ومن الملاحَظ تأكيد الحبيب عليه الصلاة والسلام على الأخلاق في الحديث وذلك حين ذكر الرضا بالدِّين ثم بالخُلُق مع أن الدِّين يشمل الأخلاق ولكنه التركيز على الكلِّي ثم الجزئي لأهميّته.. وأيضاً لأن هناك أُناساً ملتزمين وينقصهم بعض خُلُق وليس كل خلوقٍ ملتزم! والأخلاق تحوي أبواباً عدّة كالصدق والأمانة والتواضع والتسامح والرفق واللطف والرحمة والكرم والشجاعة واللين والوفاء والإخلاص والإيثار وغيرها.. وقد ترفض المسلمة الخاطب لتجرّده من الكرم مثلاً وبذلك لا تكون قد ارتضت منه خُلُقاً! فلا يكفي أن يقول لها الناس أن فلاناً –أو فلانة- صاحب دين وخُلُق بل يجب على كل طرف أن يدرس شخصية الطرف الآخر ليرى هل يرضى أخلاقه الذي يريدها هو أم لا! وعلى الفتاة أو وليّها أن لا يُخْدَعا بمواظبة الخاطب على الصلاة في المسجد فلعله يكون ملتزماً بها ولكن أخلاقه ومعاملاته تكون سيئة فيقعان في جبّ كبير..
ثمّ إن الدِّين والخُلق هما أمران نسبيّان ومتفاوِتان ويتغيّران من بيئة إلى أُخرى ومن أُسرةٍ إلى أُخرى ومن فتاة إلى أُخرى.. والرضا بالدِّين والخُلُق يعود إلى المرء نفسه فما ترضاه أخت في خاطب وتعتبره ربما في قِمّة الدِين قد تجده أخت أُخرى التزاماً عادياً جداً.. ولو كان تطبيق الدِّين وفهمه عند ملتزمي وملتزمات هذا الزمان هو بنفس الكيفية لِما كان عليه في خير القرون لَما كان هذا التضارب في الفهم ولكان الملتزم خلوقاً لا محالة..
ورد في الحديث الصحيح: سمعت فاطمة بنت قيس تقول إنّ زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة. قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حللت فآذنيني" فآذنته، فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما معاوية فرجل ترِب لا مال له. وأما أبو جهم فرجل ضرّاب للنِّساء. ولكن أسامة بن زيد" فقالت بيدها هكذا: أسامة! أسامة! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: طاعة الله وطاعة رسوله خير لك قالت فتزوجته فاغتبطت به.
ولو تأمّلنا هذا الحديث لوجدنا الحبيب عليه الصلاة والسلام ينصح فاطمة بالزواج من زيد معلِّلاً سبب استبعاده لمعاوية وأبي جهم: فالأول فقير والآخر يضرب النساء.. فهل عاب على أحدهما دينه والاثنان لهما شرف صحبته عليه الصلاة والسلام؟! أوليس هذا دليلاً على أن الدِّين وحده ليس معياراً للقبول؟ وقد يكون كل واحد منهما يتمتّع بفضائل كثيرة وأخلاق راقية ولكنه لم يرتضِ صفة فيهما فنصحها برفضهما ولنا فيه أُسوة حسنة صلى الله عليه وسلم فلا نضيّقنّ واسعاً!
وفي صحيح البخاري ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً" وهذا الصحابي خلوق وملتزم ولكنها لم تعد تتقبّل عشرته ففرَّق بينهما الحبيب صلى الله عليه وسلّم ولن ينهرها ويوبِّخها ويذمّها ولم يجبرها على البقاء معه لأنه خلوق وملتزم بل أطلق سراحها من قفصٍ لم تعد ترغب به!
يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: "من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء." أوليس في هذا الحديث دليلاً على أن الخاطب يجب أن يكون مستطيعاً للنكاح وليس فقط ملتزماً وخلوقاً؟!
وجاء في الحديث الصحيح: "إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم" وهذا دليل على أن الالتزام والخلق وحدهما لا يكفيان وإنما الرؤية التي تُفضي إلى القبول أساس! وفي حديث آخر وصية الحبيب للصحابي الذي خطب أنصارية حيث قال: "هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا" وهذا حثّ منه صلى الله عليه وسلّم على رؤية الشكل الخارجي وليس فقط الاهتمام بالجوهر والباطن!
وقد وصّى الحبيب عليه الصلاة والسلام بالبِكر الولود الودود فهل مَن كانت خلاف ذلك فهي غير ملتزمة ولا خلوقة وبالتالي يجب النفور منها؟!
ومن جهة أُخرى فإنّ التكافؤ -أي التقارب والمماثلة- هو أمر مهم جداً في عملية الاختيار إلى جانب الدِّين والخُلُق وإن لم يكن شرط من شروط صحة النكاح.. فالتكافؤ الدِّيني –خاصة للمسلمة إذ لا يحق لها الزواج إلا من مسلم- والاجتماعي والمادي والعلمي والثقافي والعُمري أدعى لأن يحدث التوافق النفسي والانسجام في الأسرة ولأن تقلّ فرص الشقاق والنزاع.. وقد جمع أحد الإخوة أنواع الكفاءة واعتبارها عند الفقهاء فقال: أن الكفاءة تكون في النسب (وهي مُعتَبَرة عند جمهور العلماء خلافاً للإمام مالك) وتكون في المال (وهي مُعتَبَرة عند الحنفية والحنابلة وقول عند الشافعية) وتكون في الحرية (وهي مُعتَبَرة عند الحنفية والحنابلة خلافاً لمالك) وتكون الكفاءة في في الصنعة والمهنة (وهي مُعتَبَرة عند الحنفية والشافعية والحنابلة) وبالسلامة من العيوب الفاحشة (وهي مُعتَبَرة عند المالكية والشافعية وابن عقيل من الحنابلة).
فإن فَقَد الخاطبان بعض عوامل التكافؤ قد ينجح الزواج إن استطاعا التكيّف والتعايش مع هذا الفَقْد.. والملحوظ أن الرجل حين يكون أعلى من زوجته مادياً أو اجتماعياً أو تعليمياً فحينها هذه الفروق تكون مقبولة لأنه القوّام أما إن كان دون الزوجة فيصعب عليها قبول قوامته وإمارته للأسرة!
يقول الغزالي رحمه الله: "يجب على الولي أيضا أن يراعي خصال الزوج، ولينظر لكريمته، فلا يزوجها ممن ساء خَلقُهُ أو خُلُقه، أو ضعف دينه، أو قصّر عن القيام بحقها، أو كان لا يكافئها في نسبها." وقد خطب أبو بكر وعمر فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلّم فقال الحبيب: إنها صغيرة، ثم خطبها عليّ، فزوَّجها منه.. وروي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بامرأة شابة زوَّجوها شيخاً كبيراً فقتلته، فقال: "يا أيها الناس! اتقوا الله ولينكح الرجل لمته من النساء، ولتنكح المرأة لمتها من الرجال." (يعني: شبهها)..
ولنكن واقعيين.. فإنّ هذه التعقيدات في أمور الزواج –خاصة من جهة التكافؤ- لم تكن على أيام السلف الصالح لأنهم كانوا أليَن جانباً وأقرب إلى الدِّين من مجتمعاتنا الحالية.. أما اليوم ونتيجة لموجات التغريب والغزو الفكري والإعلام والتعلّق بالدنيا والمادة بالإضافة إلى ضعف الوازع الدِّيني نجد أننا بحاجة إلى وضع أسس ونشر تعاليم تتعلّق بشروط قبول الخاطب أو المخطوبة للتخفيف قدر الإمكان من حالات الطلاق التي تحصل في المجتمع العربي بشكل عام وحتى بين الملتزمين أنفسهم.. وما خبر الأخت التي ابتدأت به مقالي عنا ببعيد.. فقد اختلفت حتى مفاهيم الالتزام والأخلاق! وبات البعض يعتبر الشاب الذي يصلّي ولا يزني ولا يسرق كأنه وريث الصحابة!! وفعلياً ليس كل ملتزم هو ملتزم وليست كل محجّبة هي متديّنة!
ولذلك على كل طرف دراسة شخصية الطرف الآخر ودينه وأخلاقه وعيوبه ومميزاته وسلوكه وطِباعه وبيئته وأسرته ووضعه بشكل عام دون إغفال الاستشارة والاستخارة لاختيار من يناسبه وتتحقق معاني السكن فيه لبناء أسرة مستقرة ينشأ فيها جيل يحمل على عاتقه إعادة أمجادٍ طمسناها بجحودنا وإعراضنا..