هل يُصلِِح الابتعاد عن السياسة الأوطان والمجتمعات

هل يُصلِِح الابتعاد عن السياسة الأوطان والمجتمعات؟!

صبحي غندور*

[email protected]

هل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟! وهل يُصلِح الابتعاد عن السياسة الأوطان والمجتمعات؟!

إنّ الابتعاد عن السياسة ومشاكلها يزيد من تفاقم الأزمات ولا يحلّها، يصنع الفراغ لمنتفعين وانتهازيين يملأونه بمزيد من السلبيات، يترك الأوطان والمجتمعات فريسةً سهلة للطامعين بها، ويضع البلدان أمام مخاطر الانشقاق والتمزّق إذا انحصر "الساسة" فيها على أصحاب مفاهيم وأطر وأساليب انشقاقية.

هناك مزيج من الأسباب قد تدفع الناس إلى السلبية وإلى تجنّب الانغماس في العمل السياسي. بعض هذه الأسباب هو محصّلة تراكمات داخلية من تعثّر محاولات الإصلاح والتغيير السليم.

لكن أيضاً، هناك فرق بين من يمارسون السياسة لمصالح خاصّة فئوية وبين من يستخدمون العمل السياسي من أجل خدمة مبادئ وأهداف عامّة يستفيد منها المجتمع ككل.

طبعاً السّمة المشتركة بين كلّ المجتمعات، بغضّ النظر عن طبيعة الحكم الدستوري فيها، هي ابتعاد أكثرية الناس عن العمل السياسي ووجود ما يُعرف باسم "الأكثرية الصامتة" التي تتجنّب السياسة والسياسيين وترى فيهما شرّاً لا بدَّ من الابتعاد عنه!

ويكبر حجم هذه "الأكثرية" كلّما كانت الممارسة السياسية في المجتمع قائمة على أساليب خاطئة أو على قناعة بفقدان الأمل بالتغيير أو على انحسار العمل السياسي في أشخاص وأطر حزبية ليست محلاً لثقة النّاس.

وقد يكون العامل المنفعي أحياناً سبباً لدى البعض للابتعاد عن العمل السياسي تخوّفاً من محاذير وانعكاسات سلبية على العمل أو المال أو الأهل، إلا أنّ هذا العامل المنفعي قد يكون هو نفسه أحياناً أخرى وراء قرار البعض بالعمل مع هذا "الزعيم السياسي" أو تلك "الجماعة السياسية".

إذن، هي دوافع مختلفة للابتعاد أو الاقتراب من السياسة والعمل السياسي، وتتحكّم فيها أولاً وأخيراً، طبيعة ظروف المجتمعات ومدى الحرّيات العامّة فيها، ومستوى فكر وعمل مؤسسات المجتمع المدني.

ولقد ارتضت، للأسف، أقلام عربية أن تكون هي أيضاً عنصراً مساهماً في إشاعة مناخ السلبية والانقسام بين أبناء الأمّة العربية، فراحت تكرّر تصنيفات وتسميات كانت في العقود الماضية من الأدبيات الإسرائيلية فقط، فإذا بها الآن تتقدّم التحليلات السياسية لبعض الأقلام العربية!

فكيف سيكون هناك مستقبل أفضل للشعوب والأوطان والأمّة ككل إذا كان العرب مستهلَكين إعلامياً بأمور تفرّق ولا تجمع!

وهناك من يتحدّث في هذه الأمّة عن "يقظة دينية" بينما هي لدى البعض عودة إلى "أصولية جاهلية" تهتمّ بالقشور ولا تركّز على مبادئ الدين وقيمه. ومسكينٌ هذا الجيل العربي الجديد الذي يتمزّق الآن بين تطرّف سلبي لا مبالٍ وبين تطرّف جاهلي يدفع بعضه للعنف باسم الدين ولما هو أصلاً من المحرّمات الدينية.

إن الشعوب والمجتمعات تنهض وتنخرط إيجابياً في العمل السياسي حينما تتحوّل الحركات السياسية إلى قوًى جامعة فعلياً لكلّ أبناء أوطانها، فلا تنسخ سيئات الواقع إلى داخل أفكارها وكوادرها.

إن "الشارع العربي" بالمعنى السياسي هو حالة تحرّك جماهيري عربي تتّصف بالشمولية الحركية، وبالوقوف خلف قضيةٍ واحدة، وبوضوح الهدف المطلوب إنجازه. فهل تتوفّر الآن هذه العناصر في المنطقة العربية بحيث تحدث حركة جماهيرية عربية واحدة؟

فالجماهير العربية لا تخرج من تلقاء نفسها إلى الشوارع ما لم تكن هناك نقطة جذبٍ لها تدفعها للحركة وللتفاعل الحيوي معها. فأين هي نقطة الجذب العربية الآن؟ وهل هناك إمكان للفصل بين "القضية" و"القيادة" و"الأسلوب"، وهي عناصر جذب الجماهير العربية للتحرّك في الشوارع؟

هناك الآن حالة "تكيّف" عربي مع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي وتمزّق بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخّل الأجنبي، ومع أوضاع الفساد السياسي والاقتصادي التي وصلت في بعض البلدان إلى حدّ العفن، غير أنّ من يعيشون فيها وحولها اعتادوا على رائحتها الكريهة!!..

الجماهير العربية تحرّكت وتتحرّك حين تكون هناك ثقة بأنَّ حركتها هذه ستؤدّي إلى تغييرٍ نحو وضعٍ أفضل، وبأنَّ قيادتها لن تخذلها أو توظّف حركتها لصالح قضايا ومصالح فئوية على حساب القضية الكبرى والمصلحة العامة.

ولعلّ هذا ما يفسّر كيف كانت حركة الشارع العربي زاهرةً ونابضة في الخمسينات والستينات، وكيف أنَّها ركدت وخبت في الربع الأخير من القرن الماضي بعدما تحوّلت القضايا العربية المشتركة إلى "قضايا عربية متصارعة"، وبعد أن اشتعلت أكثر من حربٍ أهلية عربية في أكثر من مكان، وبعد أن شاخت حركة بعض المنظمات السياسية العربية أو اتجهت في مساراتٍ فئوية ومحلية.

من هنا أهمّية وجود القيادات والمؤسسات السليمة والأساليب الواضحة في أبعادها، إضافةً إلى ضرورة معالجة الخلل ما بين القضايا العادلة وبين "المحامين" الفاشلين المتولّين الدفاع عنها.

وكلّما ازداد القهر السياسي في البلاد العربية، وكلّما ازدادت الحكومات العربية في منع المواطن من ممارسة الحدّ الأدنى من حقوق التعبير السياسي والفكري، انتقلت الحركة الفاعلة من "الشارع" إلى "الأنفاق المظلمة" التي لا تعرف الرأي والرأي الآخر، أو التي تتأسّس فقط من أجل استخدام أسلوب العنف بديلاً عن أسلوب التفاعل الإيجابي تحت شمس الحرّية.

المشكلة الآن، أنَّ الإنسان العربي قد وضعته ظروف بعض الحكومات الراهنة أمام خيارين:

إمَّا التوجّه إلى "الأنفاق" بديلاً عن الحركة الجماهيرية الممنوعة في "الشارع"، أو "الإقامة الجبرية" في المنازل أمام شاشات الفضائيات العربية حيث الاكتفاء ممّا يحدث بالعلم والخبر، مع حقّ استخدام اللعن الفردي أحيانا عبر الاتصال الهاتفي!.

والحاصل في الحالتين هو إبعاد الإنسان العربي عن "الشارع" وجعله، إمّا ملاحقاً في عتمة الأنفاق أو محلّقاً وحده في الفضاء مع برامج الفضائيات العربية!!

إنّ الإرادة الإنسانية مطلوبة في عملية تغيير أوضاع أي قوم حتى يغيّر الله ما بأنفسهم، والإنسان/الجماعة (لا الإنسان الفرد) هو دائماً القوة الحاسمة في تغيير أي مجتمع وإصلاح أموره.

إن للأرض العربية حقوقاً على أبنائها المقيمين والمهاجرين. فالأرض البور قد تصطلح إذا كانت هناك إرادة إنسانية فاعلة ومهيّأة لعمل الإصلاح.. لكن تكبر المعضلة حينما لا تكون الأرض بوراً، بل أرض خيرات وثروات، بينما قيادات الشعب هي البور!

هناك حتماً عوامل استنهاض كامنة في الوضع العربي لكنها عوامل تحتاج إلى عمل فكري وسياسي سليم ومنظم ودؤوب لتحريكها وتطويرها، إذ أنّ العناصر السلبية قائمة وفاعلة بحكم سوء أوضاع الداخل ومخطّطات الخارج، بينما تغيير ومواجهة هذه العناصر السلبية يحتاج إلى نهضة عربية شاملة في أوسع نطاق ممكن وعلى المستويات كلّها، الرسمية والشعبية والمدنية، وبما يشمل أيضاً الشباب العربي، داخل الوطن العربي وخارجه.

              

*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)