التّصور الصّهيوني(1)
التّصور الصّهيوني
للتفتيت الطّائفي والعرقي
-1-
اللواء الركن: محمود شيت خطاب
مستهل
لم تكن محاولات التفتيت الطائفي والعرقي للعرب جديدة، بل هي قديمة، ولكنّها استمرت بلا هوادة، تتصاعد تارةَ وتشتد، وتخفت أُخرى وتمهد، فلمّا جاورت اليهود العرب وكانت قريبة منهم في الجوار، تصاعدت تلك المحاولات واشتدت ، كما جرى في العراق على أيام البابليين والآشوريين، وفي منطقة المدينة المنورة على عهد الرسالة، وفي البلاد العربية عامةً بعد ظهور الكيان الصهيوني في الأرض العربية المحتلة: فلسطين.
الصهيونية ظهرت للوجود بشكل رسمي بعد المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897 في مدينة بازل السويسرية، والصهيونية هي عبارة عن زج اليهودية في السياسة، فكل الذين عملوا في السياسة من يهودهم في الواقع صهاينة، دون التعرض للاختلاف في الرأي من جراء الأسماء والمسميات، وزعماء الصهيونية هم الذين قالوا: إن الصهيونية هي العودة إلى اليهودية في روحها، والصهاينة هم اليهود العاملون في السياسة. وقد عمل اليهود في السياسة منذ أقدم العصور كما هو معروف.
ولم يخف الصهاينة القدامى والجدد، عداوتهم للوحدة العربية، تحت لواء الإسلام على عهد الرسالة، وحتى عصرنا الحاضر، وقد ذكر أنتوني ناثنك: "أن زعماء وزارة الخارجية الصهيونية قالوا له: إن حكومتهم ستلجأ إلى كل وسيلة ممكنة، من أجل إبقاء جيرانها العرب ممزقين"(1) لأن الصهاينة الجدد يعلمون حق العلم: "أن القضية الفلسطينية لن تحل حلاً نهائياً لصالح العرب، إلا إذا اتحد العرب"(2) كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي.
وتاريخ الحرب العربية الصهيونية منذ سنة 1948 حتى اليوم، تثبت أن الصهاينة قاتلوا جيوشاً عربية منفردة وليس جيشاً عربياً واحداً، وقاتلوا بقيادة صهيونية واحدة قيادات عربية شتى، وازدردوا الجيوش العربية على انفراد لقمة بعد لقمة، وما كان بمقدورهم ازدراد جيش عربي واحد لقمة واحدة، فلما هاجم الصهاينة لبنان ترك العرب لبنان يقاتل منفرداً، دون أن تمد له دولة عربية دعماً مادياً، بل كان موقف العرب اتجاه محنة لبنان موقف المتفرج، كأن أمر لبنان لا يهمهم من قريب ولا بعيد.
تعالج هذه الدارسة، لمحات من محاولات اليهود الصهاينة في إضعاف العراق قديماً، وفي مصاولة الإسلام، ومقاومتهم للوحدة العربية بالتفتيت الطائفي والعرقي، في محاولة لتشخيص الداء، تمهيداً لوصف الدواء، مذكرين (لعل الذكرى تنفع المؤمنين).
وسنجد أن اليهود عوملوا بالحسنى من العرب قبل الإسلام، ومن العرب المسلمين بعد الإسلام، في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، وفي مختلف العهود والأزمنة، ولكنهم قابلوا الحسنى بالغدر والعنف والقسوة، واستولوا على فلسطين وأجزاء أخرى من سوريا ولبنان، وجعلوا من أهلها لاجئين يطاردونهم بلا رحمة في لبنان وفي الأرض المحتلة، بأساليب مباشرة وغير مباشرة، وهكذا أثبت هؤلاء المعتدون أنهم عبيد مصالحهم وحدها، ولا علاقة لهم بالوفاء ولا بالمثل التي تميز الإنسان السوي من غيره من وحوش الغاب.
محاولة إضعاف العراق القديم
تعتبر الطائفة اليهودية في العراق، من أقدم الطوائف اليهودية في العالم، إذ يرجع معظمها إلى أولئك الذين اقتيدوا أسرى إلى بابل(3) على يد الملك الكلداني الشهير نبوخذ نصر عامي (597 ق.م و586 ق.م)، وحافظوا على وجودهم في العراق على مر العصور، ولم يتعرضوا إلى نفي أو اضطهاد أو هجرة إلى الخارج(4)، وهؤلاء اليهود هم الذين وقفوا ضد نبوخذ نصر وجيشه، فأسرهم نبوخذ نصر، ورافقتهم عوائلهم إلى العراق، فهم لا يشكلون إلا جزءاً من يهود فلسطين(5)، وليس جميع يهود فلسطين كما يرى قسم من المحققين، لأن في هذا الادعاء مبالغة، إذ لا يمكن أسر جميع يهود المنطقة مرة واحدة، ومن المعقول أسر المقاتلين حسب، وغض الطرف عن غير المقاتلين(6). إلا أن هذا لا يعني البتة أن جميع يهود العراق قد جاءوا قسراً عن طريق الأسر البابلي الأول سنة 597 ق.م، والثاني سنة 586 ق.م، بل إن قسماً لا يستهان به من الطائفة اليهودية في العراق القديم، جاءوا طوعاً في وقت مبكر إلى العراق، لاستغلال مواهبهم والمساهمة في العمل للدولتين البابلية والآشورية(7) والاستفادة من خيرات العراق الزراعية والتجارية، غير أن احتلال كورش الفارسي للعراق، وإسقاطه للدولة الكلدانية سنة 538 ق.م، كان بمثابة الإفراج لمن اعتبر نفسه أسيراً من يهود فلسطين. وكان لتعاون اليهود مع كورش في غزو بابل من جهة، وتمهيدهم لتفتيت الجبهة الداخلية، بإشعال الفتن وتفريق الصفوف والتأثير في معنويات الكلدانيين،من جهة ثانية ما سهل على كورش التغلب على البابليين في ميدان القتال، كما استغل اليهود زوجة كورش اليهودية الجميلة لتحريضه على توسيع رقعة الدولة الفارسية على حساب العراق، فلما انتصر كورش سمح لليهود بالعودة إلى فلسطين لمن أراد منهم، وهكذا عادت القافلة الأولى من بابل إلى فلسطين، وتبعهم بعد ذلك جمع غفير(8) إلا أن العائدين لم يكونوا كل اليهود، إذ فضل قسم منهم العيش في العراق، بعد أن تيسر رغد العيش فيه. وبذا يمكن القول: بأن يهود العراق يتألفون من: أسرى، ومهاجرين طواعية، ثم أخذ عددهم يزداد حتى بعد العودة على عهد كورش، مع مرور الزمن، ومما ساعد على ازدياد عددهم، ما كانوا يتعرضون له من اضطهاد في فلسطين على يد أباطرة الرومان، فكانت بيئة العراق بمثابة متنفس لهم، يغدون إليها من وقت إلى آخر فراراً من ظلم الرومان، وهكذا تكونت جاليتهم وأصبح لهم كيان في العراق(9).
وقد لقي يهود العراق، في العراق القديم، كل رعاية واهتمام، فقد أسكن نبوخذ نصر أسراهم في بابل، وكان بإمكانه إسكانهم في الصحراء، ولكنه حباهم برعايته الكاملة، ولم يتعرضوا في العراق للنفي أو الاضطهاد كما تعرض غيرهم في البلاد الأخرى، وكان إيثار أكثر بقايا الأسرى منهم البقاء في العراق وعدم النزوح منه بعد سقوط بابل، دليلاً قاطعاً على أنهم كانوا في رعاية وعناية كاملتين في هذا البلد الآمن المطمئن، وحتى الذين عادوا إلى فلسطين هاجروا من جديد إلى العراق لأنهم افتقدوا بعد عودتهم عدل العراق، وتحملوا ظلم الرومان، فآثروا العدل على الظلم. ولكن كان جزاء العراق وأهله من الذين أحسنوا إليهم وأطعموهم من جوع وآمنوهم من خوف، جزاء سنمار، إذ فرقوا صفوف العراقيين، وشتتوا كلمتهم، وأنشبوا بينهم الحقد والبغضاء وفتتوا سكان العراق وجعلوا منهم طوائف وفرقاً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، وزعزعوا معنوياتهم، وحرضوا عدوهم على غزوهم، وعاونوا الغازي مادياً ومعنوياً، حتى تحققت له الغلبة، فكانوا عملاءه علناً بسقوط بابل، بعد أن كانوا عملاءه سراً قبل سقوطها.
وهكذا كان دأب اليهود الصهاينة القدامى، منذ خمسة وعشرين قرناً خلت: تفتيت البلد الذي يعيشون فيه إلى طوائف وعروق، ويعاونون أعداءه عليه ويتعاونون عليه، ويحرضون الغزاة على استعبادهم لعله يستفيدون مما جنت أيديهم ما يشبع رغبتهم الأزلية إلى التخريب والدماء.
مصاولة الإسلام والمسلمين في عهد الرسالة
1 - اختلف المؤرخون في الوقت الذي هاجر فيه اليهود إلى جزيرة العرب، ويرى المحققون أن هجرتهم إليها كانت في القرن الأول الميلادي سنة (70م) بعد تنكيل الرومان بهم، ويؤيد هذا الرأي طائفة من مؤرخي اليهود والأجانب، كما تؤيده المصادر العربية. وكانت هجرتهم لأسباب اقتصادية، فنزلوا على طريق مكة - الشام التجارية.
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في السنة الثالثة عشرة من بعثته أي سنة (622م)، ومعنى الهجرة عسكرياً، اجتماع القائد بجنوده، في قاعدتهم الأمينة(10)، وكان من جملة ما اتخذه الرسول القائد عليه الصلاة والسلام من إجراءات لترصين قاعدته الأمنية في المدينة المنورة، عقد (معاهدة) بين المسلمين من جهة وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى، وادعهم فيها وأقرهم على دينهم وأموالهم، وفي هذه المعاهدة نظم الرسول عليه الصلاة والسلام الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية لسكان المدينة المنورة من مسلمين ومشركين ويهود: "... وإن من تبعنا من اليهود، فإن له النصر والأسوة - أي المساواة في المعاملة - غير مظلومين ولا متناصرين عليهم"(11) فأصبح بين اليهود والمسلمين بموجب هذه المعاهدة ارتباط مصيري يلتزم به الطرفان في السلم والحرب، ولا يخرجون عن المعاهدة نصاً وروحاً.
ولكن اليهود الصهاينة القدامى، منذ الأيام الأولى التي ظهر فيها النبيّ عليه الصلاة والسّلام في المدينة المنوّرة، نصبوا له العداء. وانطلقوا بمكرهم يكذبونه ويؤلّبون عليه العرب، ولا يدعون سبيلاً من سُبل الكيد له ولرسالته إلاّ ويسلكونه. وتطيّروا من قدومه إلى المدينة، وغلا الحسد والحقد في قلوبهم، وأخذوا ينظرون إلى الإسلام بعيون متوجّسة خائفة، تخشى رسوخ قدمه، وانتشار دعوته، واجتماع الأوس والخزرج تحت لوائه، بعد ذلك العداء الدموي الطويل، الذي كانوا يستغلونه فيحققون به لأنفسهم كثيراً من المصالح والمكاسب والامتيازات الاقتصادية، ولم يقتصروا على التجارة وحدها باعتبارهم يتمركزون في أهم عُقد طريق المواصلات التجاري، بين مكة التي تتصل باليمن والهند، ويعمل أهلها بالتجارة في رحلة الشتاء والصيف، وبين بلاد الشام وأرض الروم، وهي من أهم الطرق التجارية العالمية في حينه، بل شمل نشاطهم الزراعة أيضاً، فسيطروا على أفضل مزارع النخيل في المدينة ووادي القرى وخَيْبَر، فتهددت مصالح اليهود بالإسلام الذي حلّ في المدينة وشيكاً.
2 - وبدأت مكائدهم تَتْرى:
فكانت المكيدة الأولى التظاهر بالدخول في الإسلام نفاقاً، ليعملوا على تخريبه من الداخل، وليطلعوا على أسرار المسلمين وينقلوها إلى جماعاتهم وحلفائهم.
وكانت المكيدة الثانية محاولة الدخول في الإسلام، ثمّ الخروج منه، ليفتنوا بعض المسلمين عن دينهم، فيرتدوا مثلهم.
وكانت مكيدتهم الثالثة في إحراج الرسول عليه الصلاة والسّلام بسيل من الأسئلة المحرجة، التي يُلبسون فيها الحق بالباطل، لعلهم يوهمون العرب أنهم أعلم من الرسول عليه الصّلاة والسلام.
والمكيدة الرابعة في الحرب الدعائية القائمة على الضغط بالتعيير والتنقيص والشتائم لمن شرح الله صدره للإسلام، فأسلم، كما جرى بالنسبة لأحد أحبارهم الذي أسلم. وهو عبد الله بن سلاّم، الذي كان من أكبر أحبارهم، وعالماً بالتوراة، فنقم عليه اليهود نقمة شديدة بسبب إسلامه، وكالوا له الاتهامات الكاذبة ظلماً وعدواناً.
أما المكيدة الخامسة فهي الغدر ونقض العهود والمواثيق التي يبرمونها بينهم وبين المسلمين، كلما اشتدت الأزمات على المسلمين، وظنوا أنّ نقض عهودهم والغدر بالمسلمين قد يوقع بالرسول عليه الصلاة والسّلام وبالمسلمين أذى شديداً.
والمكيدة السادسة في الهزء والسخرية والطعن في الإسلام، كلما سنحت الفرصة لهم بذلك، بغية الصدّ عن اعتناقه، وإضعاف حماسة المسلمين له، إذ يحذرُ ضعفاؤهم من هجمات حرب الهزء والسخرية والطعن والتجريح.
والمكيدة السابعة في الحرب الاقتصادية، بإيجاد نوع من الضغط المالي على المسلمين، حتى ينفضوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والمكيدة الثامنة، هي التفريق بين المسلمين، وتشقيق وحدة جماعتهم، لضرب بعضهم ببعض، وإضعاف قوتهم.
والمكيدة التاسعة في فرض ألوان من الحرب بالإعلام والقتال، ومحاولة اغتيال رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والمكيدة العاشرة في تأليب القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام، على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، وتحريضهم على قتالهم، وتوهين أمر المسلمين في نفوسهم.
والمكيدة الحادية عشرة هي في الاتفاقيات السرّية بينهم وبين القبائل المعادية للمسلمين التي اشتبكت معهم في معارك حربية، وذلك بالاتفاق معهم على أن ينصروهم ويغدروا بالمسلمين، بينما كان المسلمون غافلين عنهم واثقين بأمانهم، مصدّقين عهودهم ومواثيقهم.
إلى غير ذلك من مكائد عرف بها يهود في تاريخهم، فهي من خصائصهم الخلقية التي لا يستطيعون التخلي عنها.
3 - فمن الأمثلة على المكيدة الأولى: التظاهر بالدخول في الإسلام نفاقاً، ما تظاهر به بالإسلام بعض أحبار يهود من بني قَيْنقاع مثل: سعد بن حُنَيْف، وزيد بن اللُّصَيْت، ونُعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، ورافع بن حُرَيملة، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صورياء، فقد أسلم هؤلاء نفاقاً للدسّ، ولكنهم أخفقوا في محاولاتهم وانكشفوا للمسلمين، فافتضح أمرهم، وأصبحوا يعرفون بالنفاق.
ومن أمثلة المكيدة الثانية: الدخول في الإسلام صباح النهار، والخروج منه آخره، ليقلّدهم العرب المسلمون في ذلك، كما فعل عبد الله بن ضيف، وعَديّ بن زيد من يهود بني قَيْنقاع، والحارث بن عوف وهو من يهود بني قُريظة، ولكن محاولتهم انكشفت للمسلمين، فعُرفوا بالنفاق، وحذر منهم المسلمون.
ومن أمثلة المكيدة الثالثة: أسئلة التعنّت والإحراج، أنّ رافع بن حُريملة، وهو حبر من أحبار يهود بني قَينقاع، ووهب بن زيد، وهو حبر من أحبار بني قُريظة، جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: »يا محمّد! ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجّر لنا أنهاراً، نتبعك ونصدّقك«. سؤالان يحملان معنى التعنّت، أراد اليهوديان بهما إحراج الرسول عليه الصلاة والسلام، وزعزعة ثقة المسلمين به في حالة عدم إجابتهما، ولكنّ هذه المحاولة لم تنطل على المؤمنين، فوئدت في مهدها، وأخفقت إخفاقاً كاملاً.
وقد ضربنا مثلاً للمكيدة الرابعة: الحرب الدعائية، بما فعلوه بعبد الله بن سلام، الذي كان أحد أحبارهم، وأحد علمائهم في التوراة.
أما المكيدة الخامسة: في الغدر ونقض العهود والمواثيق، فقد كان الغدر بالنسبة ليهود هو القاعدة، والوفاء هو الاستثناء، ومن أشهر غدرهم غدر بني قريظة في غزوة الأحزاب(12)، فعاقب النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة بعد انسحاب الأحزاب، فنالوا حسابهم العادل الذي يستحقونه(13)، وقصة غدر اليهود في غزوة الأحزاب (الخندق) مشهورة معروفة.
والمكيدة السادسة: الهزء والسخرية والطعن في الإسلام، والمثال على ذلك ما فعله فِنْحاص وهو حبر من أحبار اليهود من يهود بني قينقاع، ولكنّ سخريته ارتدّت عليه وعلى أمثاله بالخزي والعار، لأن المسلمين عرفوا أن مصدرها الحقد والضغينة.
والمكيدة السابعة: الحرب الاقتصادية، فحاولوا تخزيل المسلمين عامة والأنصار خاصة، عن بذل أموالهم في سبيل الله، فطاف حُييُّ بن أخطب، وكَردَم بن قيس حليف كعب بن الأشرف، وهما من أحبار يهود بني النضير، وأسامة بن حبيب، ونافع بن نافع وهما من أحبار يهود بني قريظة، وبحر بن عمر ورفاعة بن زيد بن التابوت وهما من أحبار يهود بني قينقاع - طافوا برجال من الأنصار، يقولون لهم: "لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام يكون"، فأنزل الله تعالى فيهم قوله في سورة النساء: }الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً{(14) فكان رد فعل الأنصار المبالغة في الإنفاق، وبذل أموالهم رخيصة في سبيل الله.
والمكيدة الثامنة: التفريق بين المسلمين وتشقيق وحدة جماعتهم، فمارس يهود تفريق وحدة الصف الداخلي للمسلمين، ومحاولة ضرب بعضهم ببعض، فدبروا مكيدة إثارة النعرات الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج، قبل أن يؤلف الله بينهم ويوحّد صفهم بالإسلام، وذلك بإحياء الخلاف القديم بين الأوس والخزرج وتصدى لتنفيذ ذلك حبر من أحبار يهود بني قينقاع اسمه شاس بن قيس، وكان شيخاً موغلاً في عداوة الإسلام فمرّ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، فوجدهم مجتمعين يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم، فقال: "قد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد لا والله، مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها قرار" وأمر شاس شاباً من يهود كان معه، فقال له: "اعمدْ إليهم، فاجلسْ معهم، ثم اذكرْ يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار". وكان يوم بُعاث يوماً من أيام حروب الجاهلية، اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج. وفعل الشاب ما أمره به شاس، فتنازع الأوس والخزرج وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرّكب، فتلاسنا وتقاولا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم في الحَرَّة وهم يستعدون للقتال، فقطع دابر الفتنة وأعاد الأمور إلى نصابها.
والمكيدة التاسعة: فرض ألوان من الحرب المباشرة، كما جرى في الحرب الإعلامية على ألسنة شعرائهم في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين، كما فعل اليهوديان أبو عفل وكعب بن الأشرف.
وبدأ بنو قينقاع بالتجسس على المسلمين لحساب مشركي قريش، كما تعرضوا لامرأة مسلمة تبيع حليّها في سوق بني قينقاع ونكثوا العهد، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى وادي القرى(15) بعد أن حاصرهم وضيّق عليهم الحصار وانتصر عليهم(16).
وتآمر يهود بني النضير على اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصر عليهم أجلاهم من المدينة المنورة إلى خيبر، فخرجوا عن المدينة(17). وحين كان عشرة آلاف من الأحزاب، يحاصرون المدينة المنورة، نقض بنو قريظة العهد وانضموا إلى الأحزاب، فتحرّج موقف المسلمين بشدة وأصبح الخطر محدقاً بهم من الداخل والخارج فلما رحل الأحزاب عن المدينة حاصر المسلمون بني قريظة لخيانتهم ولأنهم حشدوا الأحزاب لحصار المدينة، فانتصر المسلمون عليهم، فقتلوا المقاتل وسبوا الذراري، وغنموا أموالهم(18).
وحاولت امرأة يهودية دسّ السم للنبي صلى الله عليه وسلم في الطعام، فنفذت خطتها بتحريض من أحبار يهود(19).
والمكيدة العاشرة: تأليب القبائل العربية التي لم تدخل الإسلام، فقد قصد نفر من يهود قريشاً في مكة، فيهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدوهم أنهم سيكونون معهم في قتال المسلمين، ولما وافقت قريش على قتال المسلمين، قصد أولئك النفر من يهود غطفانَ وغيرَها من القبائل، وأخبروهم أن قريشاً معهم، فوافقت غطفان والقبائل الأخرى على حرب المسلمين(20).
وهكذا فقد كثف اليهود القدامى على عهد الرسالة، جهودهم في مصاولة الإسلام والمسلمين، مستهدفين عدم توحيد سكان المدينة المنورة «يثرب» من الأوس والخزرج، وإبقاء العداوة بينهم قائمة والحرب مستعرة، ليضمنوا بقاء أعدائهم ضعفاء، من أجل التحكم فيهم وانتهاب خيراتهم واحتكار مواردهم الاقتصادية، وعدم توحيد العرب في شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام، ليبقى التفرق سائداً، والحرب ناشبة، والضغائن والأحقاد متحفزة، تعمل عملها المدمر في حياة العرب وحاضرهم ومستقبلهم، لأن اليهود يعلمون أن العرب إذا توحدوا تحت لواء الإسلام، أصبحوا بالوحدة والإيمان، قوة ضاربة، تجد لها متنفساً في الفتوح، كما جرى فعلاً، فلم يبق اليهود سادة الموقف، يتحكمون بمصائر المنطقة العربية اقتصادياً بخاصة واجتماعياً بعامة، بل أصبح العرب المسلمون بالوحدة هم السادة. ليس في شبه الجزيرة العربية فحسب بل خارجها في بلاد فارس وبلاد الروم فثلوا بعد سنوات قليلة عرش كسرى وزعزعوا عرش قيصر، وأصبح اليهود بالمؤخرة بالنسبة للعرب والمسلمين، وهذا ما كانوا يخشونه ويحذرونه: الوحدة، والإيمان، فأحبط المسلمون مكايد اليهود، وانتصر الحق على الباطل وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
الهوامش
(1) وانظر: طريق النصر في معركة الثأر (262). Nuting, Antong: I saw for my self p.93, London 1958.
(2) انظر - الدر- نقولا - هكذا ضاعت وهكذا تعود - ص (256) - بيروت - 1964.
(3) مذكرات غروبا - انظر نجدة فتحي صفوة - العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب - ص (45) بيروت - 1969.
(4) د. علي إبراهيم عبدة، وخيرية قاسمية - يهود البلاد العربية - ص (45) - منظمة التحرير الفلسطينية - مركز الأبحاث - بيروت - 1971.
(5) صادق حسن السوداني - النشاط الصهيوني في العراق 1914 - 1952 - دار الشؤون الثقافية العامة - وزارة الثقافة والإعلام - بغداد -ط2 - 1986.
(6) غنيمة - يوسف رزق الله - ص (52) - نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق - بغداد - 1924.
(7) عون - الدكتور حسن - العراق وما توالى عليه من حضارات - الاسكندرية - 1953 - ط2.
(8) غنيمة - المصدر السابق - ص (52).
(9) عون- المصدر السابق - ص (218).
(10) القاعدة الأمنية: المدينة أو المنطقة الذي يستند عليها الجيش في إمداده بالرجال والسلاح والمواد، وينطلق منها، ويعود إليها.
(11) خطاب - محمود شيت - الرسول القائد - انظر نص المعاهدة وشروحها - ص (71 - 75) دار الفكر - بيروت - 1974 -ط5.
(12) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (201 - 239).
(13) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (243 - 247).
(14) الآية الكريمة من سورة النساء (4: 37).
(15) وادي القرى: موضع جنوبي خيبر، بين المدينة المنورة وخيبر.
(16) الرسول القائد - مصدر سابق ص (153 - 155).
(17) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (205 - 209).
(18) الرسول القائد - مصدر سابق ص (244 - 247).
(19) حسن حبنكة الميداني - مكايد يهودية - ص (122 - 143) - بيروت - 1974.
(20) الرسول القائد - مصدر سابق - ص (229).