كيف تصبح كاتباً (10)
كيف تصبح كاتباً
(10 من 10 )
النور الآن في قلمك وملك أناملك
بقلم: محمد السيد
1- مقدمة:
ها أنت تقف عند بوابات الفجر، مفتوناً بأحلام أوقدت العزم، واستلت النور من قلب الصمت، لتضعه بين أناملك والقلم.
ها أنت تطرد الآهات، وتطلق للقلم العنان، بعد إذ جاءتك المواهب مذعنة، والتجارب والخبرات دانية، والعذب من صولات الذود عن الحياض يؤزها الشوق إلى النور طارد العتمة، والروح قد أثقلها طول البقاء عند أقدام المراوغة، فانطلقت اليوم، تعدو مع الحنين، تلفظ التقلب في أحضان التردد والنأي عن الإقدام.
إنه نور البيان، يطوق عنقك بواجب الصعود بالإنسان إلى شمس الأنبياء، حيث ضياء الهدى في قبضته سلاح النجاة، فلا تخش في هذا السبيل شيئاً، وكن "رابط الجأش على الأغباش"، أي جسوراً في المواقف، مقداماً في اتخاذ القرار في اللحظة المناسبة، لا تهاب المواجهة في الحق وللحق..
فأنت بالكلام الذي تقول أو تخط تتعدى نفسك، لتفتق عن أزاهير العقل كمائمه كما قال الجرجاني في أسرار ا لبلاغة(1).
وأتركك هنا مع بليغ العربية الجاحظ، يدعو لك أيها الكاتب الداعية المؤمن بالتوفيق والإحسان دعاء عظيماً بليغاً، وافياً بما تحتاجه من أجل انبثاق النور في المعنى الذي تريد أن توصل، واللفظ الحامل الجزل.. فقل معي ومع الجاحظ آمين.. نمهر بها دعاءه البلاغي:
"جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة سبباً، وبين الصدق نسباً، وحبب إليك التثبت، وزين في عينيك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة".(2)
2- علامات هاديات على طريق الوصول:
أ- قال ابن المقفع في أدبه الصغير: "فلينظر امرؤ أين يضع نفسه. ص1.
نعم فلينظر امرؤ مؤمن أين يضع قدمه في لحظات يسودها الظلام والضلال، وليعرف أن ما يعينه على ذلك معرفة المهمة الوحيدة التي خلق من أجلها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فإذا هو عرف حق المعرفة أنه موجود من أجل العبادة، وضع نفسه وقلمه في هذا السبيل، بأبعاده التي تشمل كل أعمال الإنسان في يومه وليلته، التي من أهمها دلالة الناس على الخير من خلال مهنته كاتباً ومبلغاً عن الله ورسوله: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، "ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً". فأنت يا صاح مبلغ بقلمك وحالك، داع إلى هدى، ودال على خير...
فهذا هو مكانك، تسكن في ظلال الكلمة الرفيفة حاملة الهم الإيماني الإنقاذي، تريد له أن يلامس قلب كل إنسان بحنو يملأ الكيان من الفطرة الخافقة في أصل الروح والخلق. فهل عرفت أين موضعك من هذا العالم المحيط بك؟ المائج بكل عجائب النفوس وغرائب الدعوات. وضلال الفكر، واعوجاج المناهج، وادعاء الرجال، ودعاة على أبواب النار، تفتح لهم الأبواب والأمكنة، وتسهل لهم سبل ارتقاء منابر الخطاب، بينما توصد تلك الأبواب، وتصعب السبل على أصحاب الكلمة المرجوة لخير الأمة وفلاحها وصلاحها وتقدمها. فإذا كنت الآن أو من قبل قد عرفت ذلك فالزم المكان الذي اخترته لنفسك، وابعث فيه الحياة والأمل فلا بد أنك حينئذ ستجد الاستجابة المرجوة لكلمتك.
ب- قال الأحنف بن قيس: "من لم يكن له علم ولا أدب، لم يكن له حسب ولانسب"(3).
وقال صالح بن عبدالقدوس:
وجامع العلم مغبوط به أبدا فلا يحاذر منه الفوت والطلبا(4)
فأنت أيها الكاتب المؤمن لن تنال المنى والمكان الذي اخترت، وإحسان الصنعة التي امتهنت إلا بالعلم. فلا تنفك عن نشدانه مادمت حياً، ولتعلم أنه مذخورٌ في بطون الكتب وفي خبرات الحياة.. وأول الكتب ورأسها وعظيمها القران وثانيها السنة المشرفة، ثم الأمثل فالأمثل مما له صلة بهذين الأصلين، ومما له علاقة بالحياة ونفوس البشر ودنياهم وحركات المجتمعات وإدارتها وتحولاتها، وقيام الدولة وزوالها، وارتقاء الحضارات وانهيارها، وفخر الآداب وعز علومها وتطورها.
فاضبط رغائبك وطموحاتك بكل ذلك الذي ذكرناه آنفاً، تكن مستحقاً للمقام الأعلى، والذكر الذائع المجلى.
ج- قال الله جل وعلى في كتابه العزيز: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق..). وقال مصطفى صادق الرافعي- رحمه الله- في التعليق على هذا البيان القرآني كلمات مجيدات نقتطف منها ما يلي:
"ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان.. وبينا هي ترف بندى الحياة على زهر الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير، وتهب عليها بأنفاس الرحمة فتنم بسر هذا العالم الصغير..."(5). لاحظ أن هذا يعني لك الشيء الكثير، الذي أوله ورأسه الأمل والثقة بالتفوق على الباطل، بالحق الذي تحمله، فأنت تقذف في وجه الباطل بالكثير. فهذا الوثوق، يتنزل على نفس المبلغ مثل ندى الصباح على الورقة العطشى، فبينما تنفح روحك توجساً وريبة في الأسباب، يحملك الوثوق على اجتياز مفازات كؤود من ا لتردد والخوف ورياح الخذلان، فلتمعن التأمل في قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق" ولتكرر قراءة وصف الرافعي لهذا البيان العظيم، ولسوف تجد العافية، تجوب كل أركان روحك وجسدك، ولسوف تجد قلبك طارداً بقوة القنوط، ومنطلقاً بشفافية وضيئة في سبل التحدي للصعاب. ومتدفقاً بأنهار الأمل مثل ينبوع ثر نقي متجدد الدفق والصدح والعطاء..
3- إبداع واقعي..
وأعني بالإبداع الواقعي ذلك اللون من الكتابة الذي يراعي العصر والمحيط المتلقي، بعيداً عن تتبع الغرائب والمفاجآت الملأى بوحشي الكلام وغريبه، المنتهية إلى إيراد الأحداث بشكل بعيد عن أذهان الناس وإمكانية اقتناعهم. وقد سبق لابن المقفع أن نصح أحد الكتاب بقوله: "إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً في نيل البلاغة، فإن ذلك العي الأكبر" فأرز إلى الواقعية البليغة التي تحبب المطالعة إلى الناس وتجعلهم قادرين على قطف المعاني واستحسانها.. واعلم أن لكل عصر أسلوب وطريقة وشروط للبلاغة، يأنس إليها الناس ويتحرون في ضالتهم، فأنت إن خرجت من ذلك كله، وتتبعت أساليب عصر آخر أو أرض أخرى أو مجتمعات أخرى، من أجل أن يقال عنك أنك أبدعت تطويراً، يكون بذلك قد طردت نفسك من ساح القبول والإقبال على علمك، وما تريد أن توصله إلى الناس.
ولا يغرنك هذا الضجيج أو الفحيح اللذان يحاولان أن يسوقا غثاء من التطوير، باسم النهضة أو التنوير وهما لا يعدوان عندهم أن يصنعا لافتات مضللة زائفة تقول فيما تقول:
الإسلام السياسي الذي يحمل دعاوى سياسية ألبست ثوب الدين وليست ديناً ألبس ثوب السياسة.(6)
- استغلال الدين من أجل الوصول إلى الحكم..!!
- كل ما هو غربي تنوير .. وكل ما هو إسلامي ظلامية..!!..
- اللغة العربية يجب أن تتفجر، وتحل محلها لغة مقطوعة الاتصال بالتاريخ..!! إلى آخر ما هنالك من اللافتات، التي أخذت على عاتقها مهمة تدمير الأمة وثقافتها ومستقبلها، وقد وجدت هذا الادعاءات الضالة مكاناً، ووجد أصحابها لهم مكانة في عقود القرن الماضي الأخيرة.. فكان ضجيجها وقيادتها وعلوها هو الذي أوصل أمتنا إلى مجموعة الهزائم التي ابتدأت منذ أواخر الحرب العالمية الأولى وحتى اللحظة.
يمكن أن نعدد من هذه الهزائم:
سقوط الأمة في فخ التعاون (ضد دولتهم الإسلامية الجامعة) مع الأجنبي الذي اقتسم الغنيمة بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد سقوط الوحدة التي كانت تجمع أقطار وشعوب العرب تحت الراية العثمانية، وهكذا تشرذمت الأمة، وانحدرت في مهاوي سايكس -بيكو وأتباعه وما جر من خذلان صنعناه بأيدينا وبواسطة دعاة (التنوير) منا..
ثم جاءت هزيمة عام 1948 وضياع فلسطين وتلتها هزيمة عام 1956 و1967.. وهزائم الحرب اللبنانية التي غدا الأخ فيها يقتل أخاه. وعلى منوالها تمت هزائم حربين خليجيتين، كان المسلم فيها مقابل المسلم والعربي.. وضحك منا الأعداء كثيراً.. فقد كفيناهم قتالنا إذ قام (التنويريون النهضويون) بمهمة إسقاط الأمة في الخندق العميق الذي أتاح لكل ما هب ودب أن يناوش رؤوسها، ويقتات على حساب ثرواتها، يلاحق دعاة الإسلام والصلاح والتنوير الحقيقي فيها، تحت غطاء دعاوى النهضة والتطوير ليرتفع صوت ومكانة من يدعون إلى تفجير اللغة(7). تلك الدعوة التي تهدف أول ما تهدف إلى قطع الصلة بكتاب الأمة الخالد (القرآن) وقطع الصلة بتاريخها وتراثها، حتى وصل الأمر إلى الدعوة لاستعمال العامية واستعمال الحرف اللاتيني بدل من ا لحرف العربي(8)، وإلى اعتبار مصر والمصريين أوروبيين وليس عربا مسلمين(9).
4- وبعد: فإنك بسلاح الكلمة مجاهد، تتجلى بالموهبة الأصلية حاضرة طوع بنانك وقلمك، شاهرة سيف الكلمة الطيبة، ساعية لرفع عبء حياة مهيضة عن كواهل المؤمنين، مارسها عليهم جناة الكلمة الخبيثة وما يزالون، فقد ظل الثغر خاوياً أو يكاد من الحراس الخلص الأصلاء، الذين يدفعون بكل جهدهم في المعركة ويفرغون الوسع فيها مزودين بالمعرفة الشاسعة الأبعاد، والفكر النير السديد، والعزيمة الناضجة الحديدية، حاديهم فيها دائماً وأبداً بعض النصائح، التي يجب أن ترافقك، مادام نفس يتردد بين جنبيك:
أ- أن تتأكد أبداً أنك فيما تكتب وما تتكلم لا تخرج عن حدود الهوية والخصوصية، اللتين تميزان الأمة وتعطيانها معناها ومكانها ودورها في الوجود.
ب- أن تكون دائماً يقظاً وحذراً من الغزو الثقافي والفكري والحضاري للشخصية المؤمنة فإن ذلك يحدث في عصرنا بصور شتى ملتبسة متخفية في أردية باهرة، تضيع وعي الجماهير، وتستلب في كثير من الأحايين نخبهم ومثقفيهم قبل أن ينتبهوا.
ج- ولتتذكر أبداً.. أنه كلما كان التصدي للغزو متمسكاً بدين الأمة الذي هو رمز هويتها وقوام وجودها، وعز مكانتها.. فإن الهجمة تكون أشرس ووسائلها تكون أعقد وأبعد وأقوى.. ومهمتك حينئذ تكون أصعب، وعزائمك يجب أن تكون أمتن وأعز.
د- ولتكن دائما ضمن قاعدة الانطلاق، المتمثلة بالاعتزاز بدينك وعقيدتك، وخصوصية أمتك، مليئاً بكثير من مخزون الأمل والتفاؤل والثقة بوعد الله بالنصر والتمكين لهذا الدين في نهاية المآل.
ّهـ- إنها أمانة، وإنك مؤتمن، وأنت إن لم تؤدها حقها بالكامل، فاعلم أنك على حافة زيغ، ينحرف بك إلى الخزي والندامة.. موشومين بالهزيمة، عاريين من كل حجة.
و- فارتشف أخي الكريم من رأس النبع، وأزح من طريقك كل الغثاء والزبد، وادفن إلى الأبد جمر الالتصاق بالتراب والطين في أضرحة التردد، وابعث بهما بقوة مع خمود اليأس هدية إلى الآخر المصارع راجياً أن يعلي بكلمتك كل أمثلة الخير وأشرعة النصر..
تمت الحلقات بعون الله وتوفيقه.
الهوامش:
(1) ص2 طباعة دار المسيرة 1983.
(2) المصدر نفسه ص9/10.
(3) (4) محاضرات الأدباء ص 31/32.
(5) إعجاز القرآن ص30 دار الكتاب العربي 1990.
(6) فرج فودة.. اللواء الأردنية 4/12/1991 من كتابه (قبل السقوط).
(7) أدونيس.
(8) سعيد عقل.
(9) طه حسين.