وقفة ورأي مع قصيدة كعب بن زهير " البردة "
وقفة ورأي
مع قصيدة كعب بن زهير " البردة "
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لا أقصد هنا لأن أُحلّل قصيدة كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ " بانت سعاد …."، في توبته ودخوله الإسلام ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا أقصد كذلك شرحها وتفسير أبياتها ومعاني ألفاظها . الذي أقصده هنا هو بيان رأي لي في مطلع القصيدة الذي دار الخلاف الواسع حوله في تاريخ الأدب والنقد ، وبيان رأي في محور القصيدة الرئيسة التي نعرضها .
ولقد نالت هذه القصيدة شهرة واسعة ، وتصدّى عدد كبير من علماء المسلمين لشرحها ، ومنهم من خمّسها وشطرها . ويذكر الدكتور محمود حسن زيني في تحقيقه لشرح أبي البركات ابن الأنباري لهذه القصيدة أن مكتبة " جلبي عبد الله أفندي " باستنابول تحتوي على شروح مخطوطة مجهولة لهذه القصيدة ، وأن هناك خمسة شروح لهذه القصيدة في مكتبة " لاله لي " باستنابول ، وتحتفظ مكتبة " أسعد أفندي" باستنابول بمجموعة هائلة من شروح لهذه القصيدة ، عدّد المحقق منها تسعة وثلاثين شرحاً مع ذكر أسماء الشارحين وتاريخ ذلك . ثم ذكر عدد المشطرين والمخمسين وأسماءَهم وتاريخ عملهم .
ولقد حقق الدكتور محمود أبو ناجي شرح هذه القصيدة لجمال الدين محمد ابن هشام الأنصاري ( 708-761هـ ) .
ولقد ذكر الدكتور محمد بن سعد بن حسين هذه القصيدة وذكر مناسبتها وبعض التعليقات حولها في كتابه " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " . ولا بدّ أن نذكر مناسبة هذه القصيدة وقصّتها ، ليكون ذلك عوناً لنا على فهم القصيدة من ناحية ، وعلى بيان رأينا فيها من ناحية أخرى .
1- مناسبة القصيدة :
كان زهير بن أبي سلمى قد رأى في آخر حياته وهو نائم أن سبباً من السماء مُدَّ له ، وكان كلّما حاول الإمساك به قبض عنه . فلّما أصبح روى هذه الرؤيا لابنيه كعب وبجير ، ثمّ فسَّرها بأنه سيظهر نبيٌّ داعية لدين جديد ، وطلب من ولديه اتباعه ، فلّما ظهر الإسلام جاء " بجير " رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه ، وتأخّر كعب عن ذلك . ويقول أبو الفرج : خرج كعب وبجير ابنا زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغا " أبرق العزّاف " . فقال كعب لبجير : الحق الرجل ، وأنا مقيم هاهنا ، فانظر ما يقول لك . فقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسمع منه وأسلم . فلّما بلغ ذلك كعباً قال :
فـهل لك فيما قلـتُ ويحك هـل لكا |
|
ألا أبـلغـا عنّـي بُجـيراً رسـالـة |
علـى أيّ شـيء غـير ذلـك دلّكـا |
|
فبـيّن لنـا إن كنتَ لسـتَ بفـاعـل |
عليـه وما تُلفـي عليـه أباً لـكـا |
|
عـلى خُـلُقٍ لم أُلـفِ يـوماً أباً لـه |
ولا قـائـلٍ إمـا عثرتَ : لـعاً لـكا |
|
فـإن أنـت لم تفعـلْ فلسـتُ بآسفٍ |
وأنهـلـك المأمـون منـها وعـلّكا |
|
سقـاك أبـو بكـر بـكـأسٍ رويّـةٍ |
وتأتي هذه الأبيات بروايات مختلفة في المصادر المتعددة التي ترويها ، وأرسل كعب بهذه الأبيات إلى أخيه بجير ، فأبلغ بجير بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله " وذلك عند انصرافه من الطائف .
وهذا هو حكم الله ورسوله ، ذلك لأنّ هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يصدر إلا عن كافر أعلن حربه على الله ورسوله ، وعلى رسالة الإسلام ، وكان الشعر آنذاك أهمّ وسائل الحرب والخصومة ، لشدّة أثر الشعر في نفوس العرب ، وبين لنا خطورة أمر الشعر في معركة الإسلام آنذاك ، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّ الله عز وجل أنزل في الشعراء ما أنزل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل " [ رواه أحمد ] (1)
نعم! هكذا كان الشعر في معركة الإسلام : " …. والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل " . وسيظل للكلمة دورها الخطير في معركة الإسلام على مرِّ العصور . فكتب بجير إلى أخيه كعب أبياتاً منها :
تـلـوم علـيها بـاطلاً وهي أحـزمُ |
|
مـن مبلغ كعبـاً فهـل لك في الـتي |
فتنـجو إذا كـان النـجـاء وتسلـمُ |
|
إلـى الله لا العـزّى ولا الّلات وحده |
ثمّ كتب له : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمك ، وأنه قتل رجلاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن من بقي من الشعراء كابن الزّبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كلّ وجه ، وما أحسبك ناجياً . فإن كان إلى نفسك حاجة فطر إليه ، فإنه يقبل من أتاه تائباً ، ولا يطالبه بما تقدّم الإسلام " .
فلما بلغ كعباً الكتابُ ، ضاقت عليه الأرض ، وأتى مزينة لتجيره ، فأبت ذلك عليه ، فحينئذ ضاقت عليه الأرض وأشفق على نفسه ، وأرجف به من كان من عدوّه ، وقالوا إنه مقتول . فقال هذه القصيدة التي عرفت بالبردة ، وجاء بها النبي صلى الله عليه وسلم تائباً مسلماً . ذلك أنه خرج حتى قدم المدينة ، ودخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وجلس بين يديه ، فوضع يده في يده ، ثمّ قال : يا رسول الله ! إن كعب بن زهير قد جاءك ليستأمن منك تائباً مسلماً . فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ قال : نعم ! قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير . فقال : الذي يقول ما قال . ثمّ أقبل على أبي بكر فاستنشده الشعر. فأنشده أبو بكر" سقاك به المأمون به كأساً روّية …"! فقال كعب : لم أقل هكذا . وإنما قلت :
وأنهـلـك المأمـون منـها وعـلّكا |
|
سقـاك أبـو بكـر بـكـأسٍ رويّـةٍ |
فقال رسول الله : مأمون والله ! ووثب عليه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ! دعني وعدوّ الله أضرب عنقه . فقال : دعه عنك فإنه قد جاء تائباً نازعاً . فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم . ثم قرأ قصيدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى وصل إلى قوله :
مُهَـنَّـدٌ من سيـوف الله مسلـول |
|
إنّ الرسـول لنـور يستـضـاء بـه |
رمى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه ، وبذل بعد ذلك معاوية رضي الله عنه عشرة آلاف درهم ليشتريها من كعب ، فقال كعب : ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً . ولما مات كعب اشتراها معاوية بعشرين ألف درهم .(2)
2- أهمّ ما قيل عن مطلع القصيدة وما فيه من شبهة الغزل :
يقول الدكتور محمد بن سعد بن حسين في كتابه " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " : " ولم يستحسن البعض بدء كعب قصيدته بالغزل ، وهو يمدح أشرف الخلق وخاتم المرسلين ، غير أن تلك عادة العرب فهم يبدأون قصيدهم بالنسيب في أيّ مقام كان ، فهو منهج لا غبار عليه ". ثم يقول : " على أن بعضاً من شيوخنا فسّروا ذلك وبيّنوه على وجه من الرمز والإشارة . فمن ذلك ما ذكره أستاذنا الدكتور عبد السلام سرحان في كتابه " مختارات من روائع الأدب " ، حيث قال : وسعاد هذه فتاة خيالية اخترعها خياله وفراها تصوّره ليبدأ على حبّها إنشاده ويوالي في ذكرها إنشاده ، ويرتبع في مرابعها بخير تقديم على عادة الشعراء في شعرهم القديم . ولكن الملاحظ أنه وصفها بعدم الولاء ورماها بعدم الوفاء وتحدّث عن أنها هجرته وقطعت حبل وصله ، وأبلت أسباب ودّه ، واختفت عنه في مكان بعيد لا يمكن الوصول إليه إلا على ظهور العتاق النجيبات المسرعات في السير المغذّات في الرحيل … ثم انتقل إلى وصف أمله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه ويغفر له زلته ويؤمنه على سعاد التي كنّى بها ـ فيما أرى ـ عن راحته وهناءته التي افتقدها زمناً طويلاً فكانت تهرب منه، وتفرّ أمامه ، وتبعد عنه ، فيحاول أن يركب إليها سفائن الصحراء … حتى وجدها أخيراً في طريق الأمل والرجاء وعرف أنها تقيم لدى سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه " .
ويقول الدكتور محمد بن سعد بن حسين : " وهذا رأي جديد وهو عندي حريّ بالتقديم والتقدير ، إذ أنه ينزع بمطلع القصيدة عن التغزّل في موقف ومقام يجب أن ينزها عن مثل هذا "(3)
3- وقفة ورأي :
إنَّ الوقفة التي أريد أن أقفها مع مطلع هذه القصيدة والرأي الذي أُقدّمه حول محورها وموضوعها ينطلقان من تصوّر رسمته أحداث القصيدة وأبياتها ومناسبتها ، حين نردّ ذلك إلى منهاج الله ، وحين نفهم الواقع والأحداث من خلال منهاج الله .
إني أومن أن مطلع القصيدة ومحورها يحملان موضوعاً ينأى عن التشبيب والغزل ، في موقف ينافي التّغزّل وأسبابه ، مهما كان عادة الشعراء العرب من افتتاح قصائدهم . فهذا موقف جديد لم يعرفه شعراء العرب ، خارج عن عادتهم التي ألفوها . وهو موقف أجلّ من كلّ موقف عرفه شاعر قبل ذلك . وكان كعب ابن زهير يدرك ذلك حقَّ الإدراك ، ويُدرك أنّ عليه أن يتخيّر أطيب أسلوب يخاطب به النبوة الخاتمة ، وأطهر كلمة يقولها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم . فلا يُعقل أن يبتدئ إيمانه بعظمة الإسلام بالتشبيب بفتاة حقيقية أو خيالية .
وكذلك فلم يكن النسيب عادة مفروضة في مطلع كلّ قصيدة عند العرب ، فكثير من الشعراء لم يبدأوا به ، واختاروا أسلوباً آخر أقرب للمناسبة والجوّ الذي تقال فيه . وذلك نحو معلقة لبيد بن ربيعة العامري :
بمـنىً تـأبَّـد غَـولـها فرجـامها |
|
عفـت الديار محلُّـها فمـقـامـها |
خـلَـقاً كمـا ضَمِـنَ الوُحيَّ سلامها |
|
فـمدافـع الريَّـان عُـري رسـمها |
حِـججٌ خَلَـونَ حـلالُـها وحرامهـا |
|
دمـنٌ تجـرَّم بـعـد عهـد أنيسـها |
ولذلك لسنا ملزمين أن نفترض أن قصيدة كعب يجب أن تبدأ بالغزل والتشبيب لمجرّد اتباع قاعدة التزمها بعضهم ولم يلتزمها آخرون .
وأمر آخر ! وهو أن كعباً كان في حالة نفسية قلقة مضطربة خائفة ، وفي معاناة شديدة قاسية ، وفي عزلة مهلكة وخطر حقيقي يتهدد حياته ، فأنّى له أن يُفكّر في الغزل والتشبيب في هذه الظروف ، وأنّى له أن يفكّر في النساء وغرامهن ولهوهنّ و وصف أجسامهنّ ؟! كلا ! إننا نؤمن أنه كان في حالة فكرية نفسية تبعده كلّ البعد عن أجواء الغزل والنسيب والتشبيب .
ونؤمن كذلك أن القصيدة لا بدّ أن تخرج من حقيقة المعاناة التي يمرّ بها ، وأن تعرض القضية الحقيقية الجديدة التي يعيش بها ، وأن تصور هذه المعاناة وتلك الحقيقة تصويراً أميناً يعبق بالصدق وجلاء الشعور ووضوح الموقف ، حتى يلمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة التصوير وعبقرية الفنّ المؤثر ، وأمانة الصدق الفوّاح من كلماتها ، لتكون هي الرسالة الحقيقية التي يريد أن يبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال تصوير فنّي مبدع متميز . ولعلّ الله سبحانه وتعالى أعان كعباً في ذلك ، فجاءت القصيدة روعةً فنيّة وإبداعاً عبقرياً ، شغل الأدباء المسلمين على مرّ العصور ، وآثار إعجاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
نودُّ أن ننفي أولاً وجود فتاة حقيقية كان يُحبّها كعب ، فجعل حبّه هذا مطلع القصيدة . ننفي ذلك لأنه لو كان هنالك هذا الحبّ في حياته لعرف قبل ذلك ، ولتغزَّلَ بها قبل هذا الموقف ، ولدار بها شعره ، ولو كان مطلع القصيدة يشير إلى غزل حقيقي في فتاة حقيقية لنهاه رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما نعتقد ونؤمن . فمن ذا الذي يجرؤ أن يعرض حبّه وغزله وتشبيبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقف التائب العائذ برسوله ، النازع إلى الإسلام بعظمته وجلاله .
ونودّ أن ننفي كذلك أن كعباً ذكر في مطلع قصيدته فتاة غير حقيقية ، اخترعها خياله ليتغزّل بها جرياً على عادة أو اتباعاً لقاعدة .
فكما ذكرنا قبل قليل فهذه لم تكن عادة ملزمة للشعراء ، وكان أمام كعب أساليب أخرى يتخيّر منها أطيبها وأطهرها . وكذلك فإنّ جوّه النفسي والخطر الذي كان يتهدّده ، كان كافياً ليبعد عن قلبه النساء والغزل والتشبيب وهماً أو خيالاً أو حقيقة .
لا بدّ أن يختار كعب أسلوباً يناسب إيمانه الجديد ، نابعاً منه لا من التقاليد الجاهلية التي تركها ، أسلوباً يناسب مقام النبوة وعظمة رسالة الإسلام ، وأنّى للغزل والتشبيب والنسيب أن يلائم ذلك .
ولا بدّ لنا ، من أجل فهم القصيدة ومطلعها ومحورها، أن نعيش مع كعب رضي الله عنه لحظات نتابع فيها نفسيته وفكره ، وخوفه وقلقه ، وأحلامه وآماله، من خلال الأحداث التي سبق عرضها ، والأخطار التي أحدقت به ، والمصير الذي آل إليه .
لقد كان كعب شاعراً جاهلياً . وكانت الجاهلية بكلّ أعرافها وأفكارها ملكت عليه نفسه ، حتى ظنّ أنها هي الحق وهي التي تستحق الحبّ والولاء .
ولقد بلغ من ذلك من نفسه حدّاً دفعه إلى أن يتنكّر لوصية أبيه ويرفض رأي أخيه ، ثم يرتكب الإثم العظيم الذي لا يصدر إلا عن كافر محارب لله ولرسوله ، حين هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم هجاءً أعلن فيه رفضه للإسلام وتمسّكه بجاهليته ودنياه وأهوائه ونزواته ، وما ورثه عن آبائه من هذه الجاهلية . لقد كان هذا هو حبّه الأول الذي ملك عليه نفسه ، وحدّد على أساسه موقفه ورأيه وكلمته . هذه هي النقطة الهامة الأولى التي تنكشف لنا من حياة كعب ، ومن قصيدته كما سنبين . ولا بدّ لكعب أن يُشير إلى هذه المرحلة من حياته في قصيدته ويعلن توبته منها ، فكيف عبّر عن ذلك ؟!
ثمّ بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ، فربّما استهان بذلك أول الأمر . ولكنه حين لجأ إلى مزينة لتجيره من خطر الموت الذي يتهدّده ، أبت عليه . وانتشر الخبر بأنه مقتول وشاع بين الناس وتخلّوا عنه . وتخلّى عنه أخوه ، وشعر أنه وحيد . لقد لجأ إلى حبّه الأول الذي كان عليه ، حبّ الدنيا والجاهلية ، ولجأ إلى روابطها ومواثيقها وعهودها ، فخذلته ، وأخذت تبتعد عنه شيئاً فشيئاً . وكان قلبه ما زال معلقاً بها ، " متيّماً بها " ، أضناه حبّها فهو " متبول " ، كأنه لا يستطيع انفكاكاً عنها " لم يُفدَ مكبول " ! وهذه هي النقطة الثانية الهامة في نفسية كعب ، حين أخذ يدرك أن هذه الجاهلية التي كانت تمثّل حبّه الأول أخذت تغيب عنه مع ما كانت تحمل من جمال لها في نفسه ، كأنها الغادة الجميلة " الهيفاء " التي يزهو جمالها ويبدو في صوتها " أغنّ " ، وفي طرفها : " غضيض الطرف مكحول " ، وفي قوامها مقبلة ومدبرة : " هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة " ، وفي اعتدال طولها " لا يشتكي قصر منها ولا طول " وفي ثغرها وأسنانها : " تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت …." هذا الجمال كلّه الذي كان يحسّه في دنيا الجاهلية لم يسعفه وهو في حالة الخطر ، فنقضت الجاهليةُ عهدها، وكانت عنده أثيرة لولا نقضها لعهدها وتخليها عنه . ولكنها هي الجاهلية التي أخذ يكتشف مساوئها ومساوئ دنياها. إنها الدنيا المملوءة بالخيانة والغدر وعدم الوفاء، مما يرمي بالفواجع والكذب والإخلاف : " فجع وولع وإخلاف وتبديل "، حتى كأن هذه الصفات طبيعة ممزوجة بدمها لا تستطيع الخلاص منها : " لكنّها خُلّة قد سيط من دمها "!
هاتان القضيتان الهامتان اللتان لا بدّ أن يُشير كعب ، أو أي شاعر في موقفه إليهما ، تمثلان الأبيات الثلاثة عشر الأولى من القصيدة .
إن البيت الأول ، مطلع القصيدة ، يعلن فيه ابتعاد دنيا الجاهلية وغيابها عنه، مع ما كان يحمل لها من حبّ لم يكن قد تحرّر منه بعد :
متـيّمٌ إثـرهـا لم يُفْـد مكـبولُ (4) |
|
بـانت سعـادُ فقلبي اليـوم متبـول |
ثمّ أخذ في وصف جمال هذه الجاهلية ، وصفاً يمثلها فيه بفتاة جميلة القوام، واعتدال الطول ، والصوت ، والطرف ، والثغر وغير ذلك . ويستحق هذا الوصف الخمسة الأبيات التالية :
إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحـولُ (5) |
|
ومـا سعـادُ غـداة البين إذ رحلـوا |
لا يشتـكي قِصـرٌ منها ولا طُولُ (6) |
|
هـيفـاء مُقبـلة عـجزاء مُدْبـرةٌ |
كـأنّه مُنْهـلٌ للـرّاح مَعْـلـولُ (7) |
|
تـجلـو عَوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمت |
صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمولُ (8) |
|
شُجّـتْ بذي شَـبَمٍ مـن مـاء محنِيةٍ |
مِـنْ صَوب غاديـةٍ بيضٌ يَعَاليلُ (9) |
|
تنفي الرّيـاحُ القذى عنـه وأفْرطـهُ |
فما كان هنالك فتاة في حياته رَحَلتْ عنه ، وتركتـه وهو يُحبّها إلا الجاهلية التي كان عليه ، الجاهليّة ، ثمّ هي بعد ذلك إشارة إلى حبّه الجديد الذي صار إليه ، الإسلام كما سنرى .
وإذا كانت هذه الأبيات تمثّل في ظاهرها غزلاً وتعبيراً عن حبّه لسعاد التي بانت ، حبّه الذي نرى أنه يمثّل حبّه للجاهلية التي أخذت تبتعد عنه حقيقة لا مجازاً ، فإن الأبيات التي تليها والتي يتابع فيها كعب حديثه عن سعاد ، تمثّل وصفاً أقرب ما يكون لحال الدنيا ، دنيا الجاهلية وما تحملها من غدر وكذب وإخلاف ، دنيا الجاهلية التي أخذت تتكشّف له سوآتها وشرورها ومصائبها من فجْعٍ وولع وإخلاف وتبديل . فلنعش مع هذه الأبيات لحظات :
بوعْدها أو لوأنّ النصـحً مقبولُ (10) |
|
فـيالها خُـلّة لـو أنّهـا صَـدقـتْ |
فجْعٌ وولْعُ وإخـلافٌ وتبـديـلُ (11) |
|
لكنّـها خُـلّة قد سِيـطَ من دَمِـهـا |
كمـا تلـوّن في أثـوابها الغولُ (12) |
|
فـما تـدومُ علـى حـالٍ تكـون بها |
إلا كمـا يمسكُ المـاءَ الغرابيـلُ |
|
ومـا تمسّك بالعـهد الذي زعـمـتْ |
إنّ الأمـانيّ والأحـلام تـضلـيلُ |
|
فـلا يغـرنّكَ ما منّـتْ ومـا وعدتْ |
ومـا مـواعيدُهـا إلا الأباطـيـلُ |
|
كـانت مـواعيدُ عرقـوبٍ لها مثـلاً |
هذه هي أوصاف " سعاد " التي ذكر جمالها في المقطع السابق . وواضح هنا أنّ هذا الوصف لسعاد أقرب لوصف الدنيا وحالها ، دنيا الجاهلية وما حملت إليه من مصائب ( فجعٌ ) ، وغدر وكذب ( ولعٌ ) ، وإخلاف وتضليلُ . وكأنّه بلغه وصف القرآن الكريم للدنيا :
( يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً إنّ وعد الله حقٌّ فلا تَغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور ) [ لقمان : 33 ]
فكأنّه سمع هذه الآية وأمثالها في كتاب الله ، فقال : " فلا يغرنّك ما منّت وما وعدت " إنّها الدّنيا ، وإنّ هذا الوصف أقرب ما يكون للدنيا وفتنتها وغرورها ، وما فيها من أمانيّ وأحلام لا تزيد عن غرور وتضليل .
إنّ " سعاد " في هذه الأبيات وفي الأبيات السابقة واحدة ، استمرّ وصفها على الحالين ، ليمثّل كلّ من هذين الوصفين مرحلة مرّ بها كعب .
أمّا المقطع الأول فيمثّل مرحلة المعاناة وهو يرى ابتعاد الجاهلية وروابطها كلّها ، حتى أُخوّة الرحم لم تثبت معه على باطله ، ولا قبيلة مزينة رضيت بأن تجيره ، ولا أحد من الناس . وكان قلبه ما زال معلّقاً بها ، بفتنتها وضلالها الذي عبّر عنها بفتنة الجسد الظاهري .
والمقطع الثاني يصف " سعاد " نفسها . فإذا كان المقطع الأول وصف فتنة الزخرف الظاهري ، فإنه في المقطع الثاني يصف حقيقة الجاهلية التي انكشفت له بشرورها وفسادها وضلالها . كلّ كلمة في هذا المقطع تُشير إلى دنيا الجاهلية التي قرّر هجر باطلها : " خُلّة " حيث اختار كعب هذه اللفظة المناسبة لهذا التصوير ، " سيط من دمها " : أي مزج وخلط وخرج من دمها ، من حقيقتها ، فجع وولع وإخلاف وتبديل ، فما تدوم على حال ، أمانيّ ، أحلام ، تضليل .
إن كلمة " سعاد " تعبّر عن حبّه الذي كان يملأ قلبه ، حبّه الذي تكشّف فساده وضلاله ، لينتقل منه إلى حبّ عظيم كريم ، حبّ صادق ، أخذ يملك عليه نفسه . وإنه ليعبّر عن هذا الحبّ الجديد أيضاً بلفظة " سعاد " ، في المقطع الثالث من القصيدة ، المقطع الذي يعبّر عن هذه النُّقلة الكبيرة التي انتقلها من الجاهلية إلى الإيمان والتوحيد .
إنّه يُعبّر عن ذلك بأجمل أسلوب وأدّق تعبير . فانظر في البيت الأول من هذا المقطع الذي يمثّل حالته الثالثة التي انتقل إليها :
إلا العـتـاق النجيـبات المراسيـلُ |
|
أمـست سعـادُ بـأرض لا يُبـلِّغـها |
هناك أصبح حبّه ! هناك في مكان بعيد اشتدّ شوقه إليه ، فلا يصلح له إلا النوق العتاق ( الكريمة ) ، النجيبات ( قوية الحركة ) ، المراسيل ( السريعة ) .
فإذا كان كعب قد عبّر عن حبّه الجديد لله ولرسوله وللإسلام بكلمة " سعاد "، فما أحراه أن يُعبّر بها أيضاً عن تعلّقه السابق بالجاهلية وحبّه لها . إنّ اشتراك الحبّ القديم والحبّ الجديد باسم " سعاد " في الحالين :
في مطلع القصيدة : بانت سعاد …. ، ثم في مطلع بيان حبّه الجديد : أمست سعاد … ، إن هذا الاشتراك في التعبيرين : بانت سعادُ ، وأمست سعادُ ، هذا كلّه يُوحي لنا بأنّ " سعاد " ترمز أولاً إلى حبّه الأول الذي بان عنه وغاب وهجره ، ولا شيء أقرب إلى ذلك من حبّه للجاهلية ودنياها ، وترمز بعد ذلك إلى حبّه الجديد ، حبّ الله ورسوله ، حبّ الإيمان والتوحيد ، حبّ الإسلام .
بعد أن بلغ كعباً كتابُ أخيه يُعْلمه بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ، وبعد أن تخلّت عنه مزينة ، وتخلّى عنه أخوه ورأى روابط الجاهلية كلّها انحلّت ، وغابت ، ورأى الدنيا وتقلّب أوضاعها ، والفجع والكذب والإخلاف ، أخذت كلمات أخيه تدوّي في أذنه دويّاً لا ينقطع ، يدعوه فيه إلى النجاة بالتوبة والتوجُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " …. فإن كان إلى نفسك حاجة فَطِرْ إليه ، فإنه يقبل من أتاه تائباً ….." .
لا شكّ أن كعباً أخذ يراجع نفسه ليرى الخطر المحدق ، وليرى عظمة الإسلام الذي أخذ منه أخاه . ولعلّ كلمات أبيه ووصيته عاودته حين أوصى ولديه باتباع النبيّ الداعية الذي سيظهر .
إنّها صدمة نفسية هائلة هزّته هزّاً عنيفاً : لا رحم ولا صديق ، ولا منفذ للنجاة ، معاناة نفسية هائلة يجب أن نقدّرها حقّ قدرها ونحن ندرس هذه القصيدة !
لقد كانت رحمة الله كبيرة واسعة في هذه اللحظات ، حتى شرح الله صدره للإيمان واستقرّ بقلبه حبّ الله ورسوله ، وعرف أنّه الحقّ الذي لا حقّ سواه ، وأنّ الجاهلية باطل لا خير معها . فالجاهلية أشبه ما تكون بالفتاة الجميلة في مظهرها ، القبيحة كلّ القبح في مخبرها ، كما فصّلنا قبل قليل .
لا شكّ أنّه مرّ بمرحلة فيها معاناة وتأمّل وتردد . فوصف لنا هذه المرحلة من المعاناة في الأبيات الستة الأولى ، حين كان قلبه ما زال معلقاً بحبّ الجاهلية ودنياها . حتى إذا تكشّف له سوء مخبرها ، وشرّ فتنتها ـ اندفع يصف فساد الجاهلية ويمثلها بفتاة لا وفاء لها ولا وعد لها ، مع مطلع البيت السابع : " فيا لها خلّة لو أنها صدقت …." وإنك لتحسّ بهذه الأبيات أنها تصف الدنيا ، دنيا الجاهلية ، دنيا الفجع والولع والإخلاف والتبديل ، ويختم ذلك بالبيت المشهور :
ومـا مـواعيدُهـا إلا الأباطـيـلُ |
|
كـانت مـواعيدُ عرقـوبٍ لها مثـلاً |
هنا نفض يديه من الجاهلية ، وانكشفت له الحقائق جلية ، وانشرح صدره للإيمان ، وتعلّق قلبه بحبّ الله ورسوله ، واشتدّ شوقه إلى لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنّه يريد أن يفعل كما قال أخوه : " … فطر إليه … " . نعم اشتدّ الشوق به كثيراً حتى ودّ لو يطير . ولكنّه أدرك أنه بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافة بعيدة لا يقطعها إلا النوق العتاق الكريمة السريعة القويّة :
إلا العـتـاق النجيـبات المراسيـلُ |
|
أمـست سعـادُ بـأرض لا يُبـلِّغـها |
لها علـى الأيـن إرقال وتبغيـلُ (13) |
|
ولــن يـُبـلِّـغـها إلاعـذافـرةٌ |
عُـرضتها طامسُ الأعلام مجهولُ(14) |
|
مـن كلّ نضّـاحةِ الذّفرى إذا عرِقتْ |
إذا تـوقّـدت الحـزّاز والميـلُ (15) |
|
تـرمي الغيوبَ بعيني مُفـردٍ لهـقٍ |
في دفّها عن بنـات الفحْل تفضيلُ(16) |
|
ضـخمٌ مُـقلَّـدُهـا فَعْـم مقيّـدهـا |
في دَفّهـا سَعَـةٌ قُـدّامُـها ميلُ(17) |
|
غـلبـاء وجنـاء علـكـوم مذكّـرة |
فبعد أن أعلن حبّه الجديد ، وأشار إلى أنه هناك ( في المدينة المنورة ) ، في مكان لا يبلغه إلا الإبل القوية السريعة ، أخذ يصف هذه الإبل وصفاً دقيقاً ليُعبّر عن عظيم الرحلة التي يريدها وأهميتها وخطورتها ، فلا تصلح لها الإبل الضعيفة . ويتابع الإبل القوية هذه في ثمانية عشر بيتاً . ومن خلال هذا الوصف الدقيق ، الوصف الذي بلغ به درجة عالية من الفنّ والجمال ، فإنّه يُعبّر عن شدّة شوقه للقيا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك بوصف السرعة الهائلة التي تمضي بها الإبل .
ذوابـلٍ مَـسّهـنَّ الأرض تحليلُ (18) |
|
تَخـدّي على يَـسَـراتٍ وهي لاحقة |
لم يقـهـنَّ رؤوس الأكْـم تنعيلُ (19) |
|
سُـمر العُجـايات يَتْركن الحصى زيماً |
وقـد تَلفّـح بالقُـور العساقـيلُ (20) |
|
كـأنّ أوب ذراعيهـا وقـد عـرقـتْ |
قـامت فَجـاوبها نُكْـدٌ مثـاكيلُ (21) |
|
شـدّ النهار ذراعـا عيطـل نَصَـفٍ |
لما نعـى بكرهـا الناعون معقولُ(21) |
|
نـوّاحةٌ رخْـوة الضـبعين ليس لهـا |
مُـشَفَّقٌ عـن تراقيـها رَعَابـيلُ(22) |
|
تفْـري اللّـبان بكفّـيها ومِدْرعـهـا |
تصوير رائع لشدة سرعة الإبل في رحلتها إلى النبوة الخاتمة . تصوير يحمل القوة والحركة وجمال الصورة وتناسق الألفاظ وقوة السبك والتركيب وجمال اللحن .
إنها تُسرع ( تخدي ) على قوائم خفاف ( يسرات ) كأنّها الرماح الصلبة (ذوابل ) لا تكاد تمسُّ الأرض من شدّة سرعتها ، وكأنّها تمسُّ الأرض مسّاً خفيفاً جدّاً تحلّة القسم . وكأن أعصاب قوائمها ( العُجايات ) رماح سمر لقوتها وصلابتها ، إذا مسّت الحصى فرّقته بقوتها ورجوعهما من شدّة السرعة ، وقد عرقت لا من التعب لأنها قوية ، بل من شدّة الحر الذي بلغ حدّاً انتشر السّراب ( العساقيل ) على الجبال الصغيرة ( القور ) ، فكأنّها تلفّعت به أو التحفت به ، كأنّ سرعة تقلّب ذراعيها مع هذا الحَرّ ومع هذه السرعة ، حين اشتدّ النهار بحرّه سرعة ذراعي المرأة الطويلة ( ذراعا عيطل ) المتوسطة السنّ ( نصَف ) في لطمها على خدّيها لفقدها ولدها ، يجاوبها نساء لا يعيش لهنّ أولاد . فالنُّكد جمع نكداء وهي التي لا يعيش لها ولد . والمثاكيل جمع مثكال وهي كثيرة الثكل ، المرأة النوّاحة ، مسترخية العضدين ( رِخوة الضبعين ) ، فقدت صوابها ( معقول ) لمّا بلّغها الناعون موت ولدها البكر ، فاشتدّ لطمها لخدّيها . إنها صورة مليئة بالحركة ، كأنّك تشاهد بعينيك سرعة هذه الإبل إلى المدينة المنورة .
ويصف كعب شدّة الحرّ وقوّة احتمال الناقة القوية بأبيات في غاية الدقة والصورة والجمال . ثمّ يصف قوّة أمله برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرّق أصحاب الجاهلية عنه ، ليعود ويذكرنا بأسباب تركه ذلك الحب الغادر الضال ، حبّ الجاهلية التي انكشفت له ، وليذكرنا بإقباله على الإسلام بعزم ويقين وصدق، ليكون هذا هو حبّه الحقّ الجديد . إنه يؤكد لنا عظمة النقلة الهائلة التي انتقلها من الكفر إلى الإيمان .
إنّـك يـا ابن أبي سُلـمى لمقتول(23) |
|
تـسعى الغُـواة جَنَابيْها وقـولُـهمُ |
أي يسير الوشاة حول " سعاد " ( جنابيها ) ليمنعوا هذا الحبّ العظيم ، وليثبّطوا عزيمة كعب بأنه مقتول .
لا أُلْـهَـيِنَّك إنّـي عـنك مشغولُ |
|
وقـال كـلّ صـديـق كنـتُ آملـه |
فـكُلُّ ما قـدّر الرحمن مفـعـولُ |
|
فقلـتُ خـلّـوا سبيلـي لا أبـالكـم |
يـوماً علـى آلة حدبـاء محمولُ |
|
كُـلّ ابن أُنثـى وإن طـالـت سلامته |
والعفـو عـند رسول الله مأمـولُ |
|
نُبّـئْـتُ أنَّ رسـول الله أوعـدنـي |
في كـفّ ذي نَقـِمَاتٍ قيـلُه القيلُ |
|
حتـى وضعْـتُ يميني مـا أُنَازِعُـهُ |
ويمضي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقول البيت الذي يفيض عذوبةً ونوراً :
مُهَـنَّـدٌ من سُيـوف الله مسلولُ |
|
إن الرسـول لنـورٌ يُستـضـاء بـه |
ثم يمدح قريشاً والمهاجرين مدحاً كريماً عالياً . ولكنّه نظّم بعد ذلك قصيدة خاصة بمدح الأنصار .
لقد أفرغ كعبٌ كلّ طاقته الفنية في هذه القصيدة ، ليمثّل أهمّ رحلة قام بها في حياته وأعظم نُقلة انتقلها . لقد حشدت الأحداث شحنات هائلة في فكره وتأمله، وشحنات هائلة في عاطفته ووجدانه ، وتحرّكت موهبته بقوّة عظيمة لتطلق الومضة الفنيّة الرائعة بين الشحنتين ، شحنة الفكر وشحنة العاطفة .
ولقد جمعت الموهبة في هذه الومضة عناصر الجمال الفنّي كلّها : عظمة الموضوع ، وروعة الأسلوب ، وقوّة الصياغة ، ومتانة السبك . حشدت الموهبة عناصر الجمال الفنّي يعبق منها الإيمان والتوحيد المغروس في فطرته حين أفاق واستيقظ وعرف الحق ، فأصبح الإيمان يروي ريّاً دافقاً تلك العناصر الفنية ، حتى تزهر وتعبق فوّاحة في هذه الرائعة الفنية .
وربما يشعر القارئ أن كثيراً من الكلمات غريبة عليه . نعم ! إنها بعيدة عن معجم عصرنا اليوم . ولكنّها مع ذلك ظلّت تحتفظ حتى اليوم بجمال موسيقاها وعذوبة انسيابها وجمال ترابطها . يحسّ القارئ المؤمن الذي يعرف لغة القرآن ، يحسّ بها ولو لم يدرك معناها ، وتظلّ لا تنبو عن السمع في جوّ حاشد من الصور المتلاحقة بألوانها الزاهية ، وحركتها الحيّة كأنّك تراها أمام عينيك ، وفي حلاوة الجرس والنغم الشّادي .
إن هذه القصيدة الرائعة تصف رحلته كلّها بجميع مراحلها وصفاً حيّاً دقيقاً. إنّها تمضي على نسق واحد من الإبداع لا تهبط أبداً ، ولا تضعف .
وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبدي إعجابه الشديد فيخلع بردته على كعب من أجل أبيات من النسيب ، الوصف و المديح . ولكنّي أعتقد أن الفكرة الرائعة التي تعرضها القصيدة في ألفاظ قوية وتعبيرات غنيّة ووقع فنّي مؤثّر ، هي التي أثارت إعجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . إنها تمثّل رحلته من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن الكفر إلى الإيمان . إنّها تمثّل حبّاً كان يتعلق به ثمّ هجره وتركه وغاب عنه ، وحبّاً عظيماً يستحقّ الجهد والعناء والبذل والصبر انتقل إليه وأقبل عليه . إنّها تمثّل رحلته النفسية ومعاناته أروع تمثيل وأدقّه . لا يُعقل أن يكون شاغله في هذه المعاناة النفسية حبّ فتاة حقيقية أو خيالية.
من هنا ، من هذا التصوّر تأخذ قصيدة ( بانت سعاد ) روعتها وإبداعها ، وتحمل البركة من بردة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لتتحلّى به حلية تمضي إلى أبد الدهر .
إن هذا المعنى عميق في القصيدة ، يكاد يحسّ به المسلم لو لم يدركه تمام الإدراك ، يحسّ المسلم أنّ في القصيدة فكرة عظيمة استحقت إعجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلينا نحن أن نبحث عن هذه الفكرة العظيمة . إنها نقلة واسعة من الجاهلية إلى الإيمان ، إنها جاهلية تبتعد وتغيب ، وإيمان يقبل عليه كعب بلهفة وشوق ، ويظلّ وصف الناقة يمثّل هذا الشوق العظيم واللهفة العظيمة والإيمان واليقين .
إنّ القصيدة ، بإيجاز ، تُعبّر عن حبّ تعلّق به فترة ، ثمّ غاب عنه وابتعد فاكتشف بذلك غدره وإخلافه وما يحمله من مآس وفواجع . فترك هذا الحبّ كلّه ، ما هو حبّ فتاة ، ولا بالغرام والغزل إنّه حبّ الجاهلية ، حبّ الدنيا وشهواتها ، مثّل ذلك كلّه بفتاة أسماها " سعاد " .
وكان تركه للجاهلية باب هداية له من الله ، حين شرح الله صدره للإيمان ، فرأى الحبّ العظيم ، حبّ الله ورسوله ، وإيثار الآخرة على الأولى . إنّه حبّ عظيم ملك عليه نفسه ، وأثار شوقه ، فهاجت لهفته للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . حبّ قديم يفارقه وحبّ جديد يقبل عليه .
بهذا التصوّر تكون القصيدة قد رسمت لنا معاناته النفسية التي مرّ بها، وقاسى منها . ترسمها لنا بمراحلها وحالاتها حتى انتهت إلى اليقين والإيمان .
وهي تمثّل النُقلة العظيمة الهائلة من جاهلية إلى إيمان ، نقلة هائلة ، ورحلة هائلة . على أبدع ما يكون التصوير .
وبذلك أرى أن هذه القصيدة ترتفع إلى مستوى عال من الأدب العالمي ، الأدب الإنساني .
(1) أحمد : المسند 3/456، الفتح : 19/276 .
(2) سيرة ابن هشام : ج2 ، ص( 501-515) . د. محمود حسن زيني : تحقيقه لشرح أبي البركات ابن الأنباري لقصيدة كعب بن زهير ، ط1 1400هـ ـ 1980م ، ص (83-90) . د. محمود حسن أبو ناجي لشرح جمال الدين بن محمد الأنصاري لقصيدة كعب ، ط3 ، 1404هـ ـ 1984م ، ص ( 32-37 ) . د . محمد بن سعد بن حسين " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " ط1، 1406هـ 1986م ، ص: ( 14-20) .
(3) المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة ، ط1 1406هـ ـ 1986م ، ص : 19-20 .
(4) متبول : أسقمه الحبُّ وأضناه ، متيّم : ذليل مستبعد ، لم يُفد : لم يخلِّص ، مكبول : مقيّد .
(5) أغنّ : في صوته غنّة ، غضضيض : فاتر ، مكحول : من الكَحَل : وهو سواد يعلو جفون العين من غير اكتحال .
(6) هيفاء : ضامرة البطن دقيقة الخصر ، عجزاء : كبيرة العجز .
(7) عوارض : الأسنان كلّها أو الضواحك منها ، ظلّم : ماء الأسنان وبياضها وبريقها ، منهل : مُسْقى ، الراح : الخمر .
(8) شجّت : مُزجت ، ذي شبم : ماء شديد البرودة ، مَحنية : منعطف الوادي حيث يكون ماؤه أبرد وأصفى ، الأبطح : المسيل الواسع الذي فيه الحصى ، أضحى : صار إلى وقت الضحى قبل اشتداد الشمس ، مشمول ك ضربته ريح الشمال .
(9) القذى : ما يقع في الماء من تبن أو عود أو كدر ، أفرطه : سبق إليه وملأه ، الصوب : المطر ، الغادية : السحابة تمطر غدوة ، يعاليل : الحباب الذي يعلو وجه الماء أبيض اللون ، لا مفرد له .
(10) خُلّة : الصديقة ، يوصف بها المؤنث والمذكر وغيرهما والمفرد وغيره .
(11) سيط : مُزج وخلط ، فجع : مصائب وفواجع . ولع : غدر و كذب .
(12) الغول : يزعمون أن الغول تُرى في الفلاة بألوان شتى فيتبعها من يراها ، فيضلّ الطريق فيهلك .
(13) عُذافرة : الناقة الصلبة العظيمة ، الأين : التعب ، الإرقال والتبغيل : ضربان من السير .
(14) نضّاحة : كثيرة رشح العرق ، الذّفرى : النقرة التي خلف أذن الناقة ، وهي أول ما يعرق منها ، عُرضتها : همتها وقوّتها على السفر ، طامس العلام : الدارس المتغير من العلامات التي يُهتدى بها .
(15) الغيوب : آثار الطريق التي غابت معالمها ، مُفرد : الثور الوحشيّ الذي تفرّد في مكان ، لهق : أبيض ، الحزّاز : الأمكنة الكثيرة الحصى الغليظة مفردها حزيز ، الميل : جمع ميلاء وهي العقدة من الرمل .
(16) مُقلّد : موضع القلادة من العنق ، فعمّ : ممتلئ ، مقيّدها : موضع القيد أي قوائمها ، بنات الفحل : الإناث من الإبل المنسوبة للفحل المعدّ للضراب ، يُشير إلى ضخامة جسمها كلّه ، وقوتها على السير .
(17) غلباء : غليظة العنق ، وجناء : عظيمة الوجنتين ، علكوم : شديدة ، مذكّرة : عظيمة الخلقة تشبه الذكران من الأباعر ، في دفّها سعة : واسعة الجنيتين ، قدّامها ميل : طويلة العنق .
(18) تخدّي ك تسرع ، يسرات : القوائم الخفاف ، ذوابل : حمع ذابل وهي الرمح الصلب ، تحليل : تحلة القسم أي قليل .
(19) العجايات : الأعصاب المتصلة بالحافر ، زيماً : متفرّقاً ، تنعيل : شد النعل على ظفر الدابة ليقيها الحجارة . الأكم : الأراضي المرتفعة .
(20) أوب : الرجوع وسرعة التقلب ، تلفّح : اشتمل والتحف . القور : جمع قارة وهي الجبل الصغير . العساقيل : السراب .
(21) شدّ النهار ك ارتفاعه وشدة الحرارة ، عيطل ، الطويلة ، نصف : المتوسطة في السنّ فتكون أقوى في حركتها ، نكد : جمع نكداء وهي التي لا يعيش لها ولد . مثاكيل : جمع مثكال وهي كثيرة الثكل .
(21) نوّاحة : كثيرة النوح ، رخوة الضبعين : مسترخية العضدين .
(22) تفري : تقطع ، اللباب : الصدر ، المدرع : القميص ، رعابيل : جمع رعبول أي قطع متفرقة .
(23) الغُواة : الوشاة المفسدون ، جنابيها : حواليها .