متى يستحي الليبرالجيون العرب؟
يدّعي الليبرالجيون العرب أنهم من دعاة الحرية والديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وترقيتها، وظلّوا يرفعون شعارات بهذا الخصوص وصلت درجة التشدّد والغلو في المثالية. لكن بقي ذلك مجرد كلام للاستهلاك والضحك على الذقون، حيث إنهم في ممارساتهم يعادون الديمقراطية ويكفرون بها إن أدت إلى فوز إسلاميين بالانتخابات، وهذا الذي حدث في الجزائر عام 1992 وبعدها في غزة عام 2006 ثم حدث في مصر 2013، وسيبقى يحدث في أقطار أخرى مستقبلاً.
كما أنهم يباركون تصفية الإسلاميين المعتدلين الذين يؤمنون باللعبة الديمقراطية، ولو عن طريق التعذيب والقتل خارج أطر القانون والاغتيالات كما حدث في مصر والجزائر، وهو ما يتنافى مع كل القوانين الدولية التي يتباهى الليبرالجيون بها.
الانتخابات التي حدثت في الجزائر وفلسطين ومصر، هي الأشهر عربياً من حيث النزاهة والشفافية، فقد أشادت بها منظمات دولية ذات مصداقية عالية، واعترف أصحاب القرار والشأن بنزاهتها، غير أنها في الجزائر أدّت إلى فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وفي فلسطين أفرزت الصناديق فوز حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في أول مشاركة انتخابية لها، أما مصر فقد فاز محمد مرسي من حركة الإخوان المسلمين، وهذا فقط يكفي الليبرالجيين كي ينقلبوا عليها ويحرّضوا على وأدها وتدمير مكتسباتها ولو على أنقاض جثث الأبرياء بما يتنافى مع حقوق الإنسان التي صدعوا رؤوسنا بها.
لقد عاداها من يسمّون أنفسهم بـ”الليبراليين” وهم مجرد “ليبرالجيين” كما يسمّيهم الإعلامي الشهير فيصل القاسم، أو “ليبغاليين” كما أفضّل تسميتهم، حيث طعنوا فيها واستغلّوا منابر إعلامية فتحت لهم في الشرق والغرب، للتخويف من البعبع الملتحي المزعوم، بل إن بينهم من راح يلعن الديمقراطية التي ستؤدي إلى أسلمة الدولة والقضاء على ما يسمونها الدولة المدنية.
يتبجّحون كثيراً بذلك، رغم أن الدولة المدنية تقابلها الدولة العسكرية وليس الدينية، هذا في العالم الإسلامي، فالإسلام هو الدين الوحيد على وجه الأرض الذي تتجلّى فيه المدنية بأرقى صورها، لذلك لا يمكن جعل الدولة المدنية في مقابل الدولة الدينية الإسلامية.
لكن ذلك يصلح في الغرب، فالكنيسة لا يوجد فيها سوى اللاهوت، أما الحياة المدنية فلا يمكن أن تصنعها الكنيسة، لذلك حاربها المواطن الغربي بالعلمانية، وأنقذ نفسه من تسلّط رهبان الكنائس الذين حوّلوا الحياة إلى جحيم بسبب خرافات لاهوتية لا يمكن أن تصنع مدنية بالحياة.
أما الإسلام فهو يصنع المدنية ويؤطرها ويرتقي بها ويحميها من خلال مقاصد شريعته الخمسة التي تحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وكما هو واضح أن أربعة من هذه المقاصد الخمس هي مدنية ولها نصوص تشريعية كثيرة ترسي دعائمها وتحافظ عليها.
لم يقتصر شأن الليبرالجيين العرب على الطعن في الديمقراطية التي هي دينهم ودين آبائهم الأولين والآخرين في الغرب، بل تعدّى الأمر حتى إلى الشعوب التي تختار الإسلاميين، فيوجد من يتّهم الشعوب بالجهل وآخرون يصفونها بالرجعية وتفضيل الظلاميين على التنويريين، ولكن لما تختار أو حتى تزوّر نتائج الاقتراعات لصالحهم فإنهم يشيدون بالشعوب ويصفونها بأرقى النعوت المقدسة.
الليبرالجيون طالما رفعوا شعارات الدولة المدنية، ومناهضة العسكرتاريا، ويطالبون بالحكم المدني البعيد عن سلطة الثكنات العسكرية، غير أنهم لما يفشلون في تسويق بضائعهم بالانتخابات وتلفظهم صناديق الاقتراع، يلجؤون للثكنات ويشكلون لجاناً يسمّونها إنقاذ الدولة، وهذا حدث في مصر عام 2013، وقبلها في الجزائر عام 1992 لما شكلوا لجنة “إنقاذ الجزائر”، واصطف الليبراليون خلف الجنرال الدموي خالد نزار الذي قاد انقلاباً عسكرياً على إرادة الشعب.
بل إن الأمر نفسه مع تركيا العلمانية التي نجح الإسلاميون من قبل بقيادة أربكان وتم تدخل العسكر وإخراجهم من السلطة، غير أنهم ناضلوا مجدداً وتمكنوا من العودة إلى السلطة ونجحوا فيها بنقل الدولة التركية إلى حال صار فيه اقتصادها ضمن العشرين اقتصاداً في العالم، وديمقراطيتها تنافس أعتى الديمقراطيات في العالم.
ولا يزال الليبرالجيون العرب يكيدون لهذه الديمقراطية الفتيّة، لأن أردوغان نجح في تحييد المؤسسة العسكرية العلمانية وأعاد للمرأة حقها في الحجاب وأشياء أخرى ترتبط بالقيم الإسلامية التي لا يريدها ليبرالجية العالم الإسلامي، ومن يحذو حذوهم من تيارات أخرى معادية للإخوان المسلمين الذين يحسب عليهم نظام حزب العدالة والتنمية الحاكم.
أما بمصر فاصطفوا جميعاً خلف العسكر ودعّموا الجنرال عبد الفتاح السيسي في انقلابه على أول رئيس مدني في تاريخ مصر منذ العهد الفرعوني، وهاهو السيسي نفسه يعترف من ألمانيا أن الانتخابات التي جرت في 2013 وفاز فيها محمد مرسي هي نزيهة، ولكنها يبرّر انقلابه بأن الشعب نزع منه الشرعية، وهذا قياس ليبرالجي باطل لا يعتدّ به، فمن أخذ الشرعية عبر صناديق الاقتراع يجب أن تنزع منه عبر الصناديق نفسها وليس بشارع حرّضته المخابرات لأجل ثورة مضادة.
ولو كان الشارع له قيمته وفق مقاربة السيسي ما حصّن نفسه بمواد دستورية تحظر عزل الرئيس بسبب مظاهرات شعبية مناهضة له، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن منطق متناقض ويسير وفق أهواء من همهم السلطة والحكم على حساب الشعوب والأوطان.
الليبرالجيون العرب لم يتوقّفوا عند حد الاصطفاف وراء العسكر وحمل الحذاء العسكري فوق رؤوسهم، وتقبيل “البيادة” العسكرية على المباشر في برامج تلفزيونية، بل إنهم دعّموا الطغاة في قتل مخالفيهم من أصحاب الشرعية الانتخابية، فقد ذبح الجيش بقيادة الجنرال خالد نزار ربع مليون مواطن جزائري، من أجل اجتثاث الشرعية التي تحصل عليها الإسلاميون، الذين بدورهم كانت لهم أخطاء كثيرة ليس المجال لبسطها.
أما في مصر فقد اقترفت المؤسسة العسكرية المجازر وقتل وجرح الآلاف في رابعة العدوية وميدان النهضة، وبارك الليبرالجيون العرب حرق جثث متظاهرين سلميين ومدنيين اعترف العالم بسلميتهم ومدنيتهم، بل يوجد من دعا إلى حرق جثث المساجين السياسيين بعد إعدامهم، وهذا كله لاجتثاث حكم الإسلاميين في مصر رغم شرعيتهم التي أفرزتها ديمقراطية يدعي الليبرالجيون أنها دينهم.
طبعاً يفعل الليبرالجيون ذلك ولا يصبرون حتى نهاية العهدات الانتخابية كما هو معمول به في الغرب حيث أربابهم الذين يعبدونهم، فخوفهم أن ينجح الإسلاميون في تطوير أوطانهم وبذلك سيقضون على ليبرالجية لا تملك أيّ برامج في العالم العربي سوى تعرية المرأة ومناهضة قيم المجتمعات الإسلامية ونشر الفساد الأخلاقي.
لم يقتصر شأن الليبرالجيين العرب على دعم الانقلابات العسكرية على الانتخابات التي يفوز فيها الإسلاميون، بل إنهم يدعّمون طغاة آخرين يقتلون شعوبهم، وهذا ما نراه من الكثيرين الذين يصطفّون مع أنظمة فاشية مثل نظام السفاح بشار الأسد الذي ذبح حوالي نصف مليون مواطن وشرّد وهجّر وجرح أكثر من 10 ملايين سوري، ودمّر عشرات القرى وأكثر من 2 مليون بيت تمّ مسحه من الأرض ببراميل متفجرة وصواريخ سكود وطيران حربي وقصف مدفعي يطال المدنيين.
الغريب في ليبرالجية العرب أنهم يناهضون كل دولة يحكمها الإسلاميون، ويزعمون أنهم من دعاة الدولة المدنية التي لا يحكمها رجال الدين، وطالما تهجّموا على السعودية التي تطبق الشريعة الإسلامية وللعلماء مكانتهم في تسيير شؤون الدولة.
لكن في الوقت نفسه، يشيدون بالدولة الإيرانية العنصرية التي يحكمها المعمّمون من رجال الدين، فبعد المعمّم الشيعي الخميني جاء المعمّم الآخر خامنئي ضمن إطار ما يسمّى “الولي الفقيه”، وطبعاً مرشد الثورة هو الحاكم الأعلى والفعلي للدولة في إيران، بل حتى الرئاسة نرى المعمّمين هم من يحكمونها، والوحيد الذي كان يلبس بذلة هو أحمدي نجاد لكنه من المحافظين وتطرفه فاق من يدرّسون في الحسينيات، كما أنه ليس من الإصلاحيين الذين ينتمي إليهم أيضاً المعمّم خاتمي وغيره.
المصدر: نور سورية