اللعب داخل المنظومة

في لحظة توقف بثّ قناة رابعة الفضائية، ارتبك الإعلام الرافض للانقلاب، وصدرت الأوامر واضحة غيروا الاسم يعود البث، واستجاب الجميع، أو بمعنى أدق خضع للمنظومة فعاد البث!

عقدت السعودية صفقات عسكرية واقتصادية مع روسيا في محاولة متأخرة لعدم وضع البيض كله في سلة واشنطن، فصدرت الأوامر من المنظومة لتخرج وثائق ويكيليكس للمخاطبات الرسمية السعودية مع سفارتها، وظهر ما يقارب النصف مليون وثيقة! نحن هنا أيها السادة من نضع القواعد، والأطر والخطوط الحمراء. يمكنك أن تلعب كما تشاء؛ ولكن وفق القواعد وداخل المنظومة.

ولأننا لم نفهم أو نستوعب الجملة الأخيرة جيدا فلا تزال أزمتنا ومحنتنا في ثورات الربيع العربي هي في نقطتين جوهريتين في الإستراتيجية العليا لإدارة للصراع، وقدرة متخذ القرار على تنفيذ هذه الإستراتيجية.

حتى اﻵن نحن نخضع ثوراتنا بكاملها بل كافة القوى الصلبة للثورات العربية خاصة جماعات الإسلام السياسي منها إلى قواعد النظام العالمي وقواعد اللعب فيه، حتى أصبح الجميع يبذل مجهودا خرافيا للعمل وفق قواعد لعبة لم يضعها، ولم يشارك حتى في وضعها.

في إدارة الصراعات قد يكون هذا مقبوﻻ في السعي لتحقيق الأهداف الجزئية والتفصيلية والمرحلية؛ لكن أن تكون هذه هي إستراتيجيتك العليا لإدارة صراع كالذي نحياه في مصر، وفي المنطقة فهذه أم الكوارث!

العمل وفق المنظومة حاليا يجعل رد فعلك متوقعًا، وتحت السيطرة؛ ففلسفة المنظومة تقوم على التحكم المطلق، والسيطرة الكاملة على أجزائها كافة، وكل قواعد اللعب وضعت لتحقيق هذا الهدف الإستراتيجي لها.

فمثلا عند اعتقال شخص في مظاهرة أو حتى إحدى القيادات الثورية فالعمل وفق المنظومة لن يجعلك تتجاوز (كتابة بيان، عمل هاشتاج، سرد سيرته الذاتية، رفع صورته في المظاهرات، تقديم بلاغ للنائب العام عن اختفائه)، ومع استمرار الأزمة نعاود الكرة ببيان آخر، وهاشتاج جديد. أنت تفعل كل ما سبق، وأنت تدرك يقينا أن أيا مما سبق لن يخرجه من محبسه، لكنك لا تعرف غيره، ولا تحاول أن تعرف، حتى لا تخرق قواعد اللعبة فتُعاقب عقابا قاسيا.

ومن هذه النقطة فإن إدارة الصراع تقوم على الحركة داخل مربع النظام العسكري في مصر، والذي هو تابع فرعي في المنظومة، وعليه فغالبا كل ردود فعل معارضي الانقلاب متوقعة، ومعروفة لديه لأنه يعلم يقينا أنك لن تخرج عن القواعد المتبعة للعبة التي وضع قوانينها كما أشرنا سابقا، للأسف العقل الإستراتيجي للثورة منغمس حاليا في التعامل مع أهداف مما يطلق عليها علماء الإدارة أهداف تفصيلية، ومرحلية، وحتى الآن يخشى أن يحاول اللعب خارج المنظومة.

لنفتح القوس بشكل أكبر

على سبيل المثال: عندما بدأت مباحثات الأزمة اليمنية في جنيف منذ أكثر من أسبوع رفض ممثل الأمم المتحدة وصف الحكومة اليمنية الحالية بأنها “حكومة”، واعتبرها “طرفًا سياسيًا”، وحدثت أزمة كبرى بسبب رفض الأمم المتحدة وصف الحكومة اليمنية بالحكومة!

بمعنى أن الحكومة الشرعية ﻻ تعترف بها الأمم المتحدة، بل ساوت بينها وبين الحوثيين في أنهم “طرف” مثلهم، حتى وصل الاستخفاف الحوثي بالمشاورات أنهم يقومون بها من أماكن إقامتهم الفندقية، وانتهت المفاوضات دون تحقيق أي تقدم!

الجزء الغاطس من الصراع إذن يقول لنا إن الوﻻيات المتحدة والغرب هما الداعم الأساسي للحوثيين، وإيران حتى لو أظهروا خلاف ذلك. الجزء الغاطس من الصراع أيضا يقول إنه ﻻ يوجد حكومة غربية لها قيمة أدانت الإعدامات بحق رئيس الدولة د. محمد مرسي، ووزراء، وقيادات سياسية في مصر من حكومة هشام قنديل، ومن تحدث منهم عبر عن “القلق أو التململ” فقط لا غير، هذا القلق الذي في ظله تم قتل ربع مليون سوري غالبيتهم من الأطفال والنساء!

الجزء الغاطس من الصراع الحالي يقول لك إن هناك أزمة بين القاهرة والرياض حول دور حزب التجمع اليمني المحسوب على إخوان اليمن، ودوره في مستقبل البلاد؛ فالقاهرة ترفض أي دور للحزب في مستقبل اليمن! فما بالك بالإخوان في مصر؟!

ما أريد قوله من الأمثلة السابقة أننا ونحن مشغولون ومستغرقون بتحقيق نجاحات جزئية هنا أو هناك قد تكون لها قيمتها على المستوى الفردي، أو على أقصى تقدير تمثّل إزعاجًا وضيقًا للمنظومة، ومن يديرها دون أن نخرق أيا من قواعده، فإننا سنجد أنفسنا قريبا مقبلين على مباريات صفرية بالمنطقة، وتقسيم، وتفتيت لدولنا العربية، ونزاعات مسلحة عنيفة على غرار سوريا والعراق، والبعض منّا منشغل بتفاصيل جزئية يشغلنا بها النظام هي أقرب إلى الكوميديا السوداء عند مقارنتها بالصراع المزمن الذي نخوضه. فنجد إعلامنا يعتبر النجاح في اقتحام “ميدان التحرير” لعدة دقائق إنجازا ثوريا ضخما رغم الاعتقالات التي قد تتم للمتظاهرين!

وحتى ﻻ يسيء أحد فهمي، فإنه على المستوى التكتيكي يمكن قبول أن ننشغل بهذه الأهداف، والتفاصيل لكن على المستوى الإستراتيجي لا يمكن القبول بذلك مطلقا. حين فكرت أن يكون لك عالمك الخاص في اعتصام رابعة، ولو بشكل جزئي تمت إبادتك، وبمباركة غربية كاملة.

الشيء الوحيد الذي يعجبني في بعض الحركات الإسلامية الجهادية – رغم اختلافي الشديد مع بعضها فكريا، ورفضي للكثير من أسلوب عملها – أنها تحاول العمل خارج منظومة قد تعمل بشكل خاطئ، ولكنها ﻻ تخضع نفسها لها.

إذا قارنا هذه الحركات مع حركات أخرى إسلامية كذلك فسنجد النتائج تختلف بين من يعمل داخلها، ومن يحاول الخروج عليها. في العراق مثلا عمل فصيل منهم داخل المنظومة كاملة كما أرادها الغرب حتى اشتركوا في حكومة شكلها الاحتلال، أما اﻵن فأصبح دورهم في الصراع يقترب من الصفر أو أدنى من ذلك.

وأصبح العالم بأكمله الآن منشغلًا بمن يعمل داخل المنظومة خاضعا لها بشكل كامل، كحكومة العبادي العراقية، ومن يحاول الخروج عليها كتنظيم الدولة هناك.

نفس القصة في سوريا، لعب فصيل إسلامي داخل المنظومة، وشارك في الائتلاف السوري الذي تصرف عليه أجهزة المخابرات الغربية، ولم نعد نسمع حاليا عن هذا الفصيل بسوريا مطلقا؛ رغم أنه قد يكون موجودا في المقاومة مع الشعب كأفراد، لكنهم كمؤسسة هي جزء أصيل من مستقبل سوريا فهذا حاليا تبخر وأصبح سرابا.

في مصر نحن مقبلون في حبور على نفس المستقبل سنظل نلعب داخل المنظومة، ونحافظ على قواعدها أكثر مما يطلب هؤﻻء، سنعتبر أي خروج عليها، ولو بالأفكار أو الكلام ضربا من الشطط، وعدم الحكمة وتشويهًا للتعاطف الدولي معنا!

التعاطف الدولي هذا لم يمنع من إبادة مليون ونصف المليون عراقي، ولا قتل نحو خمسة آلاف في رابعة، والنهضة، ولا الإعدامات المسيسة في مصر.

وحتى يأذن الله بمن يفكر إستراتيجيا للعمل خارج المنظومة فلنستمر في اللعب داخلها، مع ملاحظة أن ما تناولته في المقال هو موجه بالأساس لصانعي ومتخذي القرار، وليس بطبيعة الحال لجماهير الثورة التي لا يمكنها أن تتحرك، وتنتج وتبدع؛ إلا بالمتاح لها بشريا وماديا. لذلك أرجو ألا يُفهم كلامي على أنه تقليل من شأن أي جهد ثوري مبذول، ولكنها محاولة للفت انتباه صانعي القرار للتفكير خارج الصندوق، وخارج المنظومة حتى تكتب لثورتنا النجاح بإذن الله.

وسوم: العدد 626