المال.... والبنون.... والمال ...
كثيراً ما استسخفنا دور المال في الحياة البشرية، والسياسية. في صناعة مواقع الناس ونفوذهم وتأثيرهم . كانت الشعارات التي نؤمن بها أقوى في النفس والتقدير، وهي تنتمي لعالم الفقراء، وتتلفّح وتتلاقح بأفكار ثورية متناوبة الارتفاع والحماس.. خاصة في مراحل الشباب وذلك الاندفاع لبناء عالم متوازن، يحقق شيئاً من العدالة الاجتماعية... وصولاً للاشتراكية التي آمنا بها، وتعددت الرؤى حولها، واعتقادنا أنها الحل الأمثل لإنهاء الاستغلال، والظلم، والخلل الاجتماعي، لدرجة أن كثير اليساريين، خاصة المراهقين منهم ربطوها بالفقر والتعتير، وكأن الفقر هدفاً، والمعاناة حلماً، و"النزول" إلى مستوى الطبقات المُعدمة غاية.. فترك العديد دراستهم والتحقوا بالعمل اليدوي وقد انتفخ الفخر بتحولهم إلى جزء من بروليتاريا مختلطة، وافتراضية في بعض بناها ودورها .
ـ كان الأهل، ومن قبله التاريخ وسيره.. يحدثوننا عن دور المال في رفع سوية من يملكه، وتصديره المواقع والوجاهة، وأثره في مختلف مناحي الحياة.. مقابل ما يجلبه الفقر من منغصات، ومشاكل.. وكنا نهزّ الرؤوس مجاملة لكننا نرفض ذلك في أعماقنا انطلاقاً من تلك القناعات البديلة العامة، والتي تضع الأفكار في موقع الواقع، وتحاول استبدال المعطيات بالأحلام ..خاصة وان الحرب ضد الرأسمالية وشرورها، وارتباطها بالمستعمر والمستدمر يُسهم في بناء عالم معرفي مختلف يتطلع إلى إنهائها ، أو على الأقل وضعها في حيز ضيق ضمن مفاهيم الدولة صاحبة المشروع التنموي البديل .
ـ وبعيداً عن قصة امتلاك المال للنفوس، واستعباد البشر خلافاً لأصله ودوره كوسيلة.. فالفرق كبير بين غيابه تماماً، وبين وَفْرته فيضاً، ولئن وضعنا جانباً الخاص ورحنا إلى العام لأدركنا أثره الحيوي في مصائر الأفكار والحركات وفعاليتها، وتمكنها من إنجاز أهدافها، أو أبسط المهام التي تقررها .
***
في تجربتنا الطويلة بالعمل السياسي لعب الوضع المالي دوراً بالغ التأثير، وبما أسهم في تراجع وضمور وحتى انقسامات عديد الحركات السياسية المعارضة، وعلى سبيل المثال : حين يتعرّض تنظيم لعملية اعتقالات واسعة تترتّب على ذلك مجموعة متشعبة من الأعباء : مسؤولية التنظيم إزاء المعتقل وعائلته.. وحين لا ينهض بها، أو لا يكون قادراً على تقديم الحدّ الأدنى الواجب سترتدّ سلباً على التنظيم برمته، وقد تحوّل المعتقل وعائلته إلى يائسين، وناقمين، ومعادين.. ويشيع أجواء سلبية سرعان ما تنتشر وتستخدم من قبل النظام المعادي، ناهيكم عن العجز في القيام بالمهام المقررة، ومجمل مقتضيات العمل السري والإعلامي وغيرهما..
ـ من جهة أخرى فإن ضعف القدرات المالية لدى مختلف أطياف المعارضة القومية واليسارية كان في صلب أسباب الانحسار، والأزمات المتلاحقة، وفي ضعف حضورها وفعاليتها رغم أكوام النوايا، والشعارات، والقرارات، والبرامج الجيدة، والصياغات النظرية المتماسكة .
ـ هنا لا بدّ من التنويه إلى قضية مهمة حين نبحث عوامل انتشار وقوة التيارات الإسلامية المرتبطة مباشرة بموقع العامل المادي وأثره، ففي حين تتعدد مصادر التمويل والدعم والمساعدات من قبل الهيئات والجمعيات والمنظمات والشخصيات الإسلامية، وحتى من الدول.. عانت القوى الديمقراطية والعلمانية الحصار والتضييق والشح، ولم تستطع عبر نهج الاعتماد على الذات : الاشتراكات وبعض التبرعات البسيطة من أعضائها وأصدقائها من توفير مستلزمات العمل.. فناخت بحمله .
ويجب الإشارة هنا، أيضاً، إلى عامل مهم : بدءاً ونتاجاً، الخاص بمفاهيم التراحم والمساعدة والتعاون الذي اتسمت به الحركات الإسلامية، على العموم، بينما افتقرت إليه القوى الأخرى، وما حققته الوفرة المالية، وسبل العمل من إنشاء قاعدة تحتية قوية على شكل جمعيات خيرية، ودعوية، ووسائل تقديم الخدمات، والطبابة، والإغاثة.. كانت تتيح التواصل مع شرائح واسعة من الناس وربطهم مصلحياً، او نفعياً بها.. بينما اتسمت القوى القومية واليسارية والعلمانية بنمو الذاتية والفردية فيها، وضعف التعاون فيما بين أعضائها، بشكل عام، ولم تفكر يوماً ببناء شبكة علاقات اجتماعية محصّنة بجمعيات المجتمع المدني تمنجها قدرة التواصل مع الفئات الشعبية، وإقامة مشاريع استثمارية خاصة توفر لها الاستقلالية، ومصادر الدخل .
*****
بعد انتقال الثورة السورية للعمل المسلح، وعبر تزايد حاجات السوريين للإغاثة متنوعة الأشكال، وتعمّق حدّة أزمة البلد : نزوحاً ولجوءا وهجرات وبطالة متفاقمة، وجوع ينتشر.. طغى الجانب المالي بقوة الحاجة إليه، وتأثيره، وبات اليوم من العوامل الحاسمة في موازين القوى السياسية والعسكرية .
فدخول أطراف، ومؤسسات، وجمعيات مختلفة، ودول على خط الإغاثة.. كان الطابع الإسلامي هو الغالب عليها..أدى إلى بناء معادلة جديدة تكاد تكون من طرف واحد : سيطرة الطيف الإسلامي عليها، وتراجع متلاحق للقوى الأخرى..إلى درجة الغياب والانسحاق، وانعكاساته على العمل السياسي، وعلى بروز قوى جديدة متمكنة، وتمسك بعنق الإغاثة وتتصرف بها وفق خلفياتها الإديولوجية، العقائدية .
ـ وحين نجيء إلى العمل المسلح تبرز الصورة الطغيانية فاقعة . لقد تأسس الجيش الحر، مثلاً، من أطياف مختلفة لم يكن الجانب الإسلامي، أو التشددي كاسحاً، وانخرطت فيه أوساط منفتحة، مؤمنة بالدولة المدنية التعددية الديمقراطية، وبأهداف الثورة المعلنة، بما في ذلك هوية ودور الجيش كمؤسسة وطنية موحدة تخضع للقيادة السياسية ولا تتدخل بشؤون الحكم . لكن عوامل مجتمعة، كان الجانب المالي، بأفرعه، أساساً، ودور القوى الإقليمية وحتى الدولية، قادت إلى انزياحات متتالية لقوة ووجود الجيش الحر درجة التلاشي في معظم وحداته وكتائبه، أو الضيق المالي الشديد الذي أنتج وضعاً صعباً، ومزرياً لضباطه وأفراده إلى مستوى البحث عن لقمة العيش أو أدنى وسائل البقاء والقتال من عتاد وذخيرة سلاح.. بينما كانت الاتجاهات الإسلامية تتلقى دعماً كبيرا من هيئات وأطراف وجهات عديدة ممتلئة.. ساعدتها في الانتشار، والتوسع، وفرض وجودها على الأرض، وما يشبه التصفية للقوى الأخرى، أو إجبارها على الالتحاق بها وبمشروعها الإديولوجي المعلن .
ـ حتى الإئتلاف الذي يُفترض ان يكون تحالفاً سياسياً بين قوى معارضة وحراك ثوري وميداني لممارسة دور تشريعي ـ سياسي يتناسب والمكانة التي وُضع فيها، والمأمول منه، عبر اعترافات دولية به، وعدم وجود بديل آخر يمثل الثورة الثورية..بدا فيه أثر المال قوياً عبر صعود أطراف إلى مواقع القيادة والتأثير بفعل ثقلهم المالي وعلاقات النفوذ القائمة بينهم وبين دوائر القرار في الدول العربية والإقليمية والخارجية، في حين يجري تهميش الأطراف والشخصيات الوطنية صاحبة الخبرة والتاريخ والمقدرة، والتي تحمل مشروعاً للنهوض به، وبمهام الثورة، ومواجهة التحديات الخطيرة عبر محاولة الإمساك بالقرار الوطني، وبناء علاقات ندّية مع الأشقاء والأصدقاء تنطلق من الأهداف والمصالح المشتركة، وليس من نهج التبعية والذيلية والا نصياع .
ـ قد تحمّل، ويجب أن تحمّل، القوى الوطنية والديمقراطية، بما فيها قوى الإسلام المعتدل، المسؤولية الكبرى في تشتتها وعجزها عن توحيد قواها ووحدة عملها، وإنجاز توافقاتها.. بل وفي تأمين مستلزمات عملها من الوطنيين السوريين، ومختلف الهيئات والجهات العربية والدولية دون شروط تخلّ بقرارها واستقلاليتها.. وهو أمر سيبقى مطروحاً في إطار بناء ميزان قوى متوازن، وفي العودة إلى جوهر أهداف الثورة، وتحقيقها.. بعيداً عن فروض الخارج، وإملاءات القوى المتشددة، أو الذهن الاحتكاري الذي يريد استغلال الدين وتوظيفه خدمة لمشاريع خاصة وفرضة بقوة السلاح والمال، وعلاقات النفوذ ..
وسوم: العدد 628