مأساة اللاجئين السوريين ... هروب من الموت إلى المجهول !
غدت أوروبا المأوى الذي يتطلع إليه اللاجئون العرب خاصة السوريين، كل منهم يبغي الوصول إليها للبحث عن ملجأ بعد أن لفظهم وطنهم، رغم المخاطر الكبيرة التي تعتريهم وتحيط بهم للوصول إليها، هرباً من الموت إلى الموت - أو إن شئت الدقة - صورة للموت بأبشع صورة!!، وغدت المسألة السورية كسفينة ضلت سبيلها، لا تعرف مكانها، ولا تعرف خريطتها، ولا أحد استطاع أن يحجب الرياح الشديدة عنها، وأخيراً غرقت تلك السفينة في بحر من الدم والدموع في ليلة مظلمة لا ضوء للقمر فيها.
ولعلَّ من المشاهد القاسية التي يندى لها جبين الإنسانية صورة الطفل السوري "إيلان عبد الله الكردي" الذي يبلغ الثالثة من عمره، والذي غرق مع أخيه ووالدته أمام السواحل التركية، وهو منكفئ يحتضن رمال الشاطئ وسط الأمواج المتلاطمة. صورة الطفل هذه التي تخطت كل الحدود، وكان لها الوقع الأقوى في هز القيم والضمير الإنساني، باتت رمزاً لما آل إليه اللاجئون السوريون الذين لم تأوهم إلا الخيام على الحدود، أـو مراكب الموت على مرأى ومسمع العالم مقابل إخفاق المجتمع الدولي في حل المسألة السورية، وفاقاً مع قول الشاعر:
مَررتُ على الفضيلة وهي تبكي فـقــلت علامَ تـنـتحبُ الـفتــاةُ؟
فــقــالــت: كــــيـف لا أبـكـي وأهــــلــــــــــي
جميعاً دُونَ خلق الله ماتوا
وإنَّ ما يضع ألف سؤال وسؤال دون إجابة شافية مقنعة لواحد منها هو: أين النخوة العربية؟ وأين الكرامة العربية؟ وهؤلاء الهاربون من جحيم الظلم في بلادهم يلاقون الحفاوة والترحاب من الأوروبيين والغرب حتى وصل الأمر أن تقول المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" في تصريح مقتضب لها: (سنخبر أطفالنا عن هروب اللاجئين السوريين والفلسطينيين عبر مواكب الموت إلى أوروبا بالرغم أن مكة "بلاد المسلمين" أقرب إليهم، ويوماً ما سنحكي لهم عن هجرة الصحابة إلى الحبشة، ففيها حاكم نصراني لا يُظلم عنده أحد)، دون أن يحرك هذا القول أو هذا الواقع المرير لهم ضمير عربي واحد؟ عفواً ضمائر الحكام، فالشعوب ضمائرها حية، فهل نضب معين العروبة من مشاعر الانتماء وصلة الرحم، بحيث لم يفتح أي بلد عربي، لاسيما أمراء النفط، حدود بلادهم لأخوتهم، أخوة المصير، ويشربون النخب على أرواح هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين أصبحوا طعاماً لأسماك القرش تارة، والغرق في أعماق البحار والمحيطات عبر رحلاتهم إلى المجهول الذي يلقون بأنفسهم إليه دون التفكير بالمصير والنتائج؟
ولا فضيلة لحاكم أشرف من الرحمة، وهذا يقودني إلى قول الشيخ "محمد عبده" عندما زار فرنسا: إن بها إسلاماً من غير مسلمين، وببلادنا الإسلامية مسلمون من غير إسلام). والمعنى المقصود في ذلك أن هناك أخلاقاً إسلامية يرضاها الإسلام، ويدعو إليها، وأصحابها ليسوا من المسلمين، وفي بلاد الإسلام أخلاقهم لا يرضاها الإسلام، ولا يقرّها، لأنهم مسلمون بالإسم وبشهادة الميلاد، وكذلك نعود إلى قول ابن تيمية: (إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة).
ما من شك أن الولايات المتحدة الأمريكية لعبت دوراً رئيسياً لا يُستهان به في إشعال ما يُسمى (الربيع العربي) الذي عصف بالمنطقة العربية، لتحقيق رؤيتها لنظام عالمي جديد، وشرق أوسط وفق الرؤية الأمريكية لبلورة واقع عربي استراتيجي، تحكم فيه واشنطن السيطرة على مقدرات وخيرات الشعوب العربية والإسلامية، وذلك عندما بشرت وزيرة الخارجية الأمريكية عام 2005 عن نية أمريكا نشر الديمقراطية بالعالم العربي بالبدء بتشكيل ما يُعرف "بالشرق الأوسط الجديد" كل ذلك عبر ما يسمى بالفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنه سايكس بيكو جديد، يقسّم المنطقة العربية، ويعيد رسم خارطتها ومعالمها، وكأن أحداً لم يتعلم الدرس! فوقعنا في الفخ، ولم نتعلم من التاريخ الزاخر بالمواعظ والعبر عن الزمن الضائع بالخبث والمؤامرات الدولية حين وقعنا في حبائل أمريكا وكلماتها البراقة وأمانيها الخادعة التي كانت تُستعمل للتمويه والخداع، وليس فيها من الحق سوى إسمها ولا من الواقع سوى رسمها، واتضح جلياً أنها كانت تنظر إلى المنطقة العربية وفق مخطط واحد للاستيلاء على ممتلكاتها وخيراتها، وفلسطين خير شاهد حي على ذلك وانطبق علينا قول الشاعر الجزائري "محمد السعيد الزاهري":
وإن يسلب الإفرنج في الشرق عزّنا فكم مسلم خلّى الطريق ومهّدا
ولـولا حمـاة الـشــرق خانـــوا بعــــــهده لما ملـك الإفــرنج للشرق مقـودا
ففي المشهد السوري وصلت شرارة الربيع العربي إليه، وكانت أوضاع الشعب السوري بائسة وواقعه مريراً يعاني أشكال القهر ويقاسي الأمرين، وبطبيعة الحال هلل الناس فرحين بهذا الربيع، ولاح لهم كبارقة أمل في الخروج من الدائرة السوداء التي أحاطت الأقدار حياتهم بها، واعتقدوا أن عهداً جديداً من الديمقراطية وحقوق الإنسان أشرق من جديد، ولكن سرعان ما انحرفت البوصلة، وتحول هذا الربيع إلى مؤامرة على سوريا وشعبها، بل على شعوب المنطقة، وبدأ عهد على عكس ما توقع الناس بأعمال لا نجد لها مثيلاً في التاريخ من الفوضى والخراب والقتل والتدمير، حين أشعلت الولايات المتحدة الأمريكية فتيل الحرب الأهلية، وسخرت أدوات لها من أبناء الشعب السوري، خاصة الجماعات المسلحة التي تعارض النظام الحاكم في سوريا ودعمها مادياً ولوجستياً لتقوم بالنيابة عنها في إدارة الصراع وتدمير سوريا، وإنهاك الطرفين المتصارعين خلال حرب طائفية طاحنة مفتوحة بهدف تقسيم سوريا وتفتيتها إلى كينونات ضعيفة، واستنزاف قدرات الشعب السوري في حرب لا تغني ولا تسمن من جوع، ليس فيها منتصر أو منهزم، إنما الخاسر الأكبر سوريا بكل مقوماتها، وتظل الولايات المتحدة في موقع السيطرة والاستحواذ على مقدرات الشعوب بلا منازع، وتأمن إسرائيل على نفسها في ظل الأوضاع الجديدة التي قلبت الأمور رأساً على عقب، وتجسد ذلك جلياً أن أمريكا لم تتدخل لمقتل مئات الآلاف من الضحايا السوريين، وتدخلت فقط لنزع السلاح الكيماوي، لأنه خطر على إسرائيل، فالرذيلة في أية صورة من صورها تمنح العدو سلاحاً، ومن الأمثال الشعرية ما قيل:
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لما هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
الحالة السورية هذه، وكذا حالات الآخرين تحتاج إلى أكثر من إيواء، إنها في حاجة إلى من يُعيد الأمل إلى تلك الشعوب البريئة التي هي على قائمة رحلات الموت، للمحافظة على حياتهم وإنسانيتهم التي تذهب داخل قوارب الهلاك وقيعان البحار!
وسوم: العدد 632