نحن وروسيا ...

ربطتنا علاقات " تاريخية" بالشعوب الروسية عبر الانحياز : الاضطراري، فشبه الاختياري لحركات التحرر الوطني والقومي وهي تواجه الاحتلال الأجنبي وتركته الثقيلة، ومحاولات الاستعمار الجديد والقديم السيطرة على بلادنا، ومحاربة التوجهات الوحدوية، النهضوية، وقصة فلسطين المركز، وفلسطين التي تحولت لقاعدة للصهيونية والغرب ..

وانبثقت الخيارات في عملية قيصرية شبه إجبارية حول ما يعرف بحرق المراحل، والنظام الشمولي، والانضمام إلى معسكر السوفييت، ثم تلك الفلسفة التي ولّدت الأحادية، واعتقال الحريات العامة والفردية.. فالارتداد الشمولي الخارج من رحم تلك النظم وأحزابها.

لا شكّ أن السوفيت قدّموا الكثير لبلداننا خاصة بعد عدوان حزيران ونتائجه الكارثية، وفي عموم الميادين.. لكن السياسة السوفييتية قامت على دعم النظم القائمة حتى لو كانت قمعية، وانقلابية، وأقلوية، وعسكرية، ودكتاتورية. ولو رفعت مجرد تلك الشعارات المزوّقة، المغشوشة، وذهبت مديات بعيدة في اغتيال الحريات العامة والفردية، ونهب الناتج العام، او بعثرته في إشادة ممالك رعبها، وتضخيم أجهزتها الأمنية، وجيوشها : حماية لها وليس للأوطان والمواطن..

ـ سقط الاتحاد السوفييتي بطريقة مدوّية، وكثرت التأويلات في الأسباب.. وموقع الذاتي من الموضوعي، والموضوعي من التدخل الخارجي.. لكن واقعاً جديداً نهض.. ويجب هنا الانتباه، وفيما عدا حالة يوغسلافيا السابقة، فإن جميع بلدان أوربة الشرقية التي كانت جزءاً من " المنظومة الاشتراكية" عرفت تحولات سريعة، وسلمية نحو الديمقراطية والتغيير الشامل، وبما يطرح أسئلة مهمة عن العوامل السماعدة، ودور أمريكا، والاتحاد الأوربي في تلك العمليات، خلاف الموقف من ثورات الربيع العربي التي جوبهت بكثير الألغام والتدخلات الخارجية المانعة والتفجيرية .

ـ كما يجدر بالذكر أن شرائح كبيرة من تلك الشعوب التي اعتقدنا ـ طويلاً ـ أنها صديقة حميمة للشعوب العربية..أظهرت، وتظهر نوعاً من العداء الوحشي للعرب والإسلام، وتبدو الصورة فاقعة هذه الأيامك في الموقف من اللجوء الاضطراري لعشرات آلاف السوريين.. حيث تعتلي المجر تلك الموجة العدائية، على جانب فئات اجتماعية في بلدان اخرى ترفع رايات الحقد، والخوف من العرب.. وبما يتجاوز قصص اليمين واليسار، والنظام الحاكم ..

***

عانت روسيا مرحلة القلقلة لسنوات، وبرزت فيها أقذر وأضخم المافيات في العالم.. ومن اسماء ورموز كانت تعتبر شيوعية" خالصة" وفي مواقع مهمة.. وغرقت روسيا سنوات في أوضاعها تعالج تلك التركة الطويلة، ومنتجات مرحلة الانتقال، والتفكك.. وبرز بوتين : ابن المؤسسة الأمنية "الكاجي بي" إمبراطوراً جديداً يحمل سيف الأمجاد السابقة، وصولجان روسيا التي تسيطر على عدد من الجمهوريات والمناطق الأخرى بأغلبية مسلمة ..

وكانت حرب القضاء العنيف على ثورة الشيشان للاستقلال، وبعض المناطق الإسلامية، تاج التتويج : بطلاً قومياً .. تزيده عمليات حصار أوكرانيا، وإلحاق جزيرة القرم بالتاج الإمبراطوري ثقة، وشعبية، واحتكاراً للسلطة على طريقة كبار الأباطرة الذين عرفتهم روسيا في تاريخها الطويل .

ـ لا شكّ ان عوامل كثيرة ساعدت روسيا في لملمة أوضاعها، وتجاوز عثراتها، والبروز قوة عالمية ناهضة تستعيد أمجادها، وتنافس الولايات المتحدة في مواقع كثيرة.. كانت سورية بؤرة مهمة.. وبالاستفادة من جرائم وأخطاء الإدارات الأمريكية في وطننا، خاصة بعد غزو العراق وتدمير دولته الوطنية، وما قامت به من أفعال مشينة.. توجتها بتسليم هذا البلد العربي الاستناد للهيمنة الإيرانية، ولطغم طائفية موتورة، ومواقفها من القضية الفلسطينية وانحيازها المطلق للكيان الصهيوني ..

ـ روسيا اليوم تريد التذرّع بتهميشها فيما حصل في العراق وليبيا، وعموم الساحات العربية،وخروجها من " المولد" دون أي غنيمة، ومعاملتها بازدراء، وتهميش.. تدفعان بابو الأمجاد إلى الانتفاض.. والردّ على ذلك بعدد من المبادرات، والتحركات.. كانت سورية المركز فيها..

ـ ومن اليوم الأول للثورة السورية، ورغم طابعها السلمي، الحضاري، ومناداتها بالإصلاح، والحرية، ونظرتها الطيبة لروسيا، وموقعها، ودورها، وتاريخية العلاقات معها.. تعاملت الحكومة الروسية بعداء شديد مع الثورة، وانحازت بإطلاق إلى جانب نظام القتل والفئوية، مانعة الهيئة الأممية من اتخاذ أي قرار يدين جرائم النظام، ويحاول إيقاف أفعاله الإبادية، ومحاسبته على ما يقترف . أكثر من ذلك فقد استمر الدعم اللوجستي متعدد الوجوه، واستمر آلاف الخبراء الروس في عملهم يرشدون القتلة على استخدام أنجع الوسائل، ويسيّرون آلة الفتك، وصناعة البراميل، وحركة الطائرات، وكثير من أعمال ترتقي حدّ الشراكة المباشرة، إلى جانب تزويد النظام بشتى أنواع الأسلحة المتطورة، وتعويضه عن جزء مما يخسره في معركته ضد الشعب.

ـ بالوقت نفسه مارست روسيا الخداع السياسي بطرحها أفكار، ومبادرات سياسية، ودعوتها عدداً من وفود المعارضة، إلى جانب وفود النظام ـ بالطبع ـ تحت عناوين بحث إمكانية إيجاد تسوية، أو حل سياسي، واستخدام الخبث المباشر، أو عبر التسريب بقابلية نظامها على التخلي عن الأسد، وعن إبداء " تعلقها" بالشعب السوري، وبأنه صاحب القرار في ذلك..إلى درجة أنها، وفي الآونة الأخيرة، نشطت كثيراً تحت عناوين مبادرة جديدة لحل الوضع السوري، وأبدت شيئاً من الانفتاح في مناقشة آراء المعارضة، بما في ذلك مصير القاتتل بشار وكبار رموز نظامه، وقد اعتقد وفد الإئتلاف أن ذلك تطوراً إيجابياً مهماً في الموقف الروسي جدير بالاهتمام، والمتابعة، وتحسين العلاقة ...حتى كان التدخل العلني السافر، الواسع، الشامل..

***

الأكيد أننا لسنا هواة اختراع، أو إيجاد أعداء جدداً، فالعدو الرئيس : النظام يكفي كل جهد السوريين للتخلص منه، لكن الأمور تُفرض على الشعب السوري بقوة فظاظة، وأخطار التدخل المباشر الذي يمكن وصفه بواقعية على أنه احتلال مباشر لبلدنا يتجاوز حكاية دعم النظام وبقائه إلى الأبعد، والأعمق، إن كان ذلك عبر الوجود الإيراني المتشعب، ومليشياته الطائفية التابعة له، وما فعلته من تصعيد طائفي يهدد بحرف الثورة، وإغراق المجتمع السوري بحرب طائفية ضروس تمزق وحدته الوطنية، وتحفر أخاديد عميقة فيه قد تحتاج سنوات لعلاجها، او من خلال هذا التدخل الاحتلالي الروسي الجديد وخلفياته، ومرتسماته .

ـ كما أننا لسنا مغرمين بالتفسير البوليسي للتاريخ والأحداث، لكن الوقائع العنيدة تفقأ العيون . فروسيا دحلت بقوة على خط التوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ قصة السلاح الكيماوي والتخلص منه، وقد أثار ذلك الاتفاق الريبة القوية في احتمالية تجاوزه للمعلن إلى اتفاقات سرية تخصّ بلدنا، والعراق والمنطقة.. باستدعاء النفوذ الإيراني والروسي وشرعنتهما، مقابل تراجع ملحوظ لموقع ودور أمريكا، وكل ما يحكى عن الحصص، والتقسيم، والمستقبل..

ـ ثم أن الاتفاق مع إيران حول ملفها النووي يحمل في طيّاته ما نخشى منه من استمرار ذلك التوافق المرتسم على الأرض، والذي يتخذ شكل احتلال مباشر للعراق وسورية.. وتفويض بدور كبير فيهما.. وصولاً إلى هذا التطور الكبير في إعلان الوجود العسكري الروسي، وممارسته فعل القصف لبلادنا بموافقة أمريكية، وبغطاء سخيف ، ومضحك : استجابة لطلب من نظام فاقد الشرعية ...

ـ ومهما قيل عن خبث أمريكي لتوريط الروس في مياهنا العميقة.. وخطاب أوباما الأخير في الجمعية العامة، المغاير لتصريحات وزير خارجيته قبل أيام، ولعدد من القادة الأوربيين حول ضرورة التفاوض مع الأسد واستمراره، والذي لا يجد أي مرتسمات له على الأرض.. فإن الاحتلال الروسي لبلادنا أمر يتجاوز كل تكتيكات الدول الكبرى ومصالحها ومشاريعها، لأنه يخرق سيادة بلادنا بكل وقاحة، ويضيف عاملاً جديداً لذبح شعبنا، وغبادته، وإجبار آلافه على الهروب واللجوء، وبما يتجاوز كل حكايا المصالح الآنية، وقصة القاعدة العسكرية في طرطوس، أو قصص الغاز وممراته، والتنافس مع إيران ، أو المضحكة التي يُراد تامريرها علينا بان كل هذا الفيض من العدوان، والاختراق.. هو لمحاربة الإرهاب من جهة، والوصول إلى تسوية سياسية من جهة أخرى !!!!!!..

ـ شعبنا ليس ضد الشعب الروسي، وليست بيننا عداوة .. كما أنه كان يتطلع إلى دور حيادي ـ على الأقل ـ من الحكومة الروسية، وتقديم جهدها في فرض حل سياسي عادل، يستجيب لمطالب الشعب السوري وحقوقه الطبيعية، ولو في حدود قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة، وبنود جنيف 1، خاصة لجهة تتشكيل جسم انتقالي بكامل الصلاحيات، والبدء بعملية الانتقال للنظام الديمقراطي بعيداً عن رأس النظام وكبار رموزه من القتلة .

أما وأن الأمر يتخذ هذا الشكل من الاحتلال المباشر، وقصف شعبنا بأحدث الطائرات، والأسلحة المتطورة الفتّاكة.. فإن شعبنا لن يستكين، ولن يستسلم.. وسيملك وسائله في الدفاع عن نفسه، وبلده وحرماته.. ولن يكون الوجود الروسي، ومثله الإيراني، وغيرهما من التواجد الأجنبي نزهة، أو حالة مستقرة، كما أنهما، ومهما أخّرا نهاية نظام الجريمة والفئوية لن يستطيعا إنقاذه ..

وسوم: 635