قراءة في المشهد السوري في ضوء انكشاف أوراق الحل
يأتي اجتماع الرُّباعية ( روسيا، أمريكا، تركيا، السعودية ) غير المسبوق في الحالة السورية في فيينا ( الجمعة: 23/ 10/ 2015م ) عقب زيارة الأسد إلى موسكو في ( الثلاثاء: 20/ 10/ 2015م ) ، ثم يتوالى بعد ذلك الحراك الدبلوماسي، فتكون زيارة الوزير كيري إلى السعودية، ليطير بعدها الوزير الجبير إلى مصر ليصرح فيها بأن تقدّمًا ملحوظًا قد طرأ في البحث عن حل للأزمة السورية، ثم على وجه السرعة يأتي الوزير العماني فيصل بن علوي اليوم إلى دمشق، و تتهيّأ باريس غدًا لاستضافة قمة إقليمية حول الملف السوري، يغيب عنها كلٌّ من روسيا و إيران .
يتحرك أولئك و في حقائبهم أوراق الحل قد غدت مكشوفة لبعضهم، و أصبح الحكي على المكشوف كما يقال، و في ضوء ذلك يمكننا أن نقرأ الآتي:
1ـ أصبح الأسد فاقد الإرادة، و التصرف في قراره، و أصبح يُستدعى على وجه السرعة ( كما كان يفعل هو، و والده ذلك مع القادة اللبنانيين )؛ ليتبلغ من القيادة الروسية جدول الأعمال التي تنتظره في قابل الأيام، بعد أن وضع كل بيضه في السلة الروسية، عقب الاستدارة عن الشرق حيث حليفه السابق، فبحسب ما ذكرت مصادر سورية لصحيفة العرب اللندنية، السبت ( 24 / 10/ 2015م )، أنّه بدأ منذ عام تقريبًا بتغيير موقفه من إيران والتوجه نحو روسيا، بعد أن ربطت القيادة الإيرانية مساعداتها الاقتصادية له بشروط معينة، فقد طلبت منه ضمانات تتمثل بالحصول على عقارات بقيمة 60 مليار دولار، للاستمرار في مساعدته ماليًا وعسكريًا وتموينيًا، هذا فضلاً على أن الضباط في جيشه قد عبروا عن امتعاضهم من التواجد الإيراني المكثف بصفة مستشارين أولاً، ومن ثم قادة لوحدات المتطوعين من الحرس الثوري الإيراني، والقوات العراقية، و الأفغانية، ناهيك عن حزب الله، و ليس ببعيد عن ذلك تململ العلويين من نمط التدين الذي أخذت إيران تفرض بعض مظاهره عليهم.
عندها أيقن الأسد أن لإيران حسابات تختلف عن حساباته، لقد وجد نفسه مع تطوّر الأحداث في وضع لا يحسد عليه، إنه مضطر إلى تسديد كلّ دولار أخذه منها من خلال بيعها عقارات وسط دمشق تملك معظمها الدولة السورية، و هو أمر يصعب عليه الإقدام عليه لاعتبارات عدة، كما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية مؤخرًا في تقرير لها عن الدور الإيراني الغامض في سورية.
2ـ أعطيت موسكو فرصة لتجرب حظها في لملمة أوراق الملف السوري المبعثرة، و تمّ غض الطرف عن ضرباتها الجوية و الصاروخية التي طالت الجميع، و لكنها بدرجة ما كانت نحو فصائل ترى دول حليفة للثورة ضرورة وضع حدّ لطموحاتها العاطفية الجامحة في تقرير شكل الحل، كجبهة النصرة، و جند الأقصى، و حتى إنها طالت مناطق موالية للنظام في ريفي حمص، و دمشق، تحت ذريعة الخطأ غير المتعمّد، و كانت هذه رسالة كرسائل الأسد في لبنان، لبعض أركان النظام الذين لا يقلّون تشددًا عنهما في القبول بحل لا ينزل عند رغباتهم.
لقد رضي الروس أن يقوموا بهذه المهمّة القذرة، على غرار ما كان من الأسد في لبنان، إذ شرب من الكأس ذاتها، و لكن هذه الفرصة ليست متاحة لهم على مصراعيها، إذ إنّ للأطراف الأخرى حساسيتها من انفراد الروس في الشباك السورية ليسددوا فيها ضربات الجزاء عليهم بعدما فشلوا في تسديدها في أوكرانيا؛ و لذلك لن يكون الأمر متاحًا لهم لوقت طويل، و هو ما أدركه بوتين الذي حدد لقواته مهلة ثلاثة أشهر لإنجاز مهمتها هناك، و إلاَّ فإن التفويض الممنوح له سيسحب من يده، و يعاد الملف ثانية إلى أمريكا لترتب أوراقه على رغبتها هي، و بحصة جدُّ متواضعة للروس.
و أمام بعض العجرفة التي أراد لافروف أن يضعها على طاولة فيينا، من خلال العودة إلى نقطة الصفر بالحديث عن أن مصير الأسد يقرره السوريون، و قيام أحد النواب الروس بالنقل عن الأسد قبوله بإجراء انتخابات رئاسية و برلمانية تحت إشرافه، أراد الأمريكان إرسال بعض الرسائل عسى أن تعيد الأمور إلى مسارها داخل السياق المتفاهم عليه ضمنًا بين الأطراف كلها.
فصواريخ التاو ( الخمسمائة ) التي أربكت الدبابات التي أصلحتها الكتيبة الكوبية، غير بعيد عنها صواريخ ستنغر، التي بدأت تتسرب الأخبار عن رفع الحظر عن وصولها إلى الثوار، بعدما كان قبلها وصل نظيرها الشرقي المفيد لمعالجة طيران الأسد الاستطلاعي، و لربما تسقط بها إحدى الطائرات الروسية في وقت قريب، و الأمر رهنٌ ببقاء الروس يتحركون في المربع نفسه، بفرض أشكال من الحل لا ترضي الآخرين، أو في حال تراخيهم في الالتزامات التي تعهدوا بها في خروج الأسد في الوقت الذي سيتمّ الاتفاق عليه، بعد أن تمّ الاتفاق على خروجه من حيث المبدأ في هذه القمة الرباعية.
إنّ موسكو ستسعى للإسراع في إعلان النصر العسكري وتكثف من ضرباتها الجوية، بعد أن بدأ يضاف إلى عجزها المالي تكلفتها المالية المرهقة دونما طائل مجدي، و هو الأمر نفسه الذي جعلها تعدل عن تكرار الضربات الصاروخية البعيدة المدى، نظرًا لتكلفتها الباهظة ( تسعة ملايين دولار )، و من دون جدوى تذكر، إذ لم يحقق جلها أهدافه، هذا في حال وصولها.
إن اقتصادها بحاجة إلى بيع برميل النفط بمائة دولار حتى تبدأ بسداد عجزها، فكيف بها و هو بسعره الحالي بما يقارب الخمسين دولارًا، و إن الشعار الذي رفعه بوتين ( العظمة مقابل الحصار ) ما عاد مقنعًا لشريحة واسعة من الروس، فتكلفة الحصار عليهم من جراء اندفاعته في شرق أوكرانيا قد فاقت تحملهم، فكيف لهم بتحمل تبعات نصرة رئيس ليس بمقدوره أن يمنحهم غير شيكات بدون رصيد، كما فعل الأمر ذاته مع إيران من قبلهم.
لذلك نرى بوتين يسارع الوقت في البحث عن مخرج قبل تعاظم طين الشتاء، و لاسيما بعدما انكشف عواره في ضرب كتائب الثوار المعتدلين، عوضًا عن داعش، و بعد أن أحس أن الفرصة التي أعطيت له في تفكيك العقدة السورية قد ضاقت عليه.
لقد رضي الروس لأنفسهم أن يقوموا بالدور ذاته، الذي رضيه لنفسه الأسد في الأزمة اللبنانية، و غير بعيد أن تكون النهاية التراجيدية ذاتها بانتظارهم.
3ـ في ظلّ التورط الروسي الذي بدأت ملامحه تظهر للمتابعين، فإنّ الأمريكان ليسوا بوارد أن يلقوا حبل النجاة لهم؛ فهم الذين ندبوا أنفسهم للغوص في الوحول السورية، و تحديدًا مع تزايد هطول الأمطار شرق البحر المتوسط.
هذه هي الفرصة السانحة لأمريكا و حلفائها كي يدفعوا الروس إلى الحفرة، لن يسمح لهم بالخروج منها بالسهولة التي دخلوا فيها؛ صحيح أنّ أمريكا و حلفاءها من العرب و الأتراك، و حتى فصائل من المعارضة السورية قد تراجعوا خطوة إلى الوراء في التنازل عن شرط خروج الأسد ابتداءً، قبل الشروع في خطوات الحل؛ إلاَّ أنهم يريدون لروسيا أن تتوسع في معركتها ضد العالم السُّني الذي أصبح يرى فيها طرفًا غير موثوق به في العودة إلى القطبية العالمية، و يريدون لها مزيدًا من الانهاك الاقتصادي الذي لم يقنع بوتين بعد بضرورة الكف عن مغامراته في شرق أوكرانيا.
4ـ و أمّا إيران فإنها بدأت تتململ على الأرض ولا تتحرك بالزخم المتوقع ، لضعفها بسبب الخسائر التي لحقت بها و تجاوزت الأربعمائة قتيل منهم ( 114 ) قائد، و مستشار، بحسب ما ذكرت وكالة إرنا الإيرانية مؤخرًا، و لتوسع شهوة الروس في ابتلاع اللقمة السورية على كبرها، على غرار ما كان منهم في شرق أوكرانيا، و شبه جزيرة القرم.
و مع ذلك فإنها ليست بوارد أن تعطي الروس نصرًا سريعًا يبيعونه في لقاءات فيينا المتتابعة، و يخرجها منها خالية الوفاض، إنها تريد إفهامهم، و من قبلهم الأسد أنهما بحاجة دائمة إليها، وتريد لهما البقاء في المعركة التي يجب أن تستمر حتى تحقق إيران أغراضها في أن تكون الشرطي القادم للمنطقة، و إنّ كلّ حل سوف يخرجها من المعادلة لن تمرره، طالما أنها تملك عناصر الشغب المتمثلة في ميليشيات الزعرنة و التشبيح: اللبنانية، والعراقية، و الأفغانية.
5ـ الدول الحليفة للثورة كالسعودية، و تركيا، اللتين أصبحت مواقفهما أقلّ تشددًا حول توقيت رحيل الأسد؛ فإنّ لكل منهما حساباتها التي جعلتها لا تمانع في قبول بقائه لفترة محددة لا تتعدى فيها صلاحياته صلاحيات الرئيس اللبناني، و تكون الأعمال السيادية من صلاحيات حكومة تشكلها المعارضة، و شخصيات مقبولة من النظام، و يرأسها شخصية معارضة مقبولة من الطرفين.
فتركيا مقبلة على انتخابات برلمانية مبكرة مصيرية لحزب العدالة و التنمية، فإذا لم يُبدِ أردوغان مرونة في الملف السوري فإن تفجير إسطنبول قد يتكرر، و فرع حزب العمال التركي في سورية جاهز ليعلن منطقة تل أبيض منطقة ذات إدارة كردية رابعة، و جماعة فتح الله كولن، و حزب الشعب الجمهوري جاهزان ليخسرا مزيدًا من الأصوات في قبة البرلمان لصالح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، و أمّا إذا استوعب المطلوب منه سوريًا فإن الانشقاقات في الحركة القومية التركية، و عند الأكراد ستتزايد لصالحه، و ستكفّ بعض الدول يدها عن تمويل خصومه في انتخابات ( 2/ 11/ 2015م ).
و لنقل الأمر ذاته بالنسبة للسعودية، التي لا تريد أن تسير رياح انتصاراتها في الجنوب على غير ما تريده لأشرعتها؛ و لاسيما مع قرب انطلاق لقاءات مؤتمر الحوار اليمني الثاني بعدما أعلن الحوثيون و علي صالح قبولهما بتنفيذ قرار مجلس الأمن ( 2216 )، على أمل أن يعوضها ذلك ما كان من تبديد الجهد بعد مغادرة حكومة خالد بحاح عدن بعد محاولة اغتياله التي نسبت إلى داعش بقصد خلط الأوراق في الأزمة اليمنية.
6ـ فصائل الثورة من الإسلاميين ليست بمنأى عن تداعيات ما يحصل في هذه اللقاءات، فهي الأخرى ستقوم بالتخلي عن بعض رغباتها في شكل الحل القادم، تمامًا كما هو مطلوب من أركان النظام أن يفعلوا الشيء ذاته، فالحلّ القادم لن يكون غير توافقي بحسب ما تنبئ به التسريبات، لا بلْ حتى صريح القول في ذلك، على قاعدة ( بعد رحيل الأسد كلُّ شيء مقبول )، و ستقومُ الدول الداعمة بإيصال هذه الرسائل إلى الفصيل الذي تدعمه بطريقتها الخاصة، و عليها ابتداءً أن تقترب من الحالة الوطنية، و تنأى بنفسها عن مشروع الأمة، و تتبرّأ من السعي لإقامة الخلافة و الإمارة في الأرض.
و غير بعيد عن ذلك ما بدأنا نتابعه من رسائل قادة في أحرار الشام حول بعض الأحداث السياسية الأخيرة، و التي أثارها بيان جند الأقصى المصنفين خارجيًا، و حتى داخليًا بقربهم من داعش، من ذلك:
ـ وقفات سريعة مع بيان جند الأقصى لأبي محمد الصادق ( الشرعي العام ).
ـ بيان أبي عزام الأنصاري ( عضو مجلس الشورى ) حول الاتهامات التي وجهتها جند الأقصى لجيش الفتح جملةً، و تفصيلاً.
و لذلك أصبحنا نرى حركة الاندماج مع الأحرار خبرًا يوميًا، بعد العودة من رحلة الحج لعدد من قادتها، و على رأسهم القائد السابق لها الشيخ أبو جابر، و بعد الرسالة القطرية على لسان الوزير العطية بدعم دولته لها؛ و غير بعيد أن نرى الأحرار قريبة جدًا من المقاربات الوطنية، رضيت بذلك جندُ الأقصى، و جبهةُ النصرة، أم سخطتا؛ إذْ عليها أن تقوم بتحصين نفسها من ارتدادات التفاهمات غير المعلنة في رُباعية فيينا.
وسوم: 639