يا جماعات اللاعنف تعالوا إلى كلمة سواء
لقد اندلعت الانتفاضة الثالثة وراح العدّو ينكشف ضعفاً وعزلة. وأصبح جاهزاً لهزيمة تصل إلى حدِّ فرض الانسحاب عليه من الضفة الغربية والقدس، وبلا قيد أو شرط واحد. فالجيش الصهيوني مهزوم في أربع حروب كبيرة، وباعتراف قادته: حرب 2006 في لبنان وحروب 2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة. وقد تدهور وضعه القتالي إلى مستوى أصبح معه قوّة شرطة للحفاظ على احتلال القدس والضفة الغربية وحماية الاستيطان. ولم يعد جيشاً يكتسح الجيوش ويحتلّ من يقف أمامه بسرعة الدبابة. الأمر الذي جعل قوّته الصاروخية والجويّة والبحرية بلا قيمة عسكرية ميدانية ما دامت قواته البريّة قد اصبحت قوات شرطة. وهذا أمر يجعل استمراره في لعب هذا الدور مدمّراً له. ومن ثم يسمح لقائد عسكري استراتيجي قدير، وبعيد نظر، لو وُجِدَ، بأن يسعى لسحب الجيش من تلقاء نفسه من الضفة الغربية والقدس، ليبنيه من جديد ويُخرِجَهُ من حالة الشرطي. فالجيش في مأزق أمام انتفاضة شاملة.
والحكومة الصهيونية الراهنة أسوأ حكومة عرفها الكيان الصهيوني بالنسبة إلى مقياس مصلحته. فهي ضيّقة الأفق ومعزولة ومرتكبة أخطاء في إدارة الصراع والتعامل حتى مع حلفائها، أو حُماتها، أو مع الرأي العام العالمي. ومن ثم فإن الانتفاضة قابلة لتصبح انتفاضة تحرير وانتصار إذا ما أصبحت شاملة ومصمّمة على عدم التراجع مهما طال أمد الصراع وتصاعدت التضحيات.
أما الرأي العام العالمي ولا سيما الأوروبي والأمريكي فقد مال ميلاً ملحوظاً في مصلحة التعاطف مع الشعب الفلسطيني، والانزعاج من سياسات الكيان الصهيوني وارتكاباته الإجرامية المتعدّدة. الأمر الذي سيحوّله إلى ضاغط على الجاليات أو اللوبيات اليهودية في بلاده. مما يدفع الأخيرة لممارسة الضغوط على نتنياهو لينهي هذا الإشكال ولو بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967. وهو ما عليه إجماع دولي بأنها أراضٍ تحت الاحتلال غير المشروع، وكذلك ما ينجم عنه من استيطان أو أيّة تغييرات. طبعاً هذا لا يعني بالنسبة إلينا بأن الأراضي التي احتُلت عام 1948 وقام عليها الكيان الصهيوني ليست محتلّة بل مُغْتَصَبَة ويجب تحريرها من الناقورة حتى رفح. ولكن لكل حادث حديث بعد الانتهاء من تحرير القدس والضفة الغربية وإطلاق الأسرى وفك حصار قطاع غزة. طبعاً سيكون وضعاً جديداً حمّالاً لأوجه.
ويمكن أن يُضاف هنا ما أصاب العلاقات الصهيونية في عهد نتنياهو من سلبيات في علاقاتها بالدولة الأمريكية والدول الأوروبية. وذلك باعتباره عاملاً من العوامل التي تساعد على انتصار الانتفاضة. ثم زد عليه ما أصاب تلك الدول من ضعف على غير ما كان عليه الحال في العقود الماضية.
هذه العوامل ستجعل الكيان الصهيوني قابلاً للهزيمة أمام الانتفاضة الثالثة التي أخذت تتوّفر لها شروط القوّة والاستمرارية. ولم يبق إلاّ شرط واحد حتى يصبح الانتصار شبه حتمي إن شاء الله. وذلك الشرط هو نزول جماهير الشعب في كل المدن والقرى في القدس والضفة وقطاع غزة وتحت العلم الفلسطيني الموّحد لتعلن عصيانها على الاحتلال بل لتعلن أنها لن تتحمّل أكثر وستبقى في الشوارع إلى أن يرحل الاحتلال وتفكك المستوطنات ويطلق الأسرى ويفك حصار قطاع غزة.
هذا المشهد إذا ما تحقق لبضعة أسابيع فسوف يحرّك الرأي العام عربياً وإسلامياً وعالمياً وسيربك مواقف كل الدول وسيضع العدّو أمام خيار واحد هو الانسحاب أو الاستمرار في مواجهة انتفاضة شاملة أَجْمَعَ الشعب عليها وأَجمعت كل القوى والفصائل عليها وراحت تتصاعد مقاومات الشباب والشابات بالحجارة والمولوتوف والسكاكين والدهس.
هذا المشهد الأخير يتطلب أن تقتنع قيادة فتح، وتُقنع محمود عباس، أن النزول إلى الشوارع من خلال الشعب كله وبعصيان مدني سلمي يصرّ على رحيل الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة سوف يقلب الطاولة على حكومة نتنياهو، وسيغيّر مختلف المواقف العربية والإسلامية والعالمية، ولا سيما الرأي العام العالمي في اتجاه دعم الشعب الفلسطيني وانتفاضته من جهة، وحصار نتنياهو وإجباره على الرضوخ، وبلا قيد أو شرط، لأهداف الانتفاضة من جهة أخرى. فالأمر والحالة هذه لا يحتاج إلاّ إلى بضعة أشهر أو ربما بضعة أسابيع.
أما إذا استمرت سياسات محمود عباس لوقف الانتفاضة وعرقلتها، فلا بدّ من أن "يقتنع" بعد المزيد فالمزيد من التضحيات والمحاولات الشعبية للنزول الكثيف إلى الشوارع ليُفرض ذلك المشهد المطلوب فرضاً، أو توجد الظروف التي تفرضه فرضاً. لأن من غير الممكن أن يستمر الاحتلال وتهويد القدس واستشراء الاستيطان. وما ينبغي لهذا الحال أن يستمر. وهو ما تعلنه الانتفاضة منذ انطلاقتها وما تؤكده دماء الشهداء وما تقوله استمراريتها أكثر من شهرين ونصف. فالعناد والتصميم من جانب المقاتلين بالحجارة والسكاكين تصرخ بضرورة الارتفاع بالانتفاضة إلى أن تصبح شاملة تغلق بالجماهير المدن والقرى في وجه الاحتلال والمستوطنين.
إن استراتيجية إغلاق المدن والقرى بالعصيان المدني السلمي من خلال الشعب كله تضع كل المتباكين على دماء الشهداء بحجّة النضال السلمي كما تضع كل التجمعات التي تدعو إلى اللاعنف بالزاوية وأمام الاختبار الصعب.
فأمام الدعوة لانضمام مئات الألوف للانتفاضة وإغلاق المدن والقرى في وجه الاحتلال تكتمل الاستراتيجية التي ولّدتها تجربة المقاومة والنضال الفلسطيني وهي الاستراتيجية التي تحمل بُعدَها المُقاوِم الجبّار بالسلاح في قطاع غزة، وتحمل بُعدَها الشبابي المُقاوِم من نقطة الصفر وسلاحه الحجارة والمولوتوف والسكين والدهس، في القدس والضفة الغربية ثم بُعدَها الذي يصل إلى نزول الملايين للشوارع في عصيان عام، ثم دعم كل ذلك بالتأييد الشعبي في مناطق الـ48 وفي بلدان الهجرة والشتات.
من هنا لا مجال لمن يتحدثون عن اللاعنف من الأفراد والمنظمات غير الحكومية أن يلعبوا دور المُعوّق والمُثبط تحت حجّة اللاعنف أو التباكي على دماء الشهداء الزكية التي يجب أن يحنوا رؤوسهم أمامها. فها هي ذي الدعوة إلى العصيان المدني السلمي فلينضموا لها إذا كانوا حقاً يريدون رحيل الاحتلال، وإلاّ فإنهم لكاذبون ومنافقون، وليس عندهم غير الاستسلام للاحتلال.
وسوم: العدد 646