عاد عباس يعمل ضدّ الانتفاضة

سرّبت صحيفة هآرتس الصهيونية في 7/1/2016 تقريراً لجهاز المخابرات الصهيوني "شاباك" أن شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي شهد تراجعاً في العمليات والأحداث الأمنية في الضفة الغربية والقدس والداخل. وذلك مقارنة بالشهر السابق له، تشرين الثاني/نوفمبر. الذي سجّل 326 عملية ومواجهة أمنية فيما كانون الأول/ديسمبر سجّل 246 أي الفارق العددي 80.

طبعاً هذا الذي يُسمّى تراجعاً يعتمد الفارق العددي لمجموع عدد متنوّع جداً تشترك فيه العمليات والأحداث بغض النظر عن أهمية الواحدة منها ونوعها وتأثيرها. ومن ثم لا يصحّ أن يشكل الفارق العددي دليلاً للاستنتاج بأن ثمة تراجعاً. لأن التراجع يجب أن يُقاس بالنوع والفاعلية قبل أن يُقاس بالعدد التجريدي ولا سيما حين يكون خليطاً لما لا يقل عن خمس أو ست أنواع. ولكن هذا أيضاً لا يعني أن الكمّ العددي ليس مهماً مطلقاً إلاّ أن من السابق لأوانه الاعتماد عليه وحده في استخدام ملاحظة "تراجعاً".

ثمة إجماع لدى كل الذين تابعوا الانتفاضتين الأولى والثانية، أو اتجهوا إلى تقدويم الانتفاضة الراهنة، بمن فيهم الذين أسموها "هبّة شعبية"، أن المسار كان ولا يمكن إلاّ أن يكون متعرجاً يتخلله مدّ وجزر بين يوم وآخر، وأسبوع وآخر، وشهر وآخر. ولكن الحُكْم يُبْنى على المحصلة والاتجاه العام.

طبعاًَ التحريض السياسي المضاد للانتفاضتين كما للانتفاضة الحالية راح يلتقط أيّ يوم، أو أسبوع، أو شهر، حدث فيه جزر أو نقص عددي في المواجهات ليُعلن عن التراجع أو بدء التراجع. وعندما يخيب ظنه يسكت. ولكن ينتظر جولة جديدة لجزر حتى يعود لإعلان التراجع. فهي الحرب النفسية، والحرب السياسية، والتي يجب بداية ألاّ يُسمح لها بالرواج. وذلك بإبقاء الإدراك السليم بأن مسار الانتفاضة المنتصرة كما كل الثورات المنتصرة لا بدّ من أن يكون متعرّجاً. ومن ثم يركّز على المحصلة والاتجاه العام.

على أن التقرير الذي نشرته هآرتس عن الشاباك ورد فيه "أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تلاحظ تحسّناً في التنسيق الأمني مع الأمن الفلسطيني في الآونة الأخيرة". وجاء فيه أيضاً، أن "الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أشارت في تقرير قدمته إلى المستوى السياسي (نتنياهو) بأن السلطة الفلسطينية باتت تتخذ إجراءات لتقليص حجم التحريض على العنف عبّرت عنه وسائل الإعلام الفلسطينية الرسمية". وأضافت أن "الأمن الفلسطيني نشر عدداً أكبر من أفراد قواته بالزيّ العسكري في بؤر الاحتكاك في الضفة الغربية بغية منع المواجهات بين شبان فلسطينيين وقوات الجيش الإسرائيلي".. وأن "أجهزة الأمن الفلسطينية استأنفت حملة الاعتقالات في صفوف نشطاء الذراع المسلحة لحركة حماس في الضفة" (والجهاد طبعاً). "وعليه يوصي الشاباك بأن تقدّم حكومة نتنياهو سلسلة من بوادر حسن النية تجاه الفلسطينيين ومن بينها المصادقة على مشاريع البنى التحتية في الضفة والتي كان تنفيذها قد تعثر حتى الآن".

هذا التقرير يُعزّز معلومات كثيرة حول مضاعفة التنسيق الأمني وازدياد شراسة تصدّي الأجهزة الأمنية لكل محاولة تظاهر، أو اشتباك مع العدو، فضلاً عن اعتقالات واسعة لنشطاء الانتفاضة ولو لبضع ساعات وتعنيفهم وتهديدهم.

يُلاحَظ أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس المنتهية مدته منذ سنوات عاد بعد زيارته الرسمية للسعودية في 30/12/2015، يتحرك ضد الانتفاضة ويحرّك الأجهزة الأمنية ويُعلن صراحة بضرورة إنهاء "التوتر" (يقصد الانتفاضة).

صحيح أن محمود عباس كان يعمل في الخفاء وعلى استحياء ومنذ الشهر الثاني على عرقلة النشاط الانتفاضي. ولكنه كان مضطراً للانحناء ومداراة حَرَجهُ، أمام المبادرات الانتفاضية، أو ما سمّاها هو "بالهبّة الجماهيرية". وكان يتوقع أن تكون هبّة عابرة، لتعود حليمة لعادتها القديمة، أي الهروب إلى المنظمات الدولية بعد أن توقفت المفاوضات. وفشلت كل المحاولات بما فيها الأمريكية لإقناع نتنياهو بالعودة إلى المفاوضات وإنقاذ الموقف.

ولكن أثبت ما اعتُبِر هبّة عابرة أنه مشروع انتفاضة متصاعدة وقد دخلت شهرها الرابع. وهذا ما جعل محمود عباس يتحرّك عربياً للتفاهم على وقف الانتفاضة. وهو ما يفسّر تصعيد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحصار قطاع غزة. وكان قد طلب من عباس العمل على وقف الانتفاضة. وهو ما يفسّر أيضاً انتقال محمود عباس للتحرك بنشاط أكبر ضد الانتفاضة بعد زيارته للسعودية.

أما من جهة أخرى فقد سرّبت تقارير وصدرت تصريحات رسمية صهيونية تعبّر عن مخاوف نتنياهو وحكومته من "انهيار السلطة"، وأعلن عن وضع خطة طوارئ لمواجهة هذه المخاوف.

وقد فهم محمود عباس من هذا القلق الصهيوني من انهيار السلطة أن عليه أن يتحرك بقوّة أكبر ضدّ الانتفاضة التي أصبحت تهدّد بقاء السلطة. أما الأغرب من هذا الفهم ما عبّر عنه عباس في6/1/2016 في بيت لحم حين فسّر قلق نتنياهو من انهيار السلطة وتحذيره من هذا الانهيار، بأن انهيار السلطة (أي انهيار التنسيق الأمني) هو ما تحلم به "إسرائيل" قائلاً بالحرف الواحد: "إن السلطة الفلسطينية إنجاز من إنجازات شعبنا لن نتخلى عنه وعليهم (يقصد نتنياهو وجماعته) أن لا يحلموا بانهيارها".

إذا كان الدفاع عن السلطة يعبّر عن رفض لحلم نتنياهو بانهيارها فيعني أن محمود عباس لم يعد عنده ما يُدافِع فيه عن السلطة سوى تفسير قلق نتنياهو أي خوفه أي انزعاجه من انهيار السلطة بأنه "حلم أو أمنية لنتنياهو بانهيارها". يعني أن نتنياهو منزعج من التنسيق الأمني، ولا يريد ما تقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية من ممارسة ضدّ نشطاء الانتفاضة، أو تصفية خلايا للمقاومة. تصوّروا نتنياهو يحلم بأن ينتهي كل ذلك! ولهذا فإن محمود عباس قرّر أن يُفسِدَ عليه حلمه.

حقاً لم يعد لدى الرئيس محمود عباس ما يقوله دفاعاً عن سلطته وسياساته سوى تلبيس نتنياهو بأنه يحلم بإنهاء السلطة.

ومع ذلك لنعتبر ما قاله محمود عباس عن "الحلم الإسرائيلي بإنهاء السلطة" مزاحاً، أو زلة لسان ومن ثم لنعد إلى جوهر الإشكال مع محمود عباس. أي بالتحديد إصراره على إنهاء الانتفاضة. الأمر الذي يعني أن الخطر الوحيد الذي يتهدّد الانتفاضة وتحقيقها إنجازاً تاريخياً في دحر الاحتلال وتتفكيك المستوطنات، وإطلاق الأسرى وفك حصار قطاع غزة هو محمود عباس وعناده على مواصلة السياسات التي فشلت وشبعت فشلاً. وأصبحت عظامها رميماً. وهذا يعني أنه يرتكب جريمة لا تغتفر، ولا يمكن أن يجد عاقلاً واحداً يستطيع تسويغها أو الدفاع عنها.

لقد وجد محمود عباس من يؤيّده في الماضي حين أعلن، ونفّذ، وذهب إلى أقصى حد، في رفض استراتيجية المقاومة (الكفاح المسلح وفقاً لمنطلقات فتح)، وفعل الشيء نفسه ضدّ الانتفاضتين الأولى والثانية. وواظب خلال العشر سنوات الماضية على الحيلولة دون اندلاع انتفاضة. ومن ثم إذا كان وجد من سَوَّغ له ذلك وغطّاه في قيادة فتح كما في القيادات المشاركة في منظمة التحرير الفلسطينية ولجنتها التنفيذية، وغيرهم وغيرهم، فإنه اليوم لن يجدَ أحداً في الساحة الفلسطينية، وممن كانوا حوله، مقتنعاً عقلياً وقلبياً بتكرار ذلك بعد الفشل الذي انتهت إليه سياسة التفاوض والتسوية واللجوء إلى المنظمات الدولية. ومن ثم فإن من سيقبل بهذه السياسة ويكرّرها سيفعل ذلك مُكرهاً ولسبب غير السبب الذي حمله في المرّة الأولى. لأنه في هذه المرّة سيجرّب المجرّب فلا يكون عقله مخرّباً فحسب وإنما أيضاً ضميره وإرادته، وبقايا ذلك الضمير والإرادة.

لهذا فإن المؤشرات الأخيرة الصادرة عن محمود عباس لا سيما منذ مطلع العام 2016 يجب أن تَقْرَعَ جرس الإنذار في وعي كل العاملين في الساحة الفلسطينية وأعلنوا وقوفهم إلى جانب الهبّة، أو الانتفاضة. ومن ثم عليهم أن يتسلّحوا باليقظة وبُعد النظر من مواقف محمود عباس فَيَسْتَبِقونَهُ في دعم الانتفاضة إذ ليس عنها من رجعة حتى النصر.

وسوم: العدد 652