الحضارة الإسلامية بين الأُفول والنهوض
الحمد لله الواحد القهار، والصلاة والسلام على رسوله محمد المختار، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى بهم من الأطهار، وبعد.
مما لا شك فيه أن المسلمين منذ مبعث هذه الأمة ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- قدموا للإنسانية حضارة شهد لها القريب والبعيد، وفي جميع العلوم والفنون.
كان أول شيء صنعه الإسلام صياغة شخصية الإنسان ذاته، فجعل منه إنسانًا راقيًا يتعالى على الشهوات والملذات، ولا يغتر بالدنيا وزينتها، ثم بما قدمه الإسلام من قيم لهذا الإنسان الحضاري، فأصبح يقدم للبشرية حضارة راقية ومدنية زاهرة.
يعجز اللسان والقلم عن حصر ما قدمه المسلمون من عناصر حضارة للبشرية ولو بالإشارة؛ من حضارة الأندلس والشام والعراق ومصر والمغرب والهند..... الخ في شتى المجالات العلمية، والأدبية المنظورة والمقروءة، والتي كانت سببا في تقدم الغرب. فما الذي أوقف تلك الحضارة عن المسير؟ وما الذي جعلها تبطئ السير، بل توقفت في بعض الأوقات؟ ولماذا ضيعنا تلك الحضارة وريادة البشرية بهذه الطريقة؟.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة *** مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
ويح العروبة كان الكون مسرحها *** فأصبحت تتوارى في زواياه
لا زال القرآن الكريم موجوداً لم يتغير ولم يتبدل، و ما زالت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أيدينا ننهل منها، والقواعد التي رسخها الإسلام في المسلمين الأوائل لا زلنا نعرفها وندرسها؛ ولكننا لا نطبقها كما طبقوها، ولا نفهمها كما فهموها، لذا كان علينا أن نعيد النظر في أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة، ونضع أصبعنا على الأسباب الحقيقية لهذا الركود، ونعلم متى بدأ هذا الركود.
لا يستطيع باحث أن يحدد بالضبط الوقت الذي اكتمل فيه ركود الحضارة الإسلامية، ولكننا نقول كما قال العلامة أبو الحسن الندوي فى كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: "لو أردنا أن نضع أُصبعنا على الحد التاريخي الذي يفصل بين الخلافة الراشدة والمملوكية العربية أو مملوكية المسلمين"، أي أنه بدأ منذ ذلك التاريخ، وإن خفي وتلاشى في بعض الأوقات، ولكنه أخذ يسري حتى وصل إلى قمته في دول المماليك الذين تولوا الأمر، وانقسام الأمة الإسلامية في منتصف القرن السابع عشر الميلادي إلى ثلاث دول كبرى، وإن ظلت تحت خلافة واحدة، وهي (الدولة المغولية بالهند، والصفوية في إيران، والعثمانية في تركيا).
ولكن من هو المسئول عن ركود الحضارة الإسلامية؟. هل الإسلام هو المسئول عن ذلك؟ لا. لم يكن الإسلام هو المسئول عن ركود الحضارة الإسلامية، لأن الإسلام استطاع بعد فترة قصيرة من ظهوره أن يقيم حضارة رائعة، كانت من أطول الحضارات عمراً في التاريخ، ولا تزال الشواهد على ذلك ماثلة للعيان فيما خلفه المسلمون من معالم حضارية شهد لها الجميع، فالإسلام جهاد لا يهدأ، وعمل لا يفتر، وطاقة متصلة، وعزة قائمة، ولأن الإسلام يقدر العلم والعلماء كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة : 11]
لقد حث الإسلام على النظر في الكون ودراسته وعمارة الأرض، كما في قوله سبحانه وتعالى {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7)﴾. [سورة ق].
وإذا لم يكن الإسلام هو المسئول عن ركود الحضارة الإسلامية، فمن المسئول إذن؟ يرجع ذلك إلى:
الخلافات السياسية والعصبية، وتنازع الرياسة والجاه، والصراعات الداخلية، وإغفال دورهم في الحياة الدنيا، وتعصب بعضهم إلى بعض، أصابهم بالانحطاط الحضاري، فنسوا قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ريحُكم}[الأنفال:46] ، وكذلك ما روي عن جرير-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له في حجة الوداع: "استنصت الناس فقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" أخرجه: البخاري والنسائي بسند صحيح.
وكذلك فإن تولي الساسة العسكريين السلطة يدخل القوة مكان العقل والفكر، فيختل التوازن بين السيف والعلم لحساب السيف وحده تقريباً، كما استبعدوا الأمة فجعلوها تتخلف عن ركب الحضارة، تحولوا إلى أداة تحكم واستبداد.
ومن أسباب الركود كذلك فصل الدين عن السياسة؛ أو تسييس الدين لصالح رجال السياسة، وفصله عن قوانين الدولة والحياة العامة، وتحرر الحياة بعيدة عن رقابة الدين، فأصبحت قيصرية أو كسروية مستبدة، وملكا عضوضاً، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأصبحت السياسة كجمل هائج، حبله على غاربه، ورجال الدين والعلم بين معارض وخارج وحائر ومنعزل.
ومنها أيضا الخلافات الدينية والمذهبية؛ والتناحر بين المذاهب الفقهية، مع العلم أن مؤسسي المذاهب أنفسهم كان الحب والتعاون والوصول للحق هو هدف كل واحد منهم، -رضي الله عنهم- ؛ يقول الإمام علي -رضي الله عنه-: "لا يعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله"؛ ويقول الإمام الشافعي -رحمه الله- : "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي الآخرين خطأ يحتمل الصواب"، فنتج عن تلك الأسباب تحول الإسلام إلى جسد بلا روح، وانتشار القيم غير الحميدة التي أمر الإسلام بالتخلي عنها، وقلة وجود القيم التي أمر الإسلام بها، وحث علـيها، كالعدل، الرحمة، الحرية، النصيحة، وتناقص في التوجيه والإعلام والتربية.
ومن أهم تلك الأسباب أيضا التفرق وعدم الوحدة؛ خاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924م، فأصبح التضامن الإسلامي مجرد شعار نردده في المناسبات، وأصبح شعاراً خالياً من أي مضمون، مما أدى إلى إهمال العلوم التطبيقية، والانغماس في ألوان الترف والنعيم .
ومنها كذلك الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين، يمتص خيراتها ويستعبد أهلها وأبناء هذه المنطقة، من خلال القروض والمعونات، وزرع ديكتاتوريات عسكرية، وبرامج إصلاحية، وهي في حقيقتها (فساد)، وإثارة النزعات بين البلاد، وإنشاء الجامعة العربية وهدف ذلك كي لا يفكروا في عودة الخلافة الإسلامية.
ومن الأسباب إقامة قوميات عرقية مختلفة، وإبعاد المسلمين عن تحصيل القوة الصناعية، والتبشير والتنصير في بلاد المسلمين .
فإذا كانت هذه هي أهم الأسباب التي أدت إلى أفول الحضارة الإسلامية، فإننا لو تفاديناها، واتخذنا العلم منهجا بما يتوافق مع واقعنا المعاصر، مع العلم بالسنن الكونية، والوحدة، والتخطيط الجيد، فإننا نستطيع أن نعيد الأمة لمجدها وننهض بها، لأن النهوض بالحضارة الإسلامية نهوضٌ بالحضارة الإنسانية جمعاء.
هذا والله من وراء القصد وهو نعم المولى ونعم النصير
وسوم: العدد 657