خطة ب الحقيقية لسوريا: يغلب من يسبق
قد يكون الحديث عن فشل محتمل للهدنة في سوريا ، ليس بالموضوعي ، لأن التشكيك بانهيارها بالأساس ، بدأ قبل دخولها حيز التنفيذ ، ومن الأطراف التي اتفقت عليها (موسكو- واشنطن) ، ولم تختلف كثيرا الأوضاع خلال تطبيق الهدنة ، وما قبل تطبيقها .
جاءت الهدنة التي يصح تسميها " بالهدنة الروسية "، لإيقاف الاندفاع التركي ، ضد ميليشيات كردية على حدودها ، والاستفادة من التقدم العسكري الذي حققه حلفاء موسكو على الأرض ( نظام الأسد، وميليشات صالح مسلم ) ، وبغطاء جوي من الأولى ، الاستفادة من تلك المكاسب في أي مفاوضات قادمة ، فأحد أهم أسباب بوتين الرئيسية من تدخله في سوريا ، رسالة للعالم مفادها أن روسيا لا تزال قوة يعتد بها على الساحة الدولية ، لا سيما بعد الإطاحة بحلفاء مثل صدام حسين ومعمر القذافي .
وما يزيد الأمور تعقيدا أن طهران وموسكو تتحركان في سوريا مع بعضهما لتحقيق نفس الهدف ولدعم حلفائهم ، بينما الولايات المتحدة موقفها ليس فقط لا مبالي ، بل سلبي التأثير مقابل نشاط الآخرين .
تراهن موسكو على خططها السياسية في إنجاح خططها العسكرية لتحسين شروطها وشروط حليفها الأسد ، وميليشيات صالح مسلم حليفها الجديد على الأرض السورية ، والمتابع للتحركات الروسية الخارجية ، يجدها تتحرك كلاعب القمار ، ترمي بأوراقها ثم تنظر ماذا يحدث وتتصرف ، قبل شهر أو أقل من ضمها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ، لو تحدث أحد عن سيناريو كهذا، لكان حديثه ضربًا من الخيال ، وكان تدخلها العسكري المباشر في سوريا بشكل مفاجئ كذلك ، وأخرجها من عزلة حقيقية بعد تدخلها في أوكرانيا .
لم تدخل روسيا في الآونة الأخيرة بلدا ، إلا وقسمته، ابتداء من جورجيا ، مرورا بأوكرانيا ، وهي اليوم في سوريا ، تسير على نفس الخطى ، وذلك واضحا من خلال خارطة تحرك قواتها الجوية ، وقصفها لمناطق معينة ، إن كان في ريف اللاذقية ، للمناطق التي تقطنها قومية تركمانية ، لتهجيرهم ، ورسم حدود الكيان العلوي ، وقصف المناطق الواقعة غرب نهر الفرات ، وتهجير المكون الرئيسي السوري ( العربي السني ) ، بتأمين الغطاء الجوي لميليشيات صالح مسلم ، للسيطرة على هذه المناطق العربية ، وتحقيق التواصل الجغرافي بين مناطق يقطنها أكراد ، لرسم حدود الكيان الكردي كذلك .
الأسد بالنسبة لموسكو " جوكر " تلعب به وعليه ، ويبدو واضحا من التصريحات المتضاربة بين الحين والآخر ، والصادرة من دمشق ، وموسكو ، والرسائل التي تريد إيصالها للآخرين ، ولا سيما اللاعبين الإقليميين والدوليين ، بأن التفاوض مع الكرملين هو الذي يثمر بنتيجة .
ومن أسباب دخول موسكو ، سوريا المعلنة تعزيز سلطة الأسد، ولكنها اليوم تقامر بورقة الانفصالية، بذلك تقوّض ليس سلطة الأسد ، وإنما تهدد بتمزيق سوريا ، في شق من ذلك الانتقام من تركيا ، بسبب إسقاط طائرتها ، ولكنها ربما وعن غير قصد تؤجج النزعة الانفصالية ، التي إذا بدأت في سوريا ، مرورا بتركيا ، وإيران ، لن تتوقف في روسيا نفسها ، فهي تلعب في مناطق يختلط فيها التاريخ مع الجغرافيا ، ويتداخل فيها ما هو ديني بما هو عرقي .
تنفيذ موسكو مخططاتها رهن على كيف ستتصرف الأطراف الأخرى ( تركيا ، والسعودية ، وقطر ) ، المسألة مسألة وقت ، من يسرع ويسيطرعلى الأرض أولًا ، يمكن أن يكون له كلمة عليا لاحقًا ، والمفاوضات الحقيقية والجادة تكون عندما يدخل طرف آخر عسكريًا إلى الأرض السورية ، موسكو جاءت لسوريا ليس لحل الأزمة فيها ، وإنما لتكون جزء من هذه الأزمة ، قائلة للجميع تعالوا نتفاوض ، وهي بانتظار الطرف المفاوض المباشر .
وليس من المتوقع في المستقبل القريب أن يكون هناك تأثير مباشر على موقف روسيا الحالي في سوريا ، بسبب تراجع الاقتصاد الروسي وتوقعات العجز وما يرافقه من هبوط لأسعار النفط ، وانخفاض سعر الروبل الروسي ، لكن بالتأكيد سيكون لكل ذلك تأثير، وإنما ، في مراحل لاحقة ، حين تلامس هذه الأمور حياة المواطن الروسي العادي ، والمفارقة أن هذه الأزمات تزيد من شعبية بوتين ، حيث أنه في نظر الروس " قلعة الصمود " في وجه الغرب ، والمؤامرات الغربية ، بعد رفعه شعار لم شمل الأراضي الروسية حين ضم القرم ، والدفاع عن المواطنين الروس أينما كانوا ، حين اجتاح جورجيا ، ومزقها .
والشيء الخطير، في كل ما يتداول في الآونة الأخيرة ، هو التصريحات إن كان بالتقسيم أو الفدرالية ، من الأمريكيين ، والروس ، حيث كان كلام كهذا ، يقتصر على المتابعين ومراكز الأبحاث ، وهي المرة الأولى التي يتحول إلى كلام رسمي ، يمكن أن يطرح في أي مفاوضات قادمة ، ويجعل الحديث عن اتفاق ( لافروف كيري ) ، لإعادة تقسيم ما قسمه ( سايكس - بيكو ) من تركة الدولة العثمانية ، يظهر إلى العلن كبديل لفشل ما أطلقوا عليها "هدنة ".
يدور الحديث أن الأكراد في سوريا يشكلون القومية الثانية ، وفي النظر إلى خارطة التوزع الكردي السوري ، جغرافيا وعرقيا ، تشير الكثير من المصادر أن نسبتهم تتراوح بين 10% إلى 15% ، وقد تكون أقل بقليل أو أكثر بقليل ، ولا تمتلك أي تواصل جغرافي بين المناطق التي تقطنها ( القامشلي - عين العرب عفرين ) ، بالإضافة إلى أنه حتى المناطق التي هي فيها أكثرية ، لا تشكل أغلبية مطلقة ، على عكس المكون العربي الرئيسي ، وهذا يفسر التحرك السريع والمفاجئ ، لميليشات كردية بدعم روسي في الآونة الأخيرة في المناطق الواقعة غرب الفرات وفي محيط مدينة حلب ، استعدادًا لسيناريو كهذا معد مسبقاً ، لتحقيق عمق وامتداد جغرافي .
وبالنظر إلى سوريا من الناحية الإثنية ، فاي سيناريو تمزيق ، سيدخل البلاد في متاهة ، وثلاث دول لا تعود كافية ( كردية - سنية - علوية ) ، وقد نحتاج على الأقل خمس دول ، وهذا يظهر أن إسقاط أي سيناريو من أوروبا الشرقية أو القوقاز على سوريا هو خاطئ ، وسيفتح أبواب الجحيم على المنطقة بأكملها مرورًا بتركيا إلى إيران ولن يتوقف عند روسيا .
وقد تجد دول إقليمية كتركيا ، نفسها مضطرة في نهاية المطاف للقبول بأي طرح فيدرالي ، أو تقسيمي ، إذا ما جاء نتيجة اتفاق روسي - أمريكي ، مع مراعاة حساسيتها في بعض النقاط كإبعاد الانفصاليين الأكراد عن مناطق معينة هي تحددها ، مثل حصرهم في المثلث السوري التركي العراقي ، وهنا علينا عدم إغفال أنه في الماضي القريب كان إقامة كيان كردي شمال العراق خط أحمر للأمن القومي التركي ، إلا أن إقليم شمال العراق ، تحول لاحقا ، إلى أقرب حليف في المنطقة لأنقرة .
واليوم صحيح أن الحديث يدور حول أن مصير مدينة أعزاز سيحدد مستقبل كل تلك السيناريوهات ، ولكن الحقيقة هي أن مصير مدينة حلب ، سيرسم ليس فقط مستقبل سوريا ، وربما خارطة جديدة للعالم إن كان جغرافيًا أو في إطار التوازنات الدولية القادمة
والواضح أن للروس خطة " ب " البديلة الخاصة بهم ، التي تختلف عن خطة واشنطن " ب" البديلة ، ولعل أكثر ما يقلق الروس اليوم ، ليس التحرك التركي المرتقب ، وإنما كيف ستتحرك المملكة العربية السعودية في تعاملها القريب مع سوريا ، بعد أن وصلت طائراتها إلى قاعدة إنجرليك التركية ، وأدرجت حزب الله اللبناني ذراع إيران في المنطقة ، وحليف موسكو في قوائم الإرهاب ضمن مجلس التعاون الخليجي ، وأعاد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي إلى الأذهان سيناريو أفغانستان ، ومبعث القلق الروسي ، تجربتهم المذلة في أفغانستان ، ومجرد ذكرها إلى اليوم يقض مضاجعهم .
يبقى القول إن خطة " ب " الحقيقية حيال سوريا : يغلب من يسبق ، فالوقت بات جد ضيق ، وتداعيات التأخر، قد تعني خسارة سوريا ، وليس فقط بعض الأوراق الإقليمية ، كما هو حاصل اليوم مع تركيا نتيجة تأخرها .
وسوم: العدد 659