العلاقة بين الإخوان والأمريكان.. الجدل الذي لن ينتهي

التعامل مع جهة خارجية يعني التآمر معها على الوطن، تلك هي الحتمية التي تعسفت الأنظمة الدكتاتورية في وضعها لدى التعامل مع الشخصيات والكيانات السياسية المعارضة، بغرض إسقاطها ونسفها جماهيريا.

هي تهمة قديمة، برزت على مر العصور، منها ما روّجه مشركو قريش حول النبي صلى الله عليه وسلم، عندما قالوا: "إنَّما يعلِّمه بشر"، قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت: أن محمدا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعا يبيع عند الصفا، فربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء".

فقط يكون التعامل مع الآخرين ذريعة للتشهير والرشق بتهم التآمر والعمالة، هو ذاته ما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين في التعامل مع الأمريكان.

فأصبحت حيثيات إسقاط هذه الجماعة جماهيريا أن أمريكا هي من صعّدت هذه الجماعة إلى سدة الحكم في مصر، هكذا يقولون.

ابتداء، أرى أنه من الحماقة أن يتّجِه البعض لنفي أي صلة للإخوان بأمريكا، وقائله قد يضر بسمعة الجماعة أكثر مما ينفعها، فالتعامل بين الجانبين ثابت، ولا مفر من الإقرار به، لكن يبقى السؤال الأهم: ما هي صورة الانفتاح الإخواني على الأمريكان؟ ما هي حد العلاقة بينهما؟ هل هو تآمر على الدولة المصرية؟ أم تقاطع مصالح؟ هل الأمريكان هم من رفع الإخوان على عرش مصر؟ ذلك هو محل النقاش.

انفتاح جماعة الإخوان على أمريكا شيء طبيعي تفرضه معطيات الواقع، فالإخوان جماعة عالمية، لها تأثيرها السياسي والاقتصادي والثقافي والدعوي في كل دولة تتواجد على أرضها، سواء كان عناصرها مواطنين أصليين أو مستوطنين، ومع سعة انتشارها، وقوة تأثيرها ونفوذها، واعتبارها في بعض الأوقات والأماكن البديل المتوقع للأنظمة، كان من الطبيعي أن يكون لها علاقات دولية مع الدول الكبرى.

فليست هذه المرة الوحيدة التي نال فيها الإخوان نصيبهم من هذه التهمة، فحركة حماس الإخوانية، اتُّهمت بأنها موجهة من قِبَل إيران وذراعٌ لها، لا لشيء إلا لأنها تلقت دعما ماليا من إيران في ظل الصمت بل التضييق العربي.

الإخوان في مصر (المركز) أنفسهم اتّهموا أيام البنّا بالعمالة للقصر وللألمان، بل وللإنجليز رغم أن الإخوان واجهوا الاحتلال البريطاني عسكريا، وتاريخ العمليات الفدائية التي قامت بها عناصر الإخوان معروف للقاصي والداني، بل وتصدوا للغزو الفكري المتمثل في حملات التنصير البريطانية في مصر.

علاقة الإخوان بالأمريكان قديمة منذ بروز الولايات المتحدة قوة كبرى في الحرب العالمية الثانية، والإخوان تعاملوا معهم عبر مسارين، الأول: يتعلق بالمجتمع الأمريكي، حيث تمددت دعوة الإخوان في أمريكا مستغلة مناخ الحريات السائد في الولايات المتحدة، وأصبح لها مؤسساتها الدعوية والثقافية والعلمية.

المسار الثاني: يتعلق بالساسة وأصحاب القرار في أمريكا، وهي علاقة شابها التوتر بسبب الرعاية الأمريكية للدولة اليهودية اللقيطة، والشيخ حسن البنّا رحمه الله، هاجم بقوة تصريحات الحزبين الجمهوري والديموقراطي في أمريكا، والتي باركت فكرة وطن قوي لليهود في فلسطين، بل وأرسل إلى "ترومان" بأن الاعتراف بإسرائيل بمثابة إعلان حرب على العرب والمسلمين، فكانت النتيجة أن سفراء بريطانيا وفرنسا وأمريكا في مصر، ضغطوا على حكومة النقراشي لحل جماعة الإخوان المسلمين.

قرأت في مجلة المجلة التي تأسست في لندن، تقريرا يتحدث عن وثيقة أفرجت عنها المخابرات المركزية الأمريكية بتاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1947، تقول "إن عنصرا جديدا أضيف بعد الحرب العالمية مع ظهور حزب الإخوان المسلمين الذي يؤكد على الإسلام وكراهيته الشديدة للتدخل الأجنبي في العالم العربي"، فهو اعتراف صريح يوضح النظرة الأمريكية للإخوان.

وفي حقبة عبد الناصر ساعد الأمريكان حليفهم في ضرب الإخوان المسلمين، فمهندس مسرحية المنشية التي كانت مظلة تحرك تحتها عبد الناصر لقمع الإخوان، كان أمريكيا، وهو ما اعترف به أحد الضباط الأحرار وهو حسن التهامي، ونشرته مجلة روز اليوسف شديدة العداء للتيار الإسلامي في أيار/ مايو 1978، حيث قال: "وقد شد انتباهنا وقتها أن خبيرا أمريكي الجنسية في الدعاية والإعلام، ومن أشهر خبراء العالم وقتها في الدعاية، كان قد حضر إلى مصر، وكان من مقترحاته غير العادية والتي لم تتمش مع مفهومنا وقت اقتراحها، هو اختلاق محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر ونجاته منها، فإن هذا الحدث بمنطق العاطفة والشعور الشعبي يزيد شعبية عبد الناصر".

ولكن بعد أن توجّه عبد الناصر إلى "الكريملين"، كان على الأمريكان مواجهة المد الشيوعي في مصر، فالتقت مصالحها مع مصالح الإخوان أصحاب التوجه الإسلامي الرافض للمد الإلحادي والشيوعي، وربما كان ذلك التوافق هو ما ابتنى عليه الأدعياء اتهامهم بدعم أمريكا للإخوان.

لكن ترجمة تقاطع المصالح بين الإخوان والأمريكان ظهرت في عهد السادات، إذ أوعزت له أمريكا بمباركة تصدي الإخوان للمد الشيوعي، ولذا كانت فترة السادات فترة انتعاشة حقيقية للتيار الإسلامي وبصفة خاصة جماعة الإخوان المسلمين، وفي تلك الفترة زار السيناتور الأمريكي جورج ميتشل المركز العام للجماعة بالقاهرة لتناول علاقتها مع الرئيس السادات في مكافحة المد الشيوعي.

وأتساءل هنا: هل لمجرد أن تلاقت مصالح الإخوان قوة إسلامية، ومصالح أمريكا في ضرب الشيوعية شيئا يدين الإخوان؟ لو كان الأمر كذلك فكل الحكومات والشعوب العربية والإسلامية مدانة، عندما خرجت أفواج المجاهدين لمناهضة السوفييت في أفغانستان بعد أن تلقى الأفراد والهيئات الضوء الأخضر من الأنظمة، التي تحركت بمباركة أمريكا لضرب المنافس الروسي الأقوى.

فلم تكن أمريكا ترى في الإخوان قوة قابلة للتطويع، بل نقل الكاتب محسن محمد في كتابه: "من قتل حسن البنا" رسالة من المفوضية الأمريكية تعبر عن نظرة واشنطن للإخوان، جاء فيها: "خطورة الإخوان تكمن في المبادئ المتعصبة التي تعتنقها، وطبقا لما يقوله الإخوان ما دامت مصر دولة إسلامية فيجب أن تحكم بقانون القرآن".

معاهدة السلام التي وقعها السادات مع الإسرائيليين كانت إحدى محطات التنافر بين الإخوان وأمريكا، وكانت التقارير الإسرائيلية والأمريكية آنذاك تُملِي على السادات ضرورة قمع الإخوان لإمضاء عملية السلام مع إسرائيل.

في عهد مبارك اتخذ فكر الإخوان مسارا أكثر انفتاحا على الغرب، وأكثر إيمانا بالحوار الحضاري، في الوقت الذي تضاربت فيه الآراء في أمريكا تجاه الحوار مع الإخوان ما بين القبول باعتبارها جماعة لا تتبنى العنف وتمارس العمل السياسي وفق آليات الديموقراطية، وبين الرفض باعتبارها جماعة لها أيديولوجيتها الإسلامية وأنها تهدد المصالح الأمريكية وتمثل خطرا على إسرائيل وعلى الحليف المصري حسني مبارك.

الانتصار التاريخي للإخوان في الانتخابات التشريعية 2005، وحصولهم على 88 مقعدا أي 20 في المئة من مقاعد البرلمان، وبروزهم أكبر كتلة معارضة، دفع الأمريكان للنظر بقوة إلى الجماعة باعتبارها منافسا للنظام، بعدما أصابتها خيبة الأمل في تراجع التيار الليبرالي والعلماني.

كان هذا الفوز عاملا كبيرا في تحقيق حركة حماس فوزا كاسحا في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006.

ورأت أمريكا ضرورة الحوار مع الإخوان والنظر إليهم قوة لا يستهان بها، وتعالت أصوات نخب سياسية ومراكز بحثية في أمريكا بأن الخوف من جماعة الإخوان في مصر غير مبرر، وحثّت النظام المصري على أن يكون له نظرة متزنة تجاه الإخوان، وبالرغم من ذلك فلم تخل النظرة الأمريكية للإخوان من تحفظات، خاصة فيما يتعلق بأمن إسرائيل.

قبيل ثورة 25 يناير كانت أمريكا قد أدركت فشل فكرة الحليف الديكتاتوري في الوطن العربي، حيث إن الضغط على الشعوب لإمضاء المصالح الأمريكية في المنطقة، قد ولّد الانفجار، حيث استُهدفت المصالح الأمريكية، كما حدث في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، فمن ثمّ تحولت رغبتها إلى إيجاد نظام بديل يحقق قدرا مناسبا من المناخ الديموقراطي.

فلم تكن أمريكا يعنيها سوى تحول ديموقراطي في مصر، يضمن عدم المساس بمعاهدة السلام، وعدم توتير العلاقات مع إسرائيل، التي يعد أمنها أحد أبرز مرتكزات السياسة الأمريكية في المنطقة.

وقد ذكر رئيس مركز ابن خلدون، الدكتور سعد الدين إبراهيم، أنه التقى جورج بوش، وأخبره الأخير بأن مبارك طلب منه دعم التوريث، فما كان منه إلا أن أجاب: "إن تمكن نجلك من أن يأتي بانتخابات حرة فلن يكون لدينا مانع".

النموذج الذي كان تنشده أمريكا في بلادنا في تلك الفترة كان النموذج العلماني الديموقراطي، إلا أن تقدم الإخوان على حساب القوى العلمانية والليبرالية، فرض على أمريكا النظر بجدية إلى احتمالية تسلم الإخوان السلطة من نظام مبارك، وكانت نظرة محفوفة بالقلق لاعتبارات سبق بيانها.

ثورات الربيع فاجأت أمريكا، وانهالت انتقادات المسؤولين الأمريكيين على التقييمات الاستخباراتية التي فشلت في التنبؤ بثورتي تونس ومصر، بصفة خاصة.

كانت الإدارة الأمريكية تنظر بترقب وحذر إلى أحداث الثورة في مصر، وتدرجت في مواقفها بحسب مسار الثورة، فحذّرت أولا النظام من استخدام القوة في إخماد الحراك الثوري، ثم دعت إلى الانتقال المنظم للسلطة، ثم رأت ضرورة تنحي مبارك عن السلطة.

ومن ثمّ تنتفي فكرة تنسيق الإخوان مع أمريكا للقيام بثورة شعبية في مصر، ومن يروجون لذلك يسعون إلى اتهام ثورة 25 يناير بأنها صناعة أمريكية بهدف القضاء على مكتسباتها وأهدافها، وهو ما ادّعاه سابقا وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام الحالي للجامعة العربية أحمد أبو الغيط.

على الرغم من أن الإخوان لم يحشدوا للنزول يوم 25 يناير، وكان تواجدهم في ذلك اليوم حذِرا وبصورة غير رسمية وبكثافة أقل، إلا أنهم سرعان ما تحركوا بقوة يوم 28 يناير، ولعبوا دورا محوريا في إنجاح الثورة، وبعد الإطاحة بمبارك، تنامت المخاوف الأمريكية من صعود الإخوان إلى سدة الحكم، وذلك لوجود ملفات شائكة مختلف فيها بينهما.

ما مصير معاهدة السلام؟ هل ستقود الجماعة حربا ضد إسرائيل؟

ما مصير التعاون الاستخباراتي بين مصر وأمريكا في محاربة الإرهاب؟

ماذا عن شكل السياسة الاجتماعية للإخوان؟ (محتوى المناهج التعليمية مثالا).

الأمور كانت تسير في مصر بصورة طبيعية لا تنم عن تدخلات أمريكية محورية صعّدت الإخوان كما قيل، فالأجواء الديموقراطية بسبب الثورة توافرت، وشعبية الإخوان جارفة، فكيف لا يصعد الإخوان إلى الحكم.

استجاب العسكر للضغوط الأمريكية لإصلاح ديموقراطي يحفظ مصالحها، بهدف ضرب عصفورين بحجر واحد: ضرب التوريث، وإسقاط الإسلام السياسي بعد وضع العراقيل لإفشاله.

الدور الأمريكي في الانقلاب على نظام الإخوان معروف، والدكتور محمد البرادعي الذي كان أبرز قادة كتلة 30 يونيو، قد اعترف بالاتفاق مع برناردينو ليون على خطة للتسوية تقضي بتخلي مرسي عن السلطة.

الإخوان مثل غيرهم استغلوا المطالبات الأمريكية المستمرة بالإصلاح في مصر، وهو ما أسماه البعض بالغطاء الأمريكي، فأمريكا التي رأت مصلحتها في استبدال النظم الدكتاتورية بأخرى أكثر ديموقراطية، ضغطت على الأنظمة العربية لتحقيق قدر من الإصلاح، وهو ما شكّل دعما للمعارضة بأسرها وليس الإخوان وحدهم، ووسّعت هامش الحريات.

هذا ما ينبغي أن يقال، أما الطنطنة حول تآمر الإخوان مع أمريكا، فهو محاولة للتشكيك في وطنيتها، وفرق بين تقاطع المصالح واستغلال الفرص، وبين العمالة والتآمر.

الاتهامات التي لاحقت -ولا تزال- جماعة الإخوان بأنها تتعاون مع أمريكا، سوف تطاردها إلى الأبد، لأنها التهمة الأكثر قبولا لضرب أي تيار سياسي، نظرا لأنها تتعلق بقوة عظمى تمثل الإمبريالية.

والأيام بيننا، سيعود الإخوان في مصر إلى الحياة السياسية مجددا، وسوف يستأنف خصوم الجماعة اتهامها بذات التهمة، ليبقى تفسير العلاقة بين الإخوان والأمريكان جدلا لا ينتهي.

وسوم: العدد 660