نحو استرداد فحوى الرسالة الإسلامية
في مركز الحوار العربي:
يوم الأربعاء 27 نيسان/أبريل، 2016، تحدث الدكتور ماهر محمصاني*، في "مركز الحوار العربي" عن كتابه الصادر باللغة الأنجليزية - Islam in Retrospect: Recovering the Message – وجاء في نص محاضرته:
يتلخص موضوع الكتاب بشقي عنوانه:
Islam in Retrospect: Recovering the Message
1) ففي الشق الأول، Islam in Retrospect: نتطلع من حولنا كيف نفهم الإسلام ونمارسه بعد انقضاء 15 قرنا على ظهور الإسلام ؛ ثم نقارنه بما كان عليه في أوائل أيام الإسلام وما ورد في القرآن الكريم فنلاحظ أن الفرق شاسع بينهما. مثال ذلك إذا طالب أحدنا اليوم بالديموقراطية هب المتشددون عليه بأن الديموقراطية هي من عند الغرب الكافر ولا يبغي بنا أن نتعلم منهم. بالمقابل في أوائل عصور الأسلام نقل عن الرسول أن اطلب العلم ولو في الصين وهو يقصد بذلك ضرورة طلب العلم اينما وجدناه. فهب المسلمون حينذاك عندما خرجوا من الجزيرة العربية فاحتكوا بالشعوب غير المسلمة وتفاعلوا معهم وأنشأوا حضارة عظيمة كانت الشرارة الباعثة لنهضة الغرب الحضارية (the Renaissance).
2) ثم في الشق الثاني، Recovering the Message: نستعرض سبل استرداد فحوى الرسالة، وبالطبع دون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء التي يطالب بها البعض.
على هذا الأساس، فإننا نعالج الموضوع من خلال ثلاث محاور هي: الطابع الشمولي للإسلام، الطابع العلماني للإسلام ، والطابع التقدّمي للإسلام.
أولاً: الطابع الشمولي للإسلام the Universal Nature of Islam))
في الجزء الأول من الكتاب، نعرف المقصود بالشمولية أي أن الإسلام ذو طابع شمولي من حيث أنه موجه إلى كافة البشرفي كل زمان وكل مكان وليس فقط إلى المسلمين في الجزيرة العربية زمن نزول الوحي. معنى ذلك أن تطبيق الأحكام يتغير تبعا لتغير الزمان والمكان. لذلك قال الفقهاء بقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان. وتأكيدا لطابع الإسلام الشمولي، نشأت المدارس الفقهية خارج الجزيرة العربية عندما خرج منها المسلمون فكان نتاج عملها ملائما لتغير البيئة في تلك الأمصار واختلافها عن البيئة السائدة في مكة والمدينة.
ولكن أمرين هامّين حصلا أديا إلى تهميش وانحصار الطابع الشمولي للإسلام، وهما:
أولاً، تراكم حول الإسلام الكثير من الفكر الإسلامي والعادات والتقاليد وهو أمر كان طبيعياً آنذاك في وقت لم يكن نص القرآن الكريم بمتناول عامة الناس إذ لم يتم جمع القرآن إلا في العقد الثالث بعد وفاة الرسول عليه السلام ومن ثم لم تستنسخ منه سوى نسخ قليلة تم إرسالها لمختلف الأمصار. بالتالي كان الناس إذن يستقون علمهم بالإسلام من الفكر والعادات والتقاليد وما يتعلمونه من رجال الدين وحفظة القرآن ومن الأخبار التي يتناقلها الناس عن سيرة النبي وأقواله وأفعاله.
أما الأمر الثاني فهو اتفاق فقهاء المذاهب السنية الاربعة على قفل باب الإجتهاد بصورة تامة فأقرهم الخليفة العباسي آنذاك على ذلك فأصدر قراراً بهذا المعنى. فكانت النتيجة أن توقف عندئذ تغير الأحكام تبعا لوقف أداة التطوير ألا وهي الإجتهاد. ولئن أعيد فتح باب الإجتهاد في بداية عصر النهضة في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي إلا أن المراجع الدينية سارعت إلى حصر إطار الإجتهاد المسموح به بإطار ضيق للغاية يستثني كل ما سبق البت به في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والإجماع والإجتهاد. وقد أدى ذلك إلى أن ما تراكم حول الرسالة الإلهية من إرث وتراث ثقافي ديني أصبح بمثابة جزء لا يتجزّأ من مفهوم الإسلام ونرجع إليه في استبيان الحلال من الحرام في حياتنا اليومية.
وهذا ما يفسر جزئيا استمرار تخلف العديد من المجتمعات الإسلامية التي لا زالت بتأثير مرجعياتها الدينية ترفض فكرة التطوّر تبعا لتطور الحياة والعلم بعدما تم قفل باب الإجتهاد وبالرغم من إعادة فتحة بالطريقة الضيقة التي أشرنا إليها.
فإذا كان الأمر كذلك، كيف نصحح الخلل ونسترد فحوى الرسالة الإلهية؟ يمكننا ذلك على مرحلتين:
الخطوة الأولى والأهم في مسيرة استرداد فحوى الرسالة تكمن في التمييز بين ما هو من عند الله وما هو من عند البشر، لأن الكمال والشمولية هو حصريا في ما جاء من عند الله، وبالتالي ما أتى به البشر مهما علت قيمته لا يرقى إلى الكمال وبالتالي لا يتمتع بالشمولية. بمعنى آخرعلينا البحث عن الرسالة الإلهية في مصدرها الأساسي ألا وهو القرأن الكريم. فالفقه الإسلامي يقسم مصادر الإسلام إلى قسمين: مصدران أصليان (هما القرآن الكريم والسنة الشريفة) ومصدران فرعيان (هما الإجماع والأدلة العقلية التي تعتمد على الإجتهاد وسيلة لها كالقياس والإستحسان والمصالح المرسلة وغيرها). والحقيقة أن القرآن الكريم هو وحده ذو مصدر إلهي (إذ هو كلمة الله كما أنزلت على نبيّه محمد عليه السلام)، وكل ما عداه هو كلام وفعل الإنسان ولهذا السبب فهولا يتمتع بالشمولية أي أنه ليس لكل مكان وزمان. وفيما يلي كلمة مختصرة عن كل واحد من المصادر البشرية.
بالنسبة للسنة النبوية الشريفة، فهي تتألف من أفعال الرسول (وهي السنة الفعلية) ومن أقوال الرسول (وهي السنة القولية أو الحديث الشريف) وبعض تصرفات الرسول التي يستفاد منها قبوله بما يحصل حوله أو رفضه له (وهي السنة التقريرية). لقد اعتبر الفقه بأن السنة النبوية مصدر ملزم للمسلمين بنفس المستوى تقريباً كالقرآن الكريم. فبالرغم من كل ما جاء في القرآن الكريم من أن الرسول انسان عادي كسائر البشر، فإن غالبية الفقه اعتبر بأن الرسول معصوم عن الخطأ في كل ما قاله وفعله إذ أن ما قاله وفعله هو من باب الوحي، فبعض ذلك الوحي وجد طريقه إلى القرآن الكريم والباقي هو سنة وحديث. بالتالي فإن السنة والحديث بحسب هؤلاء الأئمّة ملزمة تماما كالقرآن الكريم لأنها وحيا إلهياً. قال بذلك الإمامين الشافعي والغزالي وغيرهم وكانت النتيجة بأن الحديث ينسخ آيات قرآنية طالما أن المصدر واحد، ألا وهو الوحي الإلهي. لم ينص القرآن على عصمة الرسول عليه السلام، إنما كانت له عصمة فعلية (de facto) فيما يتعلق بنص القرآن الكريم إذ عندما كان يلتبس الأمر عليه كان يأتيه الملاك جبريل لتصحيح النص. اما فيما عدا النص القرآني، فإن الرسول عليه السلام كان كسائر البشر من حيث إمكانية الخطأ كما يتبين من بعض آيات القرآن الكريم التي ينبه من خلالها رب العالمين نبيه إلى بعض تصرفاته. وقد أكد الرسول عليه السلام ما تقدم من خلال تصرفاته إذ حرص كل الحرص على تدوين الرسالة الإلهية بحذافيرها فور نزول الوحي بها بينما منع على كتبته وصحابته كتابة أي شيء عنه من أفعال وأقوال حتى لا يختلط اي شيء مع الرسالة الإلهية. هذا ما يفسر أنه لم يحصل أي خلاف يذكر حول كمال و صحة ما نقل إلينا من القرآن الكريم بينما لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للسنة النبوية الشريفة التي لم يباشر بتدوينها قبل انقضاء أكثر من مائة سنة على وفاة الرسول.
هل معنى ذلك أنه يجب التخلّي عن سنة وحديث الرسول عليه السلام؟ أبداً! لقد قال لنا رب العالمين في القرآن الكريم: " لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ". إذن قال لنا أن نقتدي بالرسول. وللأسف لم نقتد بالرسول كما حضنا على ذلك رب العالمين بل قلدناه بشكل أعمى دون أن نعي مقتضيات زماننا ومكاننا. بدل أن نقتدي بفكره في ممارسة الإجتهاد بما يناسب زماننا كما فعل هو وكان بذلك المثل الصالح الذي يقتدى به، قلدنا الحلول التي قررها هو في ضوء مقتضيات زمانه ومكانه وطبقناها بدون مراعاة إختلاف الزمان والمكان. لنعط مثلا يصوّر الفكرة: ورد في القرآن الكريم الآية الكريمة التالية: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ". إلا أن الرسول عليه السلام قرر أن لا وصية لوارث أي بعكس ما نصت عليه هذه الآية. فاعتبر الفقه أن الرسول بقوله ذلك قد نسخ الآية المذكورة من القرآن الكريم. لهذا السبب لا زال القانون في البلاد الإسلامية حتى يومنا هذا لا يسمح للمسلم أن يغير أنصبة الإرث العائدة للأقربين بالوصية بالرغم من صراحة الآية المذكورة. والحقيقة هي أن الرسول عليه السلام لم يرم إطلاقا إلى العبث بآيات الله الكريمة، بل إن ما قام به كان اجتهاداً قيما جديرا بالتقدير، لأن أعيان القبائل والعشائر استخدموا الوصية وسيلة لإحباط ما أتى به القرآن الكريم من أنصبة توزيع الإرث في معرض نبذ العصبية القبلية البغيضة واستبدالها برابطة الدين السمحة. إنما نحن بدل أن نقتدي به قلدناه بصورة عمياء بدليل أننا ما زلنا نطبق بشكل دائم ونهائي ما كان الرسول قد قرره بصورة مؤقتة بالرغم من أن ظروف حياتنا نحن قد تغيرت لناحية نبذ العصبية القبلية. بالنتيجة إذن، إن السنن التي يثبت صحتها لها قيمة كبرى، وقيمتها تكمن لا بتقليدها الأعمى بل بالإقتداء بها بما تمثل من تفكير الرسول وريادته من حيث فهمه لأحكام القرآن الكريم وتصرفه إزاءها. بالتالي ما هو أساسي هنا هو كيف استخدم الرسول عقله وحكمته في إيجاد الحلول الملائمة لبيئته الزمنية والمكانية لا لاستنساخ تلك الحلول وتقليدها لحل مشاكلنا المختلفة كليا في زمننا وبيئتنا.
من حيث الإجماع، نقل عن رسول الله عليه السلام أنه قال "يد الله مع الجماعة" كما نقل عنه أيضا ما معناه أن أمتي لا تجمع على خطأ. والمعنى بذلك أنه يوجد نوع من الحكمة الجماعية collective wisdom تتخذ شكل القاعدة الإجتماعية وحتى القانونية. هذا ما قضت به أيضا الشرائع القديمة والحديثة بان العرف المستمر تصبح له قوة قانونية متممة لما تنص عليه القوانين الوضعية. لذلك فإن العرف وكذلك الإجماع هو تعبير عن قاعدة في زمان ومكان معينين فيبقى سار المفعول حتى يتغير العرف أو يجمع الناس على خلافه. فعندما اعتمد الرسول الإجماع مصدرا للتشريع كان يعبر عن تلك الحكمة الجماعية ولم يكن يقصد أن الإجماع في زمن ومكان معين يصبح مادة قانونية شاملة لكافة الأزمنة والأمكنة غير قابلة للتغيير.
أما من حيث الأدلة المبنية على الإجتهاد مثل القياس والإستحسان والمصالح المرسلة وغيرها، لقد شجع القرآن الكريم المسلم على الإجتهاد لاستنباط الأحكام فى حل المسائل التي تواجهه يومياً فكانت وسيلة هامة في مواكبة التشريع للتطورالإجتماعي من حيث الزمان والمكان وهو ما يبرر ظهور المذاهب الفقهية المختلفة تبعا لاختلاف الظروف من مكان إلى آخر حيث ظهرت تلك المدارس. أما المؤسف هو أن باب الإجتهاد أقفل في مرحلة متقدمة من العهد العباسي فبدأت بذلك مرحلة تراجع الإمبراطورية الإسلامية وبدأ تراجع وتخلف الشعوب الإسلامية إذ تقرر أن يستمر العمل بما تم الإجتهاد به حتى تاريخ قفل باب الإجتهاد وذلك بالرغم من أنه لم يرد في أي نص قرآني ما قد يرتب على إجتهاد ما قوة قانونية تتعدى المسألة بالذات التي يجتهد بشأنها.
بعدما حددنا الخطوة الأولى لاسترداد فحوى الرسالة من خلال تمييز المصدر الإلهي عن المصادر البشرية، ففي الخطوة الثانية، نسترد فحوى الرسالة بإعمال الإجتهاد والإكثار منه في تفسير وتأويل أحكام الرسالة الإلهية (أي القرآن الكريم) بما يساعدنا في إيجاد الحلول لمشاكلنا في عصرنا ومكاننا، تماماً كما فعل الرسول عليه السلام وصحابته الكرام لمعالجة قضايا زمانهم ومكانهم. ولذلك لا بد من تفسير آيات القرآن الكريم آخذين في الإعتبار سياق النص وظروف نزوله حتى يتسنى لنا استخلاص الرسالة الجوهرية للنص من خلال مقاصد الآيات لا صيغتها الخارجية وذلك بخلاف ما درج عليه العديد من الفقهاء من رفض مبدأ ادخال السياق في أصول التفسير والإصرار على العمل بظاهر النص معتبرين أن السياق الزمني والمكاني والوضعي للنص يعيق أو يضعف من شموليته. وهذا الأمر هو في غاية الأهمية والخطورة وتترتب عليه نتائج جوهرية في فهم الرسالة.
ثانيا: ألطابع العلماني للإسلام (the Secular Nature of Islam)
ناتي الآن إلى المحور الثاني للكتاب ألا وهو الطابع العلماني للإسلام.
يعتبر الفقه أن الإسلام دين ودولة حيث أن الخلافة هو شكل الدولة الإسلامية، والخليفة رئيسها، والله حاكمها بموجب الحاكميّة الإلهية، والقرآن الكريم بما أتى به من شريعة هو دستور وقانون تلك الدولة، والجهاد هو الوسيلة للدفاع عنها ونصرة الله ودينه. بذلك فإنه لا مجال للحكم والتشريع من قبل البشر إذ أنه يتعارض حينئذ مع الحاكمية الإلهية.
وأود هنا أن أذكر كتاب بارز باللغة الفرنسية لمفكر مغربي هو البروفسورعبده فيلالي الأنصاري وعنوانه "هل الإسلام ينسجم مع العلمانية"؟ وقد أوحى إلي هذا الكتاب عنوان هذا المحور من الكتاب إذ انني أعتبر أن الإسلام ليس فقط ينسجم مع العلمانية بل هو دين علماني.
لنبدأ بتوضيح مفهوم العلمانية. فالعلمانية لا تعني أن الدولة ملحدة، أو هي مناهضة للدين أو أنها تحل محل المرجعيات الدينية. مفهوم العلمانية هو التالي:
- أولا، ليس للدولة أي واجب كما لاتملك الحق في التأثير في معتقدات الأفراد؛
- ثانيا، إن حقوق وواجبات الناس كمواطنين في الدولة تجاه الدولة وفيما بينهم تستمد بصورة حصرية من القانون الوضعي ولا تتأثر بمعتقداتهم الدينية؛
- ثالثا، مؤسسات الدولة تمارس نشاطاتها وفق القانون ودون أي تمييز بين المواطنين بحسب معتقداتهم الدينية؛
- رابعا، تستمد الدولة شرعيتها من مواطنيها ولا تسؤل عن أعمالها إلا أمامهم كمواطنين لا أمام أي سلطة دينية؛
- خامسا، إن مواطني الدولة العلمانية ليسوا رعايا يتوسلون التفاتة وعطف حاكم يدعي ممارسة سلطة إلهية أو يستمد شرعيته من مرجعية دينية؛
- سادسا وبصريح العبارة، لا المؤسسة الدينية تتدخل في شؤون الدولة والحكم ولا الدولة تمارس سلطة دينية أو تتدخل في الشؤون الدينية سوى لضمان حرية المعتقد لكل إنسان وحرية ممارسة شعائره الدينية وذلك ضمن حدود حريات الآخرين بالنسبة لمعتقداتهم وحرية ممارسة شعائرهم الدينية.
أين الإسلام من هذه المكوّنات لتعريف العلمانية؟
أولا، لا مكان في الإسلام لمرجعية دينية منظمة مشابهة للكنيسة في الدين المسيحي. فالإسلام لا يلحظ كما لا يسمح بدور الوسيط بين الله والبشر. علاقة الإنسان مع ربه علاقة مباشرة.
ثانيا، إن القرآن الكريم لم ينص على وجود دولة إسلامية ولا على أن الخليفة هو رئيس الدولة.
ثالثا، أن القرآن الكريم لا يتضمن نظرية للدولة كما أنه لا يشترط أن يعيش المسلم في كنف دولة يحكمها المسلمون. فنظرية الدولة الإسلامية هي نظرية محض فقهية طورها فقهاء المذاهب الإسلامية. وقد حاول البعض أن يجد في القرآن الكريم إشارة لنظرية حكم من خلال أشارتين إلى الشورى، إلا إن تلك الإشارات الإلهية للشورى لم تكن في سياق ذي علاقة بالدولة أوالحكم.
رابعا، إن القرآن الكريم أهم بكثير من أن يكون مجرد دستور دولة أو نظام قانوني. وبالفعل ما نعرفه بالشريعة بشكل عام هو ليس الشريعة التي أتت بها الرسالة الإلهية بل هي مجموعة قوانين استوحاها الفقه من الشريعة الإلهية وهي لهذا السبب تختلف من مذهب إلى آخر. صحيح أن القرآن الكريم أتى بشريعة غراء، إلا أن الشريعة التي تضمنتها الرسالة الإلهية هي غير القانون الإسلامي الذي يسعى الإسلاميون إلى تطبيقه على أنه شريعة إلهية. إن الشريعة الإلهية التي نجدها في طيّات القرآن الكريم هي مجموعة مبادئ أخلاقية واجتماعية عليا و سامية تصلح لأن تؤسس لأنظمة قانونية متعددة ومختلفة يقرها البشر بما يناسب متطلبات زمانهم ومكانهم وليس لقانون واحد بصيغة واحدة عابرة للمكان والزمان.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا كانت الشريعة عبارة عن مجموعة مبادئ سامية عليا كيف نجد في القرآن الكريم أحكام قانونية مفصلة كالتي تتناول مسائل الإرث مثل الحصص الإرثية المفصلة للإناث وسائر الورثة مثل قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين وغيرها. هنا أيضا لا بد من تطبيق القاعدة التي ذكرناها في كيفية استرداد فحوى الرسالة ألا وهي تفسير الآيات آخذين بالإعتبار السياق المكاني والزمني للنزول. وسوف أستطرد قليلا للتوسع بمَثَل يشرح الفكرة حول كيفية تغيّر المعاني والمقاصد عندما يدخل السياق في معرض تفسير النص. فقبل نزول الرسالة، كانت العادات القبلية السائدة لا تعترف للمرأة بأية حقوق إرثية. لا بل بالعكس كان الناس يتوارثون النساء مثلما كانوا يتوارثون الإبل والشاة وسائر مخلفات الشخص المتوفى. فالإسلام رمى من ضمن ما رمى إليه إلى نبذ العصبية القبلية القاسية والمفرقة بين أبناء القبائل واستبدالها برابطة شاملة وجامعة ألا وهي رابطة الإسلام السمح والرحيم. من هذا المنطلق بدأ الإسلام باقرار مساواة الرجل بالمرأة مساواة تامة فأكد ذلك بأنه لهن حقوق إرثية كما للرجل من خلال الآيات 11 و12 من سورة النساء التي أقرت مبدأ حقوق النساء الإرثية لكافة النساء من أقرباء الشخص المتوفى مثل الزوجة و البنات والأخوات والأمهات وغيرهن. أقول أقر القرآن الكريم لهن حقوق إرثية كما للرجل بالرغم من قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين المتعلقة بإرث النساء بالتعصيب وذلك من خلال الآية 13 من سورة النساء وهي قاعدة عامة غض فقهاؤنا القدامى والمعاصرون العين عنها ألا وهي: " تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ" فبالفعل بعدما عددت الآيتان 11 و12 الحصص الإرثية للنساء أتت الآية 13 تنبه إلى أن تلك الحصص هي حدود الله. معنى ذلك أن الحصص الواردة في تلك الآيتين هي حصص بالحدود الدنيا من طبيعة الحصص المحفوظة وليس ما يمنع إعطاء الذكور والإناث حصصاً متساوية. وقد نتساءل ولماذا إذن لم يعط للنساء آنذاك حصص مساوية لحصص الذكورمنذ البدء ؟ والجواب أيضاً يأتي من سياق الزمان والمكان، إذ كانت العادات القبلية آنذاك تلقي على عاتق الذكورأعباء مادية تجاه الإناث...
فإذا كان القرآن الكريم لم يلحظ شكلا محدداً للدولة كما أنه لم يتضمن في طياته قانونا بمواد متكاملة ومفصلة فكيف تتجلّى الحاكمية الإلهية ومن أين يأتي الناس بما يحتاجون من أنظمة وقوانين لإدارة شؤونهم الإجتماعية وتنظيم حياتهم اليومية؟ والجواب هو في أن رب العالمين ترك ذلك الأمر بصورة كاملة للبشر يقومون به بحرية مطلقة ولكن تحت مراقبته. فالله عز وجل عندما خلق البشر من خلال آدم نفخ فيه من روحه وأعطاه ما لم يعطه لأي من خلائقه الأخرى ألا وهو العقل والعلم. كما أنه استخلف البشر على الأرض لإدارة شؤونهم بحرية تامة على أن يكون الإنسان مسؤولا عن أفعاله ويحاسب عليها في اليوم الآخر. وهو لذلك أعطى البشر المبادئ السامية العليا المتمثلة بالشريعة ليتسنى للإنسان بناء الأنظمة الإجتماعية والقانونية وتعديلها من وقت لآخر بما يتلاءم ومصالحهم وسياق أزمنتهم وأمكنتهم.
يتبين من ذلك أن لا تعارض بين حكم الإنسان وحاكمية الله إذ أن ما قرره الله من ترك أمر الحكم على الأرض للبشر قد قرره من خلال ممارسته للحاكمية الإلهية. فالله بالتالي وهو على كل شيء قدير ليس بحاجة إلى من يضمن ويحقق نفاذ حاكميته. بالنتيجة يصبح مفهوم الجهاد كحرب مقدسة لنصرة الله ورسوله والدفاع عن الدين وبالتالي ضمان نفاذ حاكمية الله مفهوما فارغا لا أساس له من الصحة. فبالنسبة لنصرة الله والدفاع عن الدين قال الله تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ". ثم أكد لنا رب العالمين أن الجهاد ليس قتالا أو حربا وهو بمطلق الحال ليس بحاجة لمن يدافع عنه: " وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ".
إذن إن الجهاد هو الوسيلة التي من خلالها يمارس الإنسان إنسانيته (وهو ما يعرف بالـ humanism). هنا أيضا إن الفكر الإسلامي لم يشجع على تداول مفهوم الـ humanism، على اعتبار أن الإنسان لا قيمة له أمام حاكمية الله وهذا أمر غير صحيح بسبب ما كرم به الله الإنسان عند خلقه إذ نفخ فيه من روحه وأمر الملائكة أن يسجدوا له. وتأكيدا على أن الجهاد هو غير القتال، استعمل الله في القرآن الكريم تعبيري القتال والجهاد كل بحسب مفهومه الصحيح. فقد شرّع القتال للدفاع عن النفس ليس إلا وذلك فقط بالقدر الضروري الكافي لرد العدوان وبالتالي لم يشرع القتال للإعتداء على الغير أو لأغراض توسعية أو أي غرض آخر بما في ذلك نشر الدين إذ "لا إكراه في الدين". كما أمر من جهة ثانية بالجهاد في "سبيل الله" وهو السبيل الذي يقرب الإنسان من الله، أي حض الإنسان على جهد النفس لاكتساب العلم والعمل والكد والعمل الصالح والعبادة وكل ما يدفع الإنسان في سبيل الله ويقربه من الله. ولا يتخذ الجهاد شكل القتال إلا في حالة واحدة لاغير وهي إذا اعتدي عليه لصده عن سبيل الله ورده عن الإسلام، بالتالي للمسلم أن يجاهد قتالا بما يلزم لاستعادة حرية سلوك سبيل الله. وذلك يظهر جليا في آيات القرآن الكريم التي حض فيها الله رسوله والمسلمين على القتال بصيغة "جاهدوا أو جاهدوهم" إذ لم تكن آيات وردت بالمطلق بل بصورة حصرية لحض الرسول والمسلمين على ردع أهل مكة وغيرهم ممن حاربوا المسلمين لردعهم عن اعتناق الإسلام أو دفعهم إلى الإرتداد عنه.
فكيف إذن نسترد فحوى الرسالة الإسلامية في هذا المجال؟
- نصحح مفهومنا للإسلام بوصفه دين ودنيا بدلا من أنه دين ودولة
- لن نقول بفصل الدين عن الدولة وإنما بإزالة أي دور للمرجعيات الدينية في إدارة أو التأثير في إدارة شؤون الدولة، وتصحيح هذا الدور بحيث ينحصر في الشؤون الإجتماعية والدينية المحض
- نجهد النفس في دعم وتطوير إنسانيتنا باستمرار في هذه الحياة لما قد يترتب على جهادنا من أثر في نوعية حياتنا في الآخرة.
ثالثا: ألطابع التقدّمي للإسلام (the Progressive Nature of Islam)
وهنا نأتي إلى المحور الثالث والأخير من الكتاب وهو طبيعة الإسلام التقدّمية ولا أعطي هذا التعبير مفهومه السياسي القريب من الماركسية وإنما المفهوم المبني على دوره في تقدّم الشعوب بحيث أن الإسلام يتوجه إلى تحفيز البشر على العلم والتقدم والتطور في كافة المجالات من خلال التحفيزعلى استعمال العقل كما من خلال تنمية وصون حقوق الإنسان. فبالنظر لكون أوطاننا العربية والإسلامية ترزح تحت وطأة التخلف، نسمع من وقت لآخر المنادين بوجوب تطوير الإسلام حتى يتسنى لعالمنا الإسلامي اللحاق بركب التطوّروالمدنية.
فالواقع أنه انطلاقاً من كون رب العالمين قد كرّم الإنسان بدرجة عالية وخصه بوسيلة التطوّر الأهم المتمثلة بالعقل، فأن الإسلام ليس فقط قادراً على اللحاق بركب التطور بل أنه بالأحرى للإسلام أن يقود ركب التطوّر. فإذا كنا نملك وسائل التطور فلماذا نستمر في التخلف والفشل في ولوج سبيل التطور. لماذا نستمر في التعثر في استعمال عقولنا وحتى أن بعض رجال الدين لا يشجعون على استعماله؟ ومن جهة أخرى لماذا نستمر في عدم إقرار ما كرمنا به رب العالمين من منزلة ونستمر بالقبول بعدم المطالبة لأنفسنا بحقوق الإنسان وممارستها؟ والسبب في ذلك هو في فهمنا الخاطئ للإسلام ورسالة رب العالمين لنا سواء من حيث استعمال عقولنا أو من حيث نظرتنا إلى أنفسنا وحقوق الإنسان.
من حيث ضرورة أستعمال العقل
1) إن استخدام العقل غالباً ما لا يشجع عليه الفكر الإسلامي التقليدي، إذ أن مفهوم الحاكمية الإلهية وما يترتب عليه من إيمان بحتمية مشيئة الله وما كتبه وقدّره (determinism) يجعلان من استخدام العقل غير ذي فائدة إن لم يكن مهيناً للذات الإلهية. وبالفعل يقال بأنه إذا كان الله مسيطراً على كل شيئ وقد قدّر كل شيئ في مجريات حياتنا في الكتاب المحفوظ فيصبح عندئذ كل جهد من قبلنا في رسم طريقنا غير ذي جدوى. فكم من مرّة سمعنا الناس يقولون عندما يتوفى إنسان في حادث على الطريق: ما حصل كان حتمياً، هذه مشيئة الله؛ خلص عمره. هذه الحتمية في النظرة إلى الأمور مبنية حول بعض الآيات من القرآن الكريم التي اقتلعت من سياقها في النص فساء فهمها، أذكر منها آية ذات دلالة كبرى على أهمية السياق الصحيح للآيات وهي: " وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً". فهذه الآية بصيغتها الخارجية وبمعزل عن سياقها قوية جداً وتعني أنه ليس من المجدي أن نعزم الأمر على شيئ حتى يتبين لنا فيما إذا كان ذلك العزم يتعارض مع ما اختطه لنا رب العالمين، فبالتالي لا يعود هناك أي مسوغ يحفز الإنسان على العمل والتطور إذ أن ما كتبه وقرره الله سيحصل بالرغم منا. بمعنى آخر، بمثل هذه المفاهيم نعوّد أنفسنا على الكسل ونمعن في التخلف. ولكن هذه الآية تعني خلاف ذلك كليا عندما نضعها في سياقها الصحيح فيتبين لنا بالتالي أن لاعلاقة لها بمشيئة الله ولا بما قرره لنا من منظور الحاكمية الإلهية. أما الحقيقة المستفادة من تفسير هذه الآية من خلال سياقها وظرف نزولها فهي كالتالي: كان رسول الله، عليه السلام، صباح يوم مع مجموعة من أهل قريش في الحرم المكي فسألوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين. لم يعرف الجواب فاستمهل للغد حتى يأتيه الجواب من رب العالمين (كما في آيات عديدة في القرآن الكريم التي تبدأ بعبارة: يسألونك عن كذا قل كذا، أو يستفتونك في كذا قل كذا...). إلا أن هذه المرة لم يأت الجواب كما كان يتوقع فانقطع الوحي لمدة طويلة ثم نزلت هذه الآية "لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله...". وكان الله بذلك ينبّه رسوله بألا يعد بشيء مما يخرج عن نطاقه. فإذا كان الجواب من عند الله فلا بد أن يكون الوعد مشروطا على إرادة الله إذ انه ليس بوسع النبي أن يتحكم بإرادة الله ويقطع العهود نيابة عنه.
2) من جهة ثانية يحذرنا بعض علماء الدين من هول المجادلة في أحكام القرآن الكريم التي قد تقلقنا. فكلما جادل أحدنا بفحوى تفسير آية يتم توبيخنا وتحذيرنا من مغبة التشكيك في كلام الله. من هنا اعتبر البعض أن لا محل للعقل في معرض الإيمان: إما نؤمن أو لا نؤمن ولا جدل في الأمور الإيمانية. فالإيمان هو القبول غير المشروط بكلمة الله. وانسحب ذلك أيضا على وجوب القبول غير المشروط بكلمة البشر التي فسرت كلمات الله وأولتها. بمقابل ذلك، لا نجد أي من ذلك في طيات القرآن الكريم. لا بل على العكس إن آيات الله وبصريح العبارة تحضنا على استعمال عقولنا لكي نتمعن في الآيات حتى نقتنع بها وبفحوى الرسالة كي يكون بذلك إيماننا أيماناً راسخا مبني على القناعة لا إيماناً ضعيفا مبني على الخشية. أولاً إنها تصف متلقي الرسالة بـ"أولي الألباب" أي إن الله يتوجه برسالته إلى خلقه كونهم ذوي حكمة وعقل. ثم إن الآية تلو الأخرى تحضنا على التفكر والتذكر والتعقل بفحواها حتى يكون إيماننا مبنيا على القناعة والطمأنينة وكأن رب العالمين يقول لنا أن الإيمان الصحيح هو المبني على القناعة وبالتالي فإنه لا بأس من المجادلة في كلام الله في معرض تكوين هذه القناعة. تأكيدا على ذلك يورد لنا القرآن الكريم قصة إبرهيم عليه السلام عندما طلب إلى ربه أن يريه كيف يحي الموتى فسأله الله ألم تؤمن فقال بلى ولكن ليطمئن قلبي، فأجابه الله على طلبه.
من حيث كرامة الإنسان و حقوق الإنسان
1) يعلّمنا رجال الفقه والدين باستمرار بأن هناك واجبات والتزامات جمّة تقع على عاتق الإنسان، منها واجبات نحو رب العالمين وأخرى تجاه المجتمع المحيط به. فداخل الأمّة أي المجتمع الذي يعيش ضمنه الإنسان فإن المصالح العامة المشتركة تعلو فوق كل مصلحة خاصّة، بحيث يتحتم حجب المصالح الخاصة حفاظا وصوناً للمصلحة العامة. وهذا ما يبرر تشبث البعض بأن العبرة في الإسلام هي للواجبات إزاء الله والمجتمع لا لحقوق الإنسان.
2) لذلك ما قد يكون للإنسان من حقوق فهي تندرج في إطار واجباته إزاء الله والمجتمع كما نصت عليه الشريعة. هذا ما يفسر كون عدد من الدول الإسلامية قد سجلت التحفظات في معرض انضمامها للمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وهي تحفظات تشير صراحة لمقتضيات الشريعة الإسلامية، ومنها ما يتعلق بمبدأ المساواة وحقوق المرأة والحصص الإرثية وحرية المعتقد ومسألة تحريم الرق وغيرها.
والواقع أننا عندما نقرأ القرآن الكريم بعيدا عن التقاليد المتراكمة، نتبين أن الإسلام قد نص على حقوق الإنسان قبل أن يفكر بذلك ما نسميه اليوم "العالم المتحضر" بزمن بعيد. ففي الإسلام، إن حقوق الإنسان لم تأتِ بها الكتب السماوية من توراة وإنجيل وقرآن من لا شيء. فالقرآن ينص على أن حقوق الإنسان متأصّلة في خلق الإنسان وهي بالتالي تدخل في إطار الفطرة؛ بمعنى آخر إن حقوق الإنسان جزء لا يتجزّأ من إنسانيته. وعلى هذا الأساس:
أ) فإن الإسلام أقر حريّة الإنسان وسعى لوضع حد لآفة الرق. فبينما لم يبدأ الغرب بالتنبه لآفة الرق إلا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن الإسلام أثار الموضوع منذ القرن السابع! صحيح أن القرآن الكريم لا يتضمن آية تحرّم الرق بشكل صريح، إلا أن الإسلام عبر عن رفضه للرق من خلال الآيات التي تضع الإطار الملائم لإعتاق الرقيق وتحفيز الناس على ذلك: من ذلك التكفير عن الخطيئة من خلال تحرير الرقبة؛ كذلك أطلق القرآن الحق بالزواج من ملك اليمين بلا حدود إذ إن زواج الرقيق من الحر هو المدخل إلى ولوج طريق الحرية.
ب) كذلك أيضا أقر الإسلام حرية المعتقد قرونا عدة قبل أن تدخل تلك الحرّية في الفكر الغربي. فقد نص القرآن الكريم على أن المجتمع الإسلامي مجتمع تعددي مبني على حرية المعتقد حيث لا يكفي للناس أن يتعايشوا بداخله على طريقة مرغماً أخاك لا بطل، بل عليهم أن يقبلوا بعضهم بعضا وأن يتفاعلوا مع بعض ("وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" و "يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"). كما نص القرآن الكريم على حرية كل إنسان في قبول أو رفض رسالة محمد ("لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ" و "وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ")، كما نبه رب العالمين رسوله أن مهمته تنحصر في البلاغ ("وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ") ونشر الرسالة بالحكمة والموغظة الحسنة ("ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ") أي بالإقناع السلمي بحيث لا تكون له أية صلاحية لفرض الإيمان على أحد بالقوة. وقد نبه رب العالمين نبيّه بأن لا يتهم أي إنسان بالكفر ولا أن يشكك في إيمانه، كما ذكّره باستمرار بأنه هو الله دون غيره يعرف ما في صدور الناس وهو وحده بالتالي يقرر من هو المؤمن من الكافر("فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ"). لذلك فإن الإسلام لا يعترف بالشرطة الدينية ولا باي سلطة للحكم على إيمان البشر.
3) نأتي الآن إلى ناحية ثالثة ومهمة من موضوع حقوق الإنسان ألا وهو حق المساواة وعلى الأخص المساواة بين الذكور والإناث. وهنا أود أن أشدد على أن الإسلام قد أقر المساواة المطلقة بين الإناث والذكور وذلك دون أي أدنى تحفظ. فالآيات الكريمة التي يتذرع بها الكثيرون لتبرير استمرار عدم المساواة هي على العكس تماما عندما نقرأها في سياقها الصحيح تصبح دليلا على المساواة التامة. وسنبين ذلك في بعض الأمثلة التي سوف نتوقف عند بعض منها قليلا وهي: قاعدة حدود إرث النساء بما يساوي نصف حصة الرجل ،ثم حالة تعدد الزوجات والتي يضعها العديد من علمائنا في خانة حقوق الذكور المطلقة، قوامة الرجال وإجازة ضرب الزوجة، وأخيرا الآية الكريمة التي تنص على أن ليس الذكر كالأنثى. بحثنا فيما قبل موضوع إرث النساء ولن نعود إليه.
- بالنسبة لتعدد الزوجات، نص القرآن الكريم على إمكانية أن يتزوج الرجل من عدد من ألنساء لا يتعدى الأربعة. وقد اشترط القرآن الكريم العدل بينهن، إلا أن النص يقول أيضا أن الرجل لن يستطيع أن يعدل مهما حاول. والسؤال هنا كيف يكون الحق مشروطا بشرط مستحيل؟ هنا أيضاً لا بد من استذكار سياق النص. قبل الإسلام كان للذكور الحق بالزواج بأي عدد من النساء دون حدود سواء كن حرائر أو إماء، فأتى الإسلام ليضع حدا لهذه الحرية بحيث لا يتزوج الذكر أكثر من واحدة. فكيف إذن توصلنا ألى اربع نساء على سبيل الحق المكتسب؟ الجواب واحد: السياق ثم السياق. أن الآية التي ورد فيها ذكر الزوجات الأربع تقع ضمن سلسلة من الآيات التي تتناول وجوب الإهتمام بالأيتام خاصة وأن العديد منهم خسروا آباءهم خلال الحروب المتكررة أيام الرسول ("وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً"). فأتت الآية الكريمة تقضي بان إحدى وسائل العناية بالأيتام هو الزواج من أمهاتهن الأرامل. بذلك يتضح الأمر تماما: فإن كان يتعذّرعلى المرء أن يعدل بين النساء مهما حاول ذلك، فإن الزواج بواحدة تبقى القاعدة. ولكن، ومن باب التسامح للضرورة سمح بالزواج بأربع كحد أقصى وذلك بصورة إستثنائية ومؤقتة بسبب العدد الكبير من اليتامى الذين هم بحاجة للمساعدة...
- أما قوامة الرجال وإمكانية ضرب النساء، فلم تأتِ في معرض تخصيص الذكور بمنزلة تعلو عن منزلة الأناث. تنص الآية 34 من سورة النساء على ما يلي: "ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً".
لقد عرّفت الآية الكريمة القوامة من خلال ربطها بتحمل الإلتزامات المالية لا بصورة مطلقة. فإذن إن ما يبرر تلك القوامة هو كون الذكر يقوم بالإنفاق على النساء مما يعني أن القوامة هي إشارة إلى مسؤولية الرجل للقيام باحتياجات النساء المالية، وبالتالي لا علاقة للأمر هنا بمنزلة عضوية خاصة يتميز بها الرجل على المرأة. أما ضرب الزوج لزوجته، فإنه لم يأت في معرض النص على حق الزوج بتأديب زوجته بل هو يظهر هنا من قبيل أهون الشرّين. بالفعل، انحصرت إمكانية تأديب المرأة من قبل زوجها في تلك الآية بالذات بحالة النشوز وليس كحق للزوج بالمطلق. وبالعودة إلى السياق، بحسب العادات القبلية لو طلق الرجل زوجته بسبب النشوز لاستحالت عودتها إلى أهلها دون قتلها دفعا للعار؛ لذلك فإن الضرب من باب التأديب تفادياً للطلاق (بعد محاولة الوعظ وهجر المضاجع) وما يترتب عليه من احتمال القتل يصبح أهون الشرين. أما اليوم وقد تبدلت الظروف ليس ما يمنع تدبر الأمر من خلال القوانين الوضعية التي تحفظ للطرفين حقوقهما وحريتهما.
- أما كون القرآن الكريم في سورة آل عمران ينص على أن " وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ " كما يحلو للبعض ان يذكرنا للقول بعلو منزلة الرجل على منزلة المرأة، فإليكم سياق تلك الآية: كانت زوجة عمران تناجي ربها وتسأله أن يرزقها بذرية وقد نذرت لذلك أن يخدم مولودها الله في المعبد طيلة حياته. حملت زوجة عمران فأنجبت أنثى فراحت تعتذر لرب العالمين قائلة له بما معناه: لقد أكرمتني واستجبت لدعائي فحملت وأنجبت إنما أنا فقد خذلتك إذ أنجبت أنثى وبالتالي لن أستطيع أن أفي بالنذر حيث أن الأنثى لا تستطيع الخدمة في المعبد. فاجابها رب العالمين أنا أدرى بما حملتي وأنجبتي و"ليس الذكر كالأنثى". كان بذلك يقول لها ما معناه: أنت مصرة على الذكر ولكن لا تدرين قيمة هذه الأنثى التي أعطيتك إياها وأنى يكون للذكر أن يتشبه بها، وكان بذلك يعني السيدة مريم التي ولدت بها إمرأة عمران والتي سوف تلد السيد المسيح عيسى بن مريم. فهذا مثال صارخ عن تحويل نص يمجد المراة واستعماله خارج سياقه والتذرع بتفضيل إلهي للذكر على الأنثى.
فإذا كان الأمر كذلك كيف نسترد فحوى الرسالة؟
أولا، نعاود إعمال العقل في قراءة الرسالة الإلهية وفهمها من خلال الإجتهاد وطلب العلم وتعزيز حقوق الإنسان ورفع مستوى التطبيق.
ثانيا، نصحح نظرتنا إلى أنفسنا من خلال الإيمان بكرامتنا الإنسانية إذ أن الله قد أكد على كرامة الإنسان من خلال خلقه إذ نفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له.
ثالثاً، لآ بد من تصحيح نظرتنا إلى رب العالمين. وهنا أود أن أتوقف قليلا عند تصورنا المغلوط لرب العالمين: أن دروس الدين تصور لنا الله بأنه كائن همه محصور في أن يحصي أعمالنا وينهال علينا بالغضب إذا أخطأنا. ثم نشأنا حول فكرة وجوب خشية الله والخوف منه والتذلل له من كثرة الخوف طمعا برضاه أي من باب الخوف والذل. والواقع الذي نستمده من قراءة كتاب الله مختلف كليّاً: أولا، لم يخلقنا الله ليستعبدنا وطمعا في أن نخدمه كما يدعي البعض مستذكرين الآية " وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ". هو على كل شيء قدير وليس بحاجة إلينا، نحن من هم بحاجة إليه (وفي مطلق الأحوال، إن مفهوم العبودية لله وخدمته هي فكرة محض وثنية حيث نستجلب صورة البشر الذين يجولون بين الأوثان لتنظيفهم والإتيان بالأطعمة لهم، إلخ). أسمانا الله ونادانا بعباده وشتان بين العبادة والعبودية. فالعبادة متأصلٌ فيها مفهوم الحب الذي يشكل إطار علاقتنا برب العالمين وأما العبودية فهي تتناقض مع ما نفخ الله فينا من روحه من خلال آدم وأمر الملائكة أن تسجد له. ثم أن الله أكد لنا مرارا أنه ليس بالمرصاد لنا إذ أن رحمته واسعة وهو يغفر كل الذنوب دون استثناء سوى الشرك به. فبالتالي يتغير مفهومنا للدين ونظرتنا إلى أنفسنا من خلال تصحيح نظرتنا إلى الله وعلاقتنا به من عبودية وذل وخوف إلى علاقة عبادة ورحمة وحب. وأخيراً، حضنا رب العالمين على التوكل عليه، إلا أننا وللأسف تكاسلنا وتخاذلنا فاتكلنا عليه والفارق كبير بين التوكل والإتكال. وقد بين الله لنا مفهوم التوكل عندما خاطب نبيه قائلا"فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ". يعني ذلك ينبغي على المرء أن يعزم أمره وأن يعد العدة بما أوتي من جهد لما يريد ويسعى إليه ومن ثم يتوكل على الله إي يأمل في أن يوفقه في مسعاه.
وانهي كلمتي باستذكار كتاب آخر مهم للبروفسورالمغربي عبدو فيلالي الأنصاري باللغة الفرنسية عنوانه "هل يقتضي علينا إصلاح الإسلام" ؟ والجواب هو بالنفي القاطع والمطلق. والسبب بسيط. أن الإسلام هو من عند الله وهو بالتالي يتمتع بصفة الكمال الإلهية التي لا يعيزها الإصلاح. أما ما هو بحاجة للإصلاح وبصورة ماسة فهو فهمنا للإسلام وتطبيقنا له. هذا الأمر ممكن ولا بد من السعي إليه لأنه الأساس الضروري لاسترداد فحوى الرسالة. وشكراً.
------------
الدكتور ماهر محمصاني:
محام من مواليد لبنان، عمل في مؤسسة التمويل الدولية في مجموعة البنك الدولي كرئيس للدائرة القانونية المختصة بمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا. وكان قبل ذلك مديرا للإدارة القانونية في طيران الشرق الأوسط/الخطوط الجوية اللبنانية. كما عمل أيضا مديرا للإدارة القانونية للشركة العربية للإستثمار وأعضاؤها ستة عشر دولة عربية ومركزها الرياض. وكان قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة في سنة 1978 وإلى جانب عمله في المحاماة، استاذا محاضرا في كليتي الحقوق بالجامعة اللبنانية والجامعة العربية في بيروت. وله بعض المؤلفات في حقلي القانون والتنمية.
وسوم: العدد 666