إنه النظام وليس الوزير
تختلف مهمة الوزير – أيّ وزير – باختلاف النظام السياسي الذي يشتغل في إطاره ، فهو في الأنظمة الديمقراطية مسؤول لديه برنامج – ضمن برنامج الأغلبية الحاكمة - وأسلوب وشخصية ، بينما هو في الأنظمة الشمولية مجرد موظف يأتمر بأمر من نصّبوه وزيرا بغير استحقاق منه ولا كفاءة في أغلب الأحيان ، لا يفعل أكثر من تنفيذ أجندتهم السياسية ولو كانت فوقية لا علاقة لها باختيارات المجتمع ، وحتى لو ثبت فشلها بالتجربة.
هذه حقيقة راسخة تُريح الكُتاب والصحفيين والمواطنين من التعليقات والتحليلات لو هضموها واستيقنوها ، أما تحميل مسؤولية فشل مشروع أو مبادرة ما لوزير أو أكثر فهو جزء من الاستغباء الذي نعانيه نحن العرب حتى أصبح بعضنا خاضعا له تماما في قراءته للأحداث ، يتشبث بالعَرَض ويتجاهل أصل المرض.
عندما يصدر وزير التجارة مثلا قرارا بتيسير تبادل الخمور في السوق الوطنية فإنه منسجم مع المنظومة التي تسيّر نظام الحكم ، ولا غرابة في تصرفه لأن القوانين السارية تبيح إنتاج المسْكرات وتوزيعها واستهلاكها ، والسكْر في حال ارتكاب جريمة يُعدّ ظرفا مخففا للعقوبة لا مشددا لها !!! فلماذا يثور الناس على الوزير وليس على النظام ؟ وهل فعل ذلك الوزير " العلماني " سوى ما فعله زميله الاسلامي الذي تفادى التصريح لا يملك ما دام في هذا المنصب أي خيار آخر؟
وعندما يصرح وزير المالية أن المعاملات الربوية أمر طبيعي وتبرّمَ من إقحام مسألة الحلال والحرام في الموضوع فإن ذلك لا علاقة له بموقف شخصي لا يملكه أصلا في ظل النظام القائم إنما هو انسجام كامل مع منظومة الحكم والقيَم السارية التي لا تترك للدين سوى الضمير والمسجد وبعض الطقوس ، أما الربا فهو ليس ضرورة مفروضة إنما اختيار نابع من قناعة علمانية راسخة في عدم إقحام الدين والأخلاق في شؤون السياسة والاقتصاد والمال.
وعندما يوغل وزير- أو وزيرة - في تغريب المدرسة و المناهج التربوية فهذا ليس قرارا فرديا بل هو منحى يفرضه الانتماء للسلطة الحاكمة التي قامت أصلا على الانحياز للفكر الغربي والوصاية الفرنسية أو الانجليزية أو الأمريكية ، وتطبيقٌ لأجندة معروفة ، وما وصل إليه الأمر الآن ليس طفرة بل هو مرحلة كانت منتظرة منذ مدة طويلة ، وهو حلقة من حلقات " إصلاحات " التي ترمي إلى تجفيف منابع التديّن والسعي الحثيث لارتماء في المنظومة القيمية الغربية.
وعندما يستقبل وزير الشؤون الدينية راعي الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية المحلية – والراعي مواطن ارتدّ عن الاسلام - فهو لم يقترف بدعا من الأفعال بل هذا شيء طبيعي من صميم عمله لأن النظام يؤمن بتعدد الأديان ممّا يتيح للكنائس أن تُشيّد بكل حرية وفقا للقانون تحت وصاية وزارة الشؤون الدينية ( وليست الشؤون الاسلامية فحسب ) ، وما الوزير إذًا إلا منفّذ لمنهج سياسي مسطّر، كلّ مؤسسات الدواة مسخّرة لتطبيقه .
وممّا يمدّ في عمر الأنظمة الشمولية شغلها للرأي العام بالأشخاص بدل البرامج وبالهوامش حتى لا يلتفتوا إلى الجوهر واللبّ والصميم ، وصميم المشكلة هو النظام السياسي وليس هذا الوزير أو ذاك ، ولذلك ينبغي أن يتسلّح المثقفون بالوعي الكافي لفهم الأوضاع وتغييرها ويكفوا عن انتقاد وزير أو وزراء وكأنهم هم الذين يخطّطون ، وقد تأكد ألف مرة أن الوزراء يتغيّرون وتبقى السياسة التي تحكم قطاعاتهم ثابتة مهما رفضها الشعب ، بل جرّبت بعض البلاد وزراء من " المعارضة " ومن الاسلاميين بالضبط فما تغيّر شيء قيد نقير ولا قطمير ، لسبب بسيط هو أنهم يتحمّلون حقائب لتنفيذ سياسة مرسومة لا تتغيّر ثوابتها وهي العلمانية والمنهج التغريبي والأحادية الإيديولوجية ، بعيدا عن رغبات الشعب ، فلا عبرة لا بتأييده ولا برفضه لها ، وكم سمعنا أولئك الوزراء من " المعارضة " – وهم أناس طيبون مبتسمون – يؤكدون بمناسبة وبدون مناسبة أنهم أوفياء لما يسمون " برنامج الرئيس " وتوجيهات الملك السامية وتوصيات الأمير المفدّى ، نفس البرنامج الذي تنتقده أحزابهم بكل قوة !!!
إذا احتكمنا إلى مقاييس الحياة السياسية الحقيقية فإنه لا معنى لمنصب وزير عندنا لأنه لا معنى لأغلبية ولا معارضة في نظام شمولي هو كلّ شيء ، هو الأقوى والأقدر والأجمل والأبقى ، يكتفي بنفوذ الأقلية المتغلّبة ، يستغني بها عن القوة البرلمانية ، وفي تسعينيات القرن العشرين رجل جامعي كان قد تقلّد منصب وزير التعليم العالي أنه كان مجرد موظف لدى الجيش.
لن يحدث تغيير إيجابي من هذا الوزير أو ذاك حتى تكون هناك سلطة أفرزتها صناديق الانتخاب الشفافة تتبنى إرادة الشعب وتعبّر عن انتمائه وتخدم مصلحته، يراقبها برلمان تعدّدي تحكمه قواعد الديمقراطية لا الولاءات ولا " الكوطات " - أيّ النٍسَب المسطّرة مسبقا - ، يعبّر حقا عن مختلف شرائح المجتمع ، يومها فقط يمكن تحميل الوزير المسؤولية ومساءلته لأن أمامه بدائل كما أن له حرية الحركة والمبادرة ويتمتع حتما بالمؤهلات العلمية والأخلاقية المطلوبة لتسيير قطاعه الوزاري ، أمّا في واقعنا العربي الحاضر فلا عبرة بذهاب وزير ولا مجيء آخر ، بل لا معنى لوجود وزارة من " المعارضة " لأن القرارات لا تصدر من مقرّ الحكومة ولكن من القصر الملكي ...حتى في الأنظمة " الجمهورية " .
وسوم: العدد 676