أسئلة التنوير..بلا تغيير!
لم تتفق الأدبيات الغربية على بداية عصر التنوير، هل بدأ من منتصف القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر؟ أم إلى عصر ديكارت تزامنًا مع خطابه الذي نشر في 1637م؟ أم بدأ مع الثورة في بريطانيا عام 1688م؟ أو مع نشر اسحق نيوتن مبادئ الرياضيات الذي ظهر أول مرة عام 1687م؟ كذلك لم تتفق الآراء حول بداية عصر التنوير في مجتمعنا العربي أو المصري بشكلٍ خاص، فهناك من يرجع ببداية ظهور التنوير إلى بداية عصر الإسلام، ومنهم من يقصرها على انفتاح الدولة المصرية في مطلع القرن التاسع عشر بالتحديد على أوروبا وخاصة فرنسا وانجلترا.
ولا شك أن مقدم الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798م، وانبهار المصريين بجهود علماء تلك الحملة وما حملوه معهم من تقدم علمي، أعقبه تولي محمد علي حكم البلاد ومحاولته المستميتة من أجل بناء دولة حديثة على أساس اقتصادي سياسي وعسكري قوي، الأمر الذي دفعه إلى استقدام النظام التعليمي الغربي الحديث بكامله، ثم إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا وخاصة فرنسا، وماولده ذلك من ميلاد حركة التنوير في مصر وأشهر أقطابها: رفاعة رافع الطهطاوي، علي باشا مبارك، محمد عبده، مصطفى كامل.
بيد أن مجلة الهلال المصرية احتفلت بمرور مائة عام على صدورها في 1892م، وهي ذاتها السنوات المائة التي تعد بحق أهم سنوات التنوير في تاريخنا العربي الحديث، من وجهة نظرها، وقد عاودت قراءة منجزات هذه السنوات بطريقة تحليلية نقدية لها، غير أن الأمر الذي أدهش القائمون على الندوة التي كانت ستعقد في النصف الثاني من سبتمبر عام 1992م، وسوف يدعى إليها قادة الفكر من كل أنحاء العالم، وموضوعها: "نحو مائة عام جديدة من التنوير والتحديث"، أن أغلب الأسئلة التي فجرها رجال عصر النهضة منذ أواخر القرن التاسع عشر بوجه خاص، لا تزال في الجوهر نفس الأسئلة التي تحتدم بها الثقافة العربية في أيامنا هذه ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين، ونتساءل بحثًا عن تفسير ذلك:
كيف تظل نفس الأسئلة دون تغيير رغم ما تحقق في البلاد العربية عامة من تغيير وتحديث وتنوير بدرجات متفاوتة طوال هذه السنوات؟ هل معنى هذا أن التغيير والتحديث الذي تحقق هو تغيير وتحديث سطحي وبراني لا يمس جوهر الأوضاع العربية، وأن التنوير الذي انتشر هو تنوير محدود بحدود بعض النخب المتعلمة والمثقفة، ولم يبلغ الهياكل والجذور الشعبية والاجتماعية الأساسية؟
كيف لم تزل قضية مدنية الدولة أو دينية الدولة مثار خلافات فكرية وسياسية؟ كيف مازلنا نتعثر في قضية الوحدة العربية؟ كيف لم تزل الدعوة إلى الإصلاح الديني أو ما يسمى بتجديد الخطاب الديني في مرحلة الشعار لم ترتفع إلى مستوى المشروع المتكامل؟ لماذا لم تتحرك قضية التنمية الاقتصادية ـ الاجتماعية الشاملة، بل مفتقدة على الرغم من قيام ثورات ما يسمى بالربيع العربي؟ لماذا مازال الخلاف قائمًا في قضية العلاقة بين التراث والمعاصرة، والتقليد والتحديث، ووضع الحدود الفاصلة بين العقل والنقل وعلاقتهما ببعضهما؟
لاتزال العلاقة بين الأنا القومي والآخر الغربي موضع تفسيرات ومواقف مختلفة تتراوح بين الدعوة إلى الاندماج المطلق على حساب خصوصيتنا القومية، أو الرفض المطلق على أساس طائفي، ولا تزال قضايا الحرية والديمقراطية والاستنارة العقلية وحقوق الإنسان تعاني من أشكال مختلفة من القمع والتسلط، وقضايا المرأة التي لم تحسم بعد.
غير أن الأهم يتمثل بأن التنوير العربي قد وقع على أزماته، من دون أن يتحقق التنوير حقيقة، أي أننا نعاني من أزمات التنوير على الرغم من عدم وجود تنوير، فالذي نراه أمامنا ما هو إلا مظاهر التنوير التي أوجدتها السلطات المتحكمة بقيم المعرفة، أو العقل، والتي حولتها إلى المجالات الخاصة في حين تم نفي العناصر القادرة على إحداث التغيير. هل ثمة تنوير في العالم العربي؟ أم هل ثمة أسئلة تتعلق بالتنوير؟ كما يسأل الكاتب الفلسطيني الأردني رامي أبو شهاب في القدس العربي.
بينما تسأل الدكتورة منى أبو سنة في مجلة روز اليوسف القاهرية، عدة أسئلة أسردها بإيجاز: لماذا يغيب التنوير في البلاد العربية؟ إذا كانت شروط التنوير تتسم بالعالمية وتتجاوز ما هو محلي وخاص, لماذا تحققت فى أوروبا ولم تتحقق فى المجتمعات العربية؟ ماهى الإمكانات التى طرحت تاريخيا من أجل تأسيس حركة التنوير فى المجتمعات العربية, وكيف تم إجهاضها؟ وما هى طبيعة الأزمة المترتبة اليوم على هذا الإجهاض؟ هل تختلف طبيعة الوصاية ومن ثم الأوصياء فى المجتمعات الأوروبية عنها فى المجتمعات العربية؟
وأختم بإبداء دهشة الكاتبة غادة السمان حول مشاجرة (البوركيني)، وعلاقته بالتنوير الغربي المتقهقر أمام التنوير العربي المجهض، تقول: (وأتساءل بصوت فولتير: كيف أدافع عن حق بعضهن في ارتداء البكيني ولا أدافع عن حق أخريات في ارتداء البوركيني؟ وإذا كان من حق المرأة تعرية صدرها على الشواطئ في «المونوكيني» لماذا ليس من حقها ستر ما يحلو لها في البوركيني؟).
أكتب هذه الأسئلة ليجيب عنها المفكر العربي الموسوعي الدكتور محمد حسن كامل المقيم بباريس إقامة كاملة منذ ثمانينات القرن المنصرم، وذلك من خلال برنامجه "التنوير العربي في سماء التنوير" الذي ستبثه قناة "صوت النيل" ويقدمه الإعلامي القدير علاء ثابت، وأرجو أن يجعلوا من حلقاته نقطة انطلاق ثقافية نحو مائة عام جديدة من التنوير والتحديث، وأخشي أن تأتي أجيال بعدنا تصطدم بوجود تلك الأسئلة كما هي بلا تغيير.
وسوم: العدد 684