من «سايكس - بيكو» إلى «لافروف - ظريف - أوغلو»
استند اتفاق «الهدنة»، الذي رعته روسيا وتركيا في 29 الشهر الماضي، إلى إعلان موسكو الثلاثي الصادر عن هاتين الدولتين ومعهما إيران قبل ذاك بأيام ثلاثة. لم يكن ذلك الاتفاق، إذاً، ثنائياً محضاً على رغم أن إيران لم تشارك في المفاوضات المكثفة التي سبقته بين روسيا وفصائل سورية مسلحة. لكنها كانت على علم بما دار فيها، فضلاً عن أنها طرف رئيسي في إعلان موسكو الثلاثي، الذي يعبر عن أن أطرافه الثلاثة هي الأكثر تأثيراً ولو بدرجات متفاوتة على الأوضاع في سورية اليوم.
وقد نتج هذا الواقع lن غياب، أو تغييب، قوى دولية وإقليمية أخرى كان لبعضها حضور ملموس في مسار الأزمة السورية سابقاً. لذلك تتجه الدول الثلاث إلى خلق تفاهمات تتيح لكل منها فرصة لتحقيق أهدافها في سورية، والمنطقة عموماً. وهذا هو جوهر المصلحة المشتركة التي باتت تجمعها، على رغم أن الخلافات بينها كثيرة، وبعضها عميق.
وستكون الأسابيع المقبلة اختباراً لمدى قدرة الدول الثلاث على تغليب هذه المصلحة بما قد يتيح لها التحكم فعلياً في مسار الأزمة، إذا تفاهمت على توزيع النفوذ بينها، وتوصلت إلى تفاهمات مع قوى دولية وإقليمية أخرى تحصل بموجبها على مقادير أقل من النفوذ في بعض المناطق شمال سورية وجنوبها.
وإذا مضت الأمور في هذا الاتجاه، وواصلت روسيا نهجها الذي اختلف تكتيكياً منذ الحسم العسكري في حلب، وحذت إيران حذوها في السعي لضمان مصالحها عبر وسائل سياسية أكثر منها عسكرية، وظلت الدول العربية غائبة أو مغيبة بفعل تشتت مواقفها، قد تشهد الأزمة للمرة الأولى منذ ست سنوات بداية تحول استراتيجي لا تقتصر آثاره عليها.
وعندئذ قد يؤدي إعلان موسكو الثلاثي بين سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف ومولود أوغلو وظيفة تاريخية من النوع الذي أداه اتفاق وزيري الخارجية البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو قبل قرن كامل في ظروف مختلفة كلياً، وفي زمن آخر تماماً.
وقد يسجل التاريخ لاحقاً أنه في العام الذي انشغل كثير من العرب باستعادة بكائيات اتفاق «سايكس-بيكو» في ذكراه المئوية، وجعلوه منصة يشكون عليها زمانهم، كانت الأحداث الجارية في سورية، وبدرجة ما في العراق وليبيا، تتجه صوب تفاهمات تُعيد تقسيم بعض بلادهم، ولكن إلى مناطق نفوذ، وليس بالضرورة إلى دول مستقلة في المدى المنظور. وربما تكون هذه التفاهمات بداية مرحلة جديدة تتبلور معالمها تدريجاً بغض النظر عن صمود اتفاق وقف النار والتقدم صوب مفاوضات من عدمه، لأنها ترتبط أساساً بقدرة موسكو وأنقرة وطهران على مواصلة التشاور والسعي إلى توسيع نطاق المصلحة المشتركة التي تجمعها، والبحث عن سبل لاحتواء خلافاتها ومنع تفاقمها.
وقد تستغرق هذه العملية التاريخية سنوات كما حدث قبل قرن، إذ كان «سايكس-بيكو» مجرد فاتحة لاتفاقات توالت في سان ريمو وسيفر ولوزان حتى 1924، ولم تمنع الخلافات البريطانية-الفرنسية التي كانت واسعة وعميقة أيضاً من دون إكمالها.
ولا يعني ذلك أن التاريخ يكرر نفسه، لأن تداعيات التفاهمات الروسية-التركية-الإيرانية على مستقبل العرب ستختلف عن تلك التي ترتبت على ما حل بهم بموجب ترتيبات وضعت بريطانيا وفرنسا أساسها قبل قرن.
فقد بدأت شعوب عربية تتحرك مثقلة بتخلف في ثقافاتها المجتمعية، وانخفاض في مستويات وعيها. ولكن انتقالها من السكون إلى الحركة سيغير المعادلات السياسية في المنطقة تدريجاً، على رغم أن بداية هذا الانتقال تُنتج آثاراً سلبية وبعضها مأسوي.
لذلك فالأرجح أن لا يبقى العرب خارج التاريخ لمدة قرن كامل آخر، كما حدث خلال القرن الذي مضى منذ بداية التفاهمات البريطانية-الفرنسية في 1916. فقد بقي العرب طول هذا القرن، الذي تغير العالم فيه جذرياً، غارقين في تخلفهم التاريخي، ومستهلكين للتكنولوجيا التي ابتكرها غيرهم، ومستثنين من التحولات الديموقراطية التي حدثت خلاله. وعندما حاولت شعوب عربية أن تشق طريقاً جديداً يفتح لها ثغرة إلى المستقبل في مطلع العقد الجاري، تكالبت عليها القوى المضادة للتقدم، والمسلحة بتراكمات التخلف التاريخي، وصراعاته، وثقافته البدائية. وهي نفسها القوى التي تتحمل مسؤولية استمرار مصير العرب في أيدي غيرهم حتى اليوم، مثلما كان الحال قبل قرن عندما فرضت هزيمة الدولة العثمانية تحديد قوى دولية مستقبل بعض بلدانهم عبر مفاوضات ومؤتمرات بدأت باتفاق سايكس-بيكو.
ولذلك يظل استذكار هذا الاتفاق جائزاً على رغم اختلافه عن الإعلان الروسي-التركي-الإيراني. فالعرب غائبون، أو مُغَّيبون، عما يجري فيما تظهر الملامح الأولية لتقسيم الجزء الأكبر من سورية إلى مناطق نفوذ لقوى دولية وإقليمية. وعلى رغم أن الأوضاع ما زالت سائلة، تسهل ملاحظة منطقة نفوذ لروسيا في الساحل حيث توجد قاعدتان جوية وبحرية، وأخرى لتركيا في الشمال من جرابلس إلى ريف حلب وصولاً إلى مدينة الباب، لإقامة سد منيع أمام الحلم الكردي. أما مناطق النفوذ الإيراني الأكثر سيولة فهي الأوسع، لكن أهمها تلك التي تدخل ضمن مشروع الربط بين طهران وبيروت. وهناك منطقة رابعة في الشمال تسيطر عليها «قوات سورية الديموقراطية» ويواصل فيها الأكراد حلمهم الذي يظل رهناً بمعادلات النفوذ الجديدة. ويمكن أن تمارس الولايات المتحدة نفوذها انطلاقاً من هذه المنطقة، إلى جانب أخرى جنوباً توجد فيها فصائل «غرفة العمليات العسكرية».
لكن خريطة مناطق النفوذ ستظل سائلة ومرتبطة بتفاعلات سياسية ومسلحة ستستمر لفترة غير قصيرة، وستتأثر بنتائج معارك ضارية ستتواصل حتى في حال التوجه نحو مفاوضات هنا أو هناك، وستكون أشد ضراوة اذا تعذر التفاوض أو فشل مجدداً قبل أن يبدأ.
وهكذا يمكن إعلان لافروف – جواد – أوغلو أن يؤسس لتفاهمات قد تكون هشة، لكنها قابلة للتوسع مع التطور المتوقع في علاقات موسكو وواشنطن عقب تولي دونالد ترامب الرئاسة رسمياً يوم الجمعة المقبل. وستقود التفاهمات الموسعة المتوقعة إلى اتفاقات جديدة انطلاقاً من ذلك الإعلان، وتطويراً له في اتجاهات مختلفة، إلى أن تتضح ملامح خريطة سورية المقبلة، بالتوازي مع تبلور معالم التغير المحتمل في الخريطة العراقية، في ضوء صراعات داخلية وإقليمية عنيفة ستعقب تحرير الموصل من «داعش».
*رئيس تحرير مجلة "السياسة الدولية".
وسوم: العدد 703