تركيا.. بين الإسلام والعلمانية

على ثرى الأوطان

في فترة أزمة الثمانين, خرجت وقريب لي رحمه الله..في رحلة إلى تركيا.. هبطنا مدينة حلب ومن ثم إلى الحدود عبر باب الهوى فوصلنا أنطاكية ليلاً فبتنا هناك في نزل عام, وجرت عادتي أن أرتدي ثوباً فضفاضاً ( الجلابية ) أثناء الراحة وكانت.. تفصيلاً لدى خياط متخصص وعلى ياقتها وصدرها تطريز ما يسمى( بالخرج ) فأعجب بها عامل بالفندق وأخذ يجري يده عليها.

في الصباح التالي نزلنا نتجول في شوارع المدينة, وأنا بلباسي العربي, وكلما مررنا أمام محال تجارية ينادونا من داخل المحل أو الحانوت بعبارة:

- تفضْلوا ساكنة الضاد؟

بعدما أخذنا فطورنا عبرنا ساحة أحد المساجد وتلك الساحة كأنها طريق له بابان تفضي إلى شارعين متوازين يكثر فيها عابروا السبيل.

تتوسطها بحيرة ماء دائرية.. على محيطها صنابير ماء, كل منا توضأ هناك, وإذا برجل يأتي ويسلم علينا وهو يرتدي بدلة رسمية, ثم بادرني بعد السلام بقوله:

-        هذا اللباس ممنوع هنا في تركيا.

-        ممنوع؟!!

-        نعم.. ومن يلبسه يدخل السجن. تأخذه الشرطة على الفور.

-        ما أحد قال لي شيئاً...

-        أنت عارفينك.. أنك عربي لذلك تركوك, لوأن مواطناً تركياً لبسه.. مالبث دقيقة واحدة هاهنا.

-        الله أكبر.. لهذا الحد.

-        نعم.. نعم.

ثم أخرج الرجل محفظة فيها صوراً له وراح يرينا إياها, وبلحية سوداء وعمة على رأسه بيضاء إلى غير ذلك.

سألته: أين ومتى تصورت هذه الصور... هل كنت تدرس في الأزهر؟

-        لا.. هنا في مدرسة شرعية.

أردف قائلاً:

-        للعلم.. أنا خطيب مسجد. سآخذكما معي.. إلى المسجد الذي أعمل به إماماً وخطيباً.. لي فيه غرفة خاصة أيضاً.

-        أما اللغة فإن الرجل يجيد التحدث بالعربية الفصحى, وأما اليوم فكان يوم جمعة.

*   *   *

استضافنا الرجل في غرفة المسجد.. تجاذبنا أطراف الحديث مع الضيافة, أخيراً قال أنه لم يُحضّر خطبة الجمعة, سيبحث عمن يوكله بها.. لكن عندما انطلقنا إلى حرم المسجد كأنه لم يجد أحداً فخطب هو بالتركية.. أما الآيات القرآنية فيتلوها بالعربية.

بعد انقضاء الصلاة دعانا لنذهب معه إلى البيت لكننا اعتذرنا لنذهب إلى اسكندرونة حيث معنا عنوان لشخص قريب لأحد المعارف من الأتراك القدامى في الشام.. هناك جلسنا معه ساعة وأبلغناه سلام قريبه ثم اعتذرنا لننطلق نحو الشمال فنحن في رحلة أو جولة استطلاعية ترويحية.

انطلقنا بداية إلى مدينة – قونية- الأبية الصامدة, إنها مدينة نجم الدين أربكان.. المدينة المحافظة على دينها وتقاليدها, وهي التي استعصت على.. كمال أتاتورك.

وقد جرت عادة هذا المجرم اللئيم.. أن يأخذ من كل مدينة فتاة ويتزوجها بعد إخراجها من خدرها وتطليق دينها وحجابها, إلا أن هذه المدينة رفضت إعطاءه إحدى بناتها, فغضب عليها وحقد على أهلها.. فضرب عليها طوقاً حديدياً وحرمها من كل الخدمات وعامة مقومات الحياة.

لقد خسر أهل قونية أشياء كثيرة بسبب موقفهم من ذلك الحاكم المتسلط.. لكنهم ربحوا كرامتهم وفازوا بالحفاظ على دينهم وصون نسائهم.

بعد انتهاء الرحلة والعودة إلى أرض الوطن الأم.. كتبت قصة عن تلك المدينة.. لكنها على مر الزمان ذهبت أوراقها مع الريح.. أو رياح النسيان.

*   *   *

في تلك الفترة كان انقلاب- كنعان إيفرين- قد أمسك فيه العسكريون الانقلابيون على زمام الأمور.. ثم نصب نفسه رئيساً للبلد كما جرت عادة الانقلابيين.

زج بالبرفسور نجم الدين أربكان المعلم وأركان حزبه – السلامة- في غياهب السجون, وهو يمثل الخط الأسلامي النموذجي في تركيا.

غادرنا تلك المدينة, انطلقنا نحو الشمال فقطعنا جبال طوروس والعديد من المدن حتى استقر بنا الحال في المدينة الكبرى استانبول.

هناك وجدنا أنهم يحتفلون  في تلك الفترة بمرور كذا عام على ميلاد أو موت أتاتورك مصطفى كمال الذي دمر البلاد وأهان العباد, فهو مازال يحكم تركيا من قبره بقوانينه الجائرة.

ولما تزل آثار حكمه مسيطرة في كثير من المجالات, وكان الرعب قد داخل القلوب, وبدت علائمه على أحوال الناس.. الحجاب ممنوع وغطاء الرأس جريمة يعاقب عليها قانونه.. المدارس والجامعات نائية عنهما, حتى الشوارب لم أرها في وجوه العسكريين, وكبار السن ما برحوا يغطون رؤوسهم ببرنيطة تشبه إلى حد كبير أو تكون هي ذاتها طاقية الرأس الأرمينية.

استانبول مدينة عريقة وكبيرة يخترقها البحر ويقسم إلى شقين هناك تكثر الأسماك ويمتد الشواء على طول الشاطئ, يصل بين الشقين الجسر المعلق.. جزء أسيوي والآخر أوروبي أي في أوروبا, كذلك تنقسم المدينة في العادات والأخلاق  إلى طابورين أو طودين.. أحدهما إباحي متفلت والآخر متدين محافظ.. تلك هي منطقة الفاتح الآمنة المؤمنة.. وفيها مسجد الفاتح وغيره.

ذات يوم صلينا العصر جماعة فيه ثم قعدنا.. هو مسجد كبير.. بسم الله ما شاء الله تبارك الله.

وقد خف الناس منه فاستلقيت قليلاً.. فجاءني رجلان من وجه المحراب أحدهما يلبس جلباباً وعمة والآخر بدلة أو ما شابه لكنه توج رأسه (بالطاقية) قلنسوة البيضاء.. بادرني الرجل والذي عرفناه فيما بعد أنه إمام المسجد قائلاً:

-        السلام عليكم.. قم انهض.. قبل أن يراك أحد.

-        اعتدلت جالساً:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وإن رآني أحد.. ماذا يعني؟؟

-        ممنوع.

-        ولماذا.. ممنوع!!

-        هكذا القانون.

-        وأي قانون هذا.. إنه بيت الله.

قال بعد أن افترشا الأرض:

-        ذلك في بلادكم.. أما هنا عندنا فالأمر مختلف.

قال صاحبي: ياسبحان الله.. قانون أعوج.

-        حضرتك إمام المسجد؟

-        نعم.

-        والأخ؟

-        صديقي.. طالب علم.

نظرت إليه ملياً.. فشاهدت في محياه علائم الخير والطيب:

-        عندي سؤال.. هل تجيبني بلا حرج؟

-        تفضل إسأل.. أي شيء تريد.

-        حضرتك إمام المسجد وقد صليت فينا جزاك الله خيراً وتقبل منك.

-        منا ومنكم.

-        هذا اللباس.. أتخرج به إلى الشارع؟

-        كلا.

-        إذن ماذا؟

-        أنا لي غرفة هناك.

وأشار إلى أقصى المسجد:

-        وعندما يحين وقت الصلاة آتي إلى المسجد فأعبر الحجرة ثم أرتدي هذه الثياب وأظل بها طالما أني في المسجد.

-        وإن فعلت غير ذلك.. عكسه؟

-        أعاقب على ذلك الفعل.

-        الله أكبر.. كان الله في عونكم.. وفرج عنكم.

تبادلنا الأحاديث التي شارك بها رفيقي وكذلك صاحبه, إلى أن قال خلال الحوار سائلاً عن ما بدر ساعتها في ذهنه:

-        كيف.. حافظ الأسد عندكم؟

أجبته ببداهة مطلقة:

-        مثل أتاتورك عندكم.

ومع أنه لا يوجد أحد في المسجد سوانا.. والمسجد كما أسلفت جامع مترامي الأطراف. غير أن الأخوان صاحا وبسرعة وكأنما ركبهما الفزع:

-        ياواش ياواش.. ياواش ياواش.

ومعنى ذلك بالعامية عندنا- شوي شوي- أو اخفض صوتك.

ضحكت ملياً أو تضاحكت كما شاركني صاحبي في ذلك ثم قلت:

-        وما في ذلك؟.. أنا قلت الحقيقة ولم أشتم أحداً.

- لكن.. لئن سمعك أحد.. فمشكلة.

-لا مشكلة ولا حاجة.. لا يوجد من يسمعنا.. إن هذا يفعل في بلدنا مثلما فعل ذاك في بلدكم.. على نفس الخطى, هي مدرسة واحدة.

افترقنا بعد وداع على أمل لقاء, وبقينا على مقربة من المكان إلى أن جاء الغروب وحان وقت صلاة المغرب فارتدنا مسجداً آخر لتأدية الفريضة فيه.

هناك وجدت شيئاً عجباً.. أفواج من الشباب يدخلون المسجد وكل واحد يخرج من جيبه قلنسوة بيضاء ( طاقية الحجاج) فيلبسها رأسه.. حتى أنك ترى المسجد غاصاً بالناس ورؤوسهم كلها بيضاء ناصعة, وكأنها فرصة للبس هذه القلنسوة التي صارت وكأنها رمز ديني عند الأتراك.

هذا ما فعله ذلك المجرم اللئيم في تلك البلاد التي كانت فيها عاصمة الخلافة الإسلامية في فترة من الزمن.

في الوقت التي عادت المساجد ففتحت أبوابها بعد إغلاق طويل ،وعادت العربية لغة القرآن تتلى في المساجد بعد منع لها, كل ما يمت إلى الإسلام بصلة ممنوع حتى لو كان نسمة هواء أو رائحة طيب, ليقصي الإسلام بعيداً عن حياة الأمة.. مخطط يهودي صهيوني نُفذ وترك آثاره طويلاً.

وقد أخذ يتبدد حالياً.. ويعود الإسلام إلى واقع الناس..

ولله الحمد.

وسوم: العدد 704