مراجعات(10) النخب السورية و سياسة الهرولة إلى الأمام
كانت الانقلابات الأربعة، التي وقعت في سورية مابين عامي 1949 و 1954م، قد تمخضت عمّا سمي في حينه بـ( تجمع القوى الوطنية) و عن وصول ما سمّي بـ(مجلس القيادة العسكرية) إلى قيادة الجيش و القوات المسلحة؛ و هو الذي كانت تفتقر إليه ، وقد قوى من أمر ذلك المجلس عاملان:
العامل الأول تمثل بعدد غير قليل من ( الضباط الشباب ) و ( من صغار الرتب)؛ و من ( القوميين و البعثيين ) – تحديدا - الذين شكلوا عاملا مساعدا لمجلس القيادة العسكرية وقد أصبحوا - في ذلك الوقت – بمثابة صمام الأمان للجيش و القوات المسلحة؛ بعد أن كان عرضة للانقلاب و بشكل دائم.
العامل الثاني تمثل بسيطرة المكون السني على الجيش و القوات المسلحة: و هذه الظاهرة يمكن ملاحظتها بدقة؛ وقد أصبح للضباط السنة فاعليتهم، بعد أن رأسوا القيادات العليا؛ و منها الأركان العامة. وهذا الوضع كان بمثابة الظاهرة المستجدة، و بسببه استطاع أولئك الضباط التحرك باتجاه مصر، من أجل مباحثات الوحدة، و النظر في تسليح الجيش، و قد كان ذلك مع مطلع العام 1957م.
وقد أوجب الوضع المستجد في سورية بعامة إعادة نظر في القوانين النافذة، و منها قوانين غورو، و القوانين التي أصدرها الإنقلابيون، و أكثرها مخلة بموجبات العمل الوطني، و بالمصلحة الوطنية العليا، وفضلا عن ذلك فهي ماسة بالوطنية السورية التي أرادت قوانين غورو إضعافها و تهميشها. وقد توخى واضعها يومئذ أن تكون السيطرة فيها للأقليات. و تجاه ذلك كان على مجلس القيادة، و قبل أن ينفض من اجتماعه الأول؛ أن يتخذ عددا من القرارات، من أجل:
الحيلولة دون سيطرة عناصر من الأقليات على قياداته. الحيلولة دون تسرب الطائفية السياسية إلى صفوف أفراده. الحيلولة دون ارتهانه للخارج، أو جعل الخارج هو الذي يتحكم فيه. الحيلولة بينه و بين تسلل العناصر الوصولية و الانتهازية إليه ممن تشغلهم وصوليتهم، و انتهازيتهم عن أداء واجبهم الوطني.
وهذه المعلومة – وهي غاية في الأهمية – كانت تتطلب من الوطنيين السوريين الذين أصبحوا مسؤولين العمل على:
تنظيف الجيش و القوات المسلحة، من الوصوليين و الانتهازيين و أصحاب الأحلام المريضة. ممن أتاحت لهم قوانين غورو فرصة الانتساب إلى الجيش، في وقت سابق، بالرغم من عدم كفاءتهم، و عدم التزامهم بالثوابت الوطنية، التي تعد بالنسبة للجميع قاسما مشتركا أعظم. إلغاء ( قوانين غورو ) التي تنص على أفضلية أبناء الأقليات بالانتساب للجيش، و منهم: العلويون تحديدا، و استبدالها بقوانين جديدة، تحول دون سيطرة الأقليات ، و جعل الانتساب للجيش حقا مكتسبا للمواطنين جميعا؛ لاينفرد به مكون دون آخر. إعادة هيكلة الجيش و القوات المسلحة، بإخضاعه للقوانين الناظمة، التي تحدد نسبة المشاركة فيه تبعا للنسبة السكانية لكل مكون، و عدم السماح لمكون لوحده أن يستغل الجيش ، دون سواه من المكونات الأخرى.
لكن ذلك لم يحدث!! فلا الإجراءات نظر إليها أنها بمثابة مايجب فعله، و لا الارتقاء بالمسؤولية و العمل بمايمليه الواجب كان مقدما!! بل أمضوا أربع سنوات من الزمن وهم يراوحون مكانهم،دون أن يلتفتوا إلى المعضلة الرئيسة التي يعاني منها الجيش و القوات المسلحة، و التي تتمثل بالطائفية منهجا و مسلكا، وقد أصبحت مما يتحدث عنها العامة و الخاصة!! و بالرغم من أن هذه الحقبة القصيرة شهدت مصرع اثنين من الضباط القادة ( عدنان المالكي و غسان جديد ) و كل منهما احترق بنار الطائفية!! إلا أن الطائفية ظلت مشروعا قائما في الجيش و القوات المسلحة، و ظل تجمع القوى الوطنية و من بعده مجلس القيادة في معزل عن التفكير بالخلاص منها. و كل الذي حدث: أنهم انطلقوا (هرولة) باتجاه مصر قصد تحقيق الوحدة معها، ضاربين عرض الحائط بمايجب أن يفعلوه أولا، وقد تيبست أفكارهم عند حدود تصرفاتهم اللامسؤولة و التي كان عليها أولا:
أن ترتب أمر الجيش و القوات المسلحة. أن تتيح الفرصة للسلطة التنفيذية الممثلة بـ(رئاسة الجمهورية و الوزارة) أن تهيء الأجواء المناسبة من أجل الوحدة، و لـ( السلطة التشريعية ) أن تناقش المسألة داخل أروقة البرلمان، و أن تستمزج الأراء، و أن ترى الرأي المشترك في مشروع الوحدة؛ لا أن تأتي و على ( الصورة التي حدثت ) اعتباطية ، و حزبية، بدلا من أن تكون محكمة البناء و وطيدة. وهذا الأمر كان له مابعده وقد عدم العمل الجاد و الملتزم، و الذي يضع نصب عينيه الوطن و مصلحته العليا.
وقد كان الذي حدث؛ أن استقلّ الطائرة في 14 كانون ثاني من سنة 1958، و بشكل مستعجل وربما قسري، كل من اللواء عفيف البزرة رئيس أركان الجيش ، و الذي نشر بعد كتابا له أسماه ( الناصرية من جملة الاستعمار الحديث ) و كل من العقيد أحمد عبد الكريم، و العقيد عبد الحميد السراج، و العقيد مصطفى حمدون و هؤلاء الثلاثة من معاوني رئيس الأركان، يضاف إليهم العقيد أمين النفوري الذي كلّف بمهمة إبلاغ السيد رئيس الجمهورية بمذكرة ضباط الأركان حول مسألة ذهابهم إلى مصر، وذلك قصد وضعه أمام الأمر الواقع. ولم يعد الضباط الأربعة من مصر إلا بعد أن وقعوا اتفاقية الوحدة مع جمال عبد الناصر وذلك في (22 كانون الثاني من سنة 1958م.) و دون الرجوع لرئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو رئيس البرلمان!! وقد أجبر بعدها السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية على ركوب الطائرة و الذهاب إلى مصر للتوقيع على اتفاقية الوحدة، وذلك في 31 كانون الثاني من سنة 1958م وقد اتفق بعدها أن يكون يوم 22 شباط من سنة 1958م اليوم الأول من إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة، و عاصمتها القاهرة، و بزعامة جمال عبد الناصر!
و الملاحظة التي يجب أن تثار أولا بسبب الاتفاقية؛ أن الثلة التي ذهبت إلى مصر دون إذن رئيس الجمهورية، و التي وقعت على اتفاقية الوحدة بشكل مستعجل، و من ثم قبلت إملاءات عبد الناصر، و التي تمثلت:
بـ( حل الأحزاب السياسية )
و( تعطيل الحياة الديمقراطية )
و( تقييد الحريات العامة )
و( التسليم جدلا بزعامة جمال عبد الناصر )
و( القبول بما يتعارض مع مبادئها الحزبية )
وهذه ( الإملاءات ) ويمكن أن تدرس من جانبين:
الجانب الأول – يتمثل بنموذج ( الحاكم الفرد )؛ فجمال عبد الناصر، و أديب الشيشكلي؛ كلاهما نموذج للحاكم الفرد، الذي تتحكم إرادته بإرادة الجماعة، و الذي جاء على ظهر دبابة إلى القصر الجمهوري، و الذي عطل الحياة الديمقراطية في بلده. و من اختلف مع الأول سيختلف مع الثاني وهذا يعني أنهم أدخلوا أنفسهم في عنق زجاجة، و أنهم ورطوا بلدهم فيما هم في غنى عنه؛ سيما في مثل هذه الظروف الحرجة، التي تمر بها سورية في مرحلة مابعد الاستقلال. فترتيب البيت الداخلي في مثل هذه الحالة مقدم على أية ترتيبات أخرى.
الجانب الثاني – يتعلق بنموذج ( العقلية الحزبية ) التي كانوا عليها، وقد كانوا محكومين بنظريتهم الانقلابية، التي ستجرهم إلى الانقلاب على الآخر، و إلى التغيير بالقوة، و هذا ما لاتتحمله دولة ناشئة في حجم الجمهورية العربية المتحدة، سيما أنهم سلموا للحاكم الفرد زمامهم، و ألقوا بأنفسهم بين يديه؛ بالرغم مماعرفوا به من مشاكسة!! و المعروف أن النظرية الانقلابية التي تضمنها دستور الحزب، كانت لاتقبل الجدل. ولذلك ورطوا أنفسهم في هذه المسألة؛ فهم بعد أن كانوا قد أصبحوا قاب قوسين من زعامة العمل السياسي في بلادهم، انسحبوا إلى خلف. وقد كان ذلك بمثابة بداية النهاية لطموحاتهم السياسية التي كانت توصف من قبل بأنها غير محدودة.
و من ناحية تقويمية:
كانت سياساتهم الانقلابية تبدو و (ككثبان الربع الخالي) متحركة و بشكل عاصف، و كانت تحول بينهم و بين الآخرين؛ من مد جسور العلاقة إليهم، أو استيعابهم في منظومة واحدة، من العمل المشترك.
و تتمثل صورة ذلك:
في كونهم ممن ساندوا (الشيشكلي) ووقفوا معه، ثم تمردوا عليه و ثاروا ضده، ثم هرولوا مجتمعين إلى (عبد الناصر) و ألقوا بالبلد في أحضانه، ثم تمردوا عليه!! وقد كانت رحلتهم (من و إلى) بمثابة دراما مآساوية؛ بدأت منذ اليوم الأول الذي ولدت فيه، و لم تنته بعد!!!
و كإطلالة على الحدث:
لقد كان حدث الوحدة من وجهة نظر السوريين مقدسا، و ذلك لسببين رئيسين:
السبب الأول (ديني) فهو يتعلق بالعقيدة الإسلامية التي تحتم على المسلمين أن يكونوا جميعا، و ألا يتفرقوا.
السبب الثاني (تاريخي) فالشعب الذي ماعرف الانفصال سيما بالنسبة لـ(سوريا و مصر) كان أكثر تقبلا للوحدة، و أكثر إيمانا بها، و هذا هو الذي جعل الشعبين السوري و المصري يقبلان عليها، و يتقبلانها، بالرغم من كل ما أثير حولها من إشكالات تتعلق بالفرد و بنزواته و طموحاته!
وقد كان من نتيجة ذلك:
أن الوضع الذي استجد بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة – قد نبه الأعداء الخارجيين إلى مخاطر ذلك على مصالحهم الدولية، فناصبوها العداء و عملوا على إجهاضها. (وهو الأهم) قد نبه الطائفيين إلى مخاطر الوحدة على طائفيتهم، فعملوا من أجل الانفصال منذ اليوم الأول لقيامها وقد تمثل ذلك بما سمّي في حينه بـ( اللجنة العسكرية) التي ضمت كلا من (محمد عمران و صلاح جديد و حافظ الأسد). و كل من هؤلاء كان من أعلام الطائفية و ممن يعملون من أجلها؛ على وفق مخطط مدروس. إن عدم انسجام العسكريين الذين وقعوا اتفاقية الوحدة مع جمال عبد الناصر قد قادهم إلى الخلاف معه، و هذا بدوره قاد إلى نقض (اتفاقية الوحدة) التي لم تدم طويلا!! و كانت قد بدأت في 22/2/1958، و انتهت في 28/9/1961م.
أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى
رئيس وحدة الدراسات السورية
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 751