العراق والحرية الاقتصادية: المفارقة والأسباب والحلول
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
تعد الحرية الاقتصادية من حيث الأصل من المبادئ المهمة في النظام الرأسمالي والاقتصاد الإسلامي، بصرف النظر عن الاستثناءات والضوابط، التي تحد منها، فالحرية الاقتصادية هي حرية في كل المجالات الاقتصادية دون قيد أو شرط إلا ما يضر بالمصالح العامة.
تعنى الحرية الاقتصادية في مفهومها العريض حماية حقوق الملكية الخاصة للأصول وتوفير مجالات لحرية الاختيار الاقتصادي للأفراد وتعزيز روح المبادرة والإبداع ومدى تدخل الحكومة في عمليات الإنتاج والتوزيع الاستهلاك للسلع والخدمات، ما عدا مستلزمات حماية المصلحة العامة.
وتكمن أهمية التعرف على وضع الدول في مؤشر الحرية الاقتصادية في كونه يساهم في إعطاء صورة عامة عن مناخ الاستثمار في القطر، لأنه يأخذ بعين الاعتبار التطورات المتعلقة بالمعوقات الإدارية والبيروقراطية ووجود عوائق للتجارة ومدى سيادة القانون وقوانين العمالة وخلافه..
فمؤشر الحرية الاقتصادية هو المؤشر الذي يقيس مدى تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي والتأثير عليه ومدى سيطرتها على ذلك النشاط، فكلما يكون تدخل الحكومة أكبر وسيطرتها أوسع كلما يعني ذلك إن الحرية الاقتصادية أقل وتكون أكبر كلما يكون تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي أقل وسيطرتها عليه أصغر.
مقاييس الحرية الاقتصادية وعناصرها
يتم قياس الحرية الاقتصادية على أساس اثنا عشر عاملاً، مُقسمةً على أربعة مقاييس رئيسية وهي سيادة القانون، حجم الحكومة، الكفاءة التنظيمية وانفتاح الأسواق[i]، ويمكن توضيح تلك العناصر بناء على هذه المقاييس الرئيسية وكما يأتي:
أولا: مقياس سيادة القانون، ويضم ثلاثة عناصر تتمثل بحقوق الملكية، النزاهة الحكومية، الفعالية القضائية.
ثانياً: مقياس حجم الحكومة، ويضم ثلاثة عناصر تتمثل بالإنفاق الحكومي، العبء الضريبي والصحة المالية (غياب الاختلال المالي أي تحقق التوازن المالي في موازنة الدولة).
ثالثاً: مقياس الكفاءة التنظيمية، ويضم ثلاثة عناصر تتمثل بحرية الأعمال، حرية العمل والحرية
النقدية.
رابعاً: مقياس انفتاح الأسواق وتضم ثلاثة عناصر تتمثل بحرية التجارة، حرية الاستثمار والحرية المالية.
ويتم حساب الدرجة النهائية للحرية الاقتصادية في بلد ما من خلال إعطاء وزن متساوٍ لكل من هذه العناصر المكونة للمقاييس أعلاه، ومن ثم نجمعها فنحصل النتيجة، وتتراوح الدرجة النهائية بين صفر و100، ولتوضيح مدى تمتع أو حرمان ذلك البلد من الحرية الاقتصادية لابد من اللجوء إلى تصنيفات الحرية الاقتصادية ونسبها وكما موضحة في الفقرة أدناه.
تصنيفات الحرية الاقتصادية ونسبها
هناك خمسة أصناف للحرية الاقتصادية حسب ما أوضحها موقع مؤشر الحرية الاقتصادية وهي:
الصنف الأول: حرية اقتصادية كاملة وتتراوح نسبتها ما بين 80-100
الصنف الثاني: حرية اقتصادية كبيرة تتراوح نسبتها ما بين 70-79.9
الصنف الثالث: حرية اقتصادية معتدلة تتراوح نسبتها ما بين 60-69.9
الصنف الرابع: حرية اقتصادية ضعيفة تتراوح نسبتها ما بين 50-59.9
الصنف الخامس: حرية اقتصادية مكبوتة تتراوح نسبتها ما بين 0-49.9
وان البلد الذي تكون قيمة مؤشر حريته الاقتصادية أقل من الصفر يستبعد من التصنيف أي لم يدخل ضمن تصنيفات مؤشر الحرية الاقتصادية التي تصدر.
الحرية الاقتصادية في العراق
على الرغم من تحول العراق بعد عام 2003 نحو الانفتاح والعمل على إصلاح اقتصاده والاتجاه به نحو اقتصاد السوق والاستثمار حسب ما أشار إليه دستور عام 2005 في "المادة 112 ثانياً-تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي، معتمدة أحدث مبادئ اقتصاد السوق وتشجيع الاستثمار"، إلا أنه لا يزال لم يحقق الحرية الاقتصادية بالشكل الحقيقي الذي يكفل بناء مناخ استثماري مشجع للقطاع الخاص وتنمية روح الإبداع والابتكار بناءً على مبدأ تكافؤ الفرص، حيث لا تزال الدولة قائمة على الريع النفطي وهذا ما انسحب بشكل تلقائي على المجتمع فأصبح هو الآخر مجتمع ريعي، يعتمد على الحكومة في غذاءه ومسكنه ومشربه، دون أن يبذل مجهودا.
ولا يمكن أن يتحقق ويسير اقتصاد السوق -الذي يعتمد القطاع الخاص- بالشكل الصحيح في ظل غياب الحرية الاقتصادية، إذ إن غياب الحرية الاقتصادي تعني وكما ذكرنا آنفاً، هناك تدخل حكومي في النشاط الاقتصادي وفرض سيطرتها عليه، فهي من ينتج ويستهلك ويصدر ويستورد... وهذا ما يمنع ويقيد حركة القطاع الخاص-وحتى وإن كان حاضراً سيكون دوره طفيلي وليس حقيقي أي يعتاش على هامش الدولة-لان الدولة ستكون منافس له من ناحية وتحاربه بالضرائب من ناحية أخرى.
وما يثبت إن العراق لا يزال لم يحقق الحرية الاقتصادية بالشكل المطلوب هو مؤشر الحرية الاقتصادية، حيث يشير هذا المؤشر من خلال مقاييسه، وتصنيفاته وقيمته الإجمالية، إلى إن العراق لا يزال لم يحقق الحرية الاقتصادية.
مفارقة الحرية الاقتصادية العجيبة
إن مفارقة الحرية الاقتصادية في العراق هي من المفارقات العجيبة ما قبل 2003 حين كان النظام المركزي هو المسيطر والقائد للإنتاج والتوزيع والاستهلاك والاستثمار... وما بعد 2003 حيث التحول نحو الانفتاح واعتماد الحرية الاقتصادية لأغلب العمليات الاقتصادية، ان العراق لم يندرج في مؤشر الحرية الاقتصادية للمدة من عام 2003 حتى عام 2017 في حين كان يندرج قبل عام 2003 من عام 1996 وحتى 2002. نعم كان خلال هذه المدة ضمن آخر تصنيفات الحرية الاقتصادية التي تتراوح قيمتها ما بين 0 و49.9، حيث بلغت قيمته 17.2 وكانت ثابتة باستثناء عام 2002 قد انخفضت إلى 15.6، إلا أنه لم يستبعد من التصنيف كما حصل بعد 2003 وحتى 2017!!
يمكن أن تعزى الأسباب التي دفعت إلى ابتعاد العراق عن الحرية الاقتصادية ولم يدخل ضمن تصنيف مؤشر الحرية الاقتصادية ما بعد عام 2003 إلى جملة من الأمور وكما يأتي:
اولاً: ضعف سيادة القانون، إذ أن ضعف سيادة القانون ستؤدي إلى اضعاف إمكانات حماية حقوق الملكية بكل فروعها وأصنافها، وشيوع الفساد وعدم نزاهة الأجهزة الحكومية، وما يزيد الأمر سوءً هو ضعف الجهاز القضائي، حيث لا يمكن أن يبت وأخذ الحقوق لأصاحبها سواء كانوا مستهلكين أم مستثمرين أم غيرهم، محليين أو دوليين. وما يؤكد هذا الكلام حين احتل العراق المرتبة 166 من أصل 176 بلد في مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية[ii].
ثانياً: تدخل الدولة في الاقتصاد العراقي، حيث لا يزال الاقتصاد العراقي يعتمد على النفط بشكل كبير، وما دام النفط هو بيد الدولة، فالإيرادات النفطية كبيرة وهذا ما يشجع الدولة على التدخل من خلال آلية الإنفاق وخصوصاً الإنفاق الاستهلاكي لتحقق أهداف سياسية بالدرجة الأولى وليس اقتصادية، وعندما تحتاج إلى الأموال ستلجأ إلى سياسة التقشف وفرض الضرائب، وهذا ما يزيد من صعوبة تنفيذ الحرية الاقتصادية.
ثالثاً: الكفاءة التنظيمية، يعاني العراق من ضعف الكفاءة التنظيمية لحرية الأعمال التي تتمثل في مدى تقييد البيئات التنظيمية والبنية التحتية للتشغيل الفعال للأعمال التجارية، ويؤكد ذلك مرتبة العراق في مؤشر ممارسة أنشطة الأعمال وهي 165 من أصل 190 دولة[iii]، كذلك يعاني من ضعف سوق العمل، والدليل إن نسبة البطالة من القوى العاملة هو 16.9%[iv].
رابعاً: فوضى الانفتاح على العالم الخارجي تجارياً واستثمارياً ومالياً، فضلاً عن الأوضاع السياسية والأمنية، وما نتج عن الفوضى من ضعف حرية التجارة وخصوصاً التجارة الخارجية حين حصل العراق على الترتيب 179 في مؤشر التجارة عبر الحدود من أصل 190 دولة، كما ذكره موقع البنك الدولي، كذلك يعزى السبب إلى ضعف حماية الاستثمار وحريته، حيث شكل العراق 124 من أصل 190 دولة في مؤشر حماية المستثمرين الأقلية، وكذلك فوضى الحرية المالية وما رافقها من غسيل أموال وغيرها.
الحلول
تتمثل الحلول بالآتي:
اولاً: فرض سيادة القانون، حتى يتم الحفاظ على حقوق الملكية لكل فروعها وأصنافها، وإن فرض القانون سيحجم الفساد ويحد من انتشاره، بالإضافة إلى تفعيل السلطة القضائية بشكل حقيقي، سيكون لها الدور في ضمان الحقوق للجميع، فعند فرض سيادة القانون من أجل حماية الحقوق ومحاربة الفساد، سيخلق بيئة اقتصادية حرة تخدم التقدم الاقتصادي.
ثانياً: تقليص تدخل الحكومة في الاقتصاد العراقي، وإيكال مهمة النشاط الاقتصادي إلى القطاع الخاص، وتحويل الثروات العامة لجانبين الأول الخدمات العامة، والجانب الثاني تحويلها كحقوق للأجيال الأخرى عبر أدوات مناسبة.
ثالثاً: بناء مناخ استثماري فعّال يستطيع جذب الاستثمارات، وذلك من خلال الاهتمام في البيئة التنظيمية ورفع كفاءة أداءها، والاهتمام بسوق العمل من حيث المدخلات والمخرجات، حتى تتلاءم المخرجات مع الاقتصاد وتلبي احتياجاته.
رابعاً: العمل على الاهتمام بالتنسيق والاستثمار والتجارة والأسواق المالية، حيث إن الاهتمام بالاستثمار سيزيد من الإنتاج يفوق الحاجة المحلية فيحتاج إلى سياسة تجارية سليمة تعمل على تصدره نحو الخارج واستيراد بقيمته ما يخدم عملية التنمية الاقتصادية، وإن الأسواق المالية المتطورة ستوفر الأموال اللازمة لذلك الاستثمار.
فالعمل على تحقيق النقاط الأربعة أعلاه سيفضي إلى خلق بيئة اقتصادية حرة تساعد على تقدم البلد وتجاوز الكثير من العقبات التي تواجه في ظل الاعتماد على الإيرادات النفطية، وإن تلك البيئة هي التي سترفع من دخول العراق ضمن مؤشر الحرية الاقتصادية وسترتفع من تصنيفه داخل هذا المؤشر.
وسوم: العدد 753