المصالحة الفلسطينية ما بعد قرار ترامب
لا أحد بمقدوره التخفيف من وقع الهزة؛ التى أحدثتها خطوة الرئيس الأمريكى باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، فى منظومة السياسة الدولية والإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط، ورغم أن تلك الهزة الاصطناعية توقع منها أن تدمر كثيرا من بقايا الثوابت المبدئية فى حل الصراعات، وخاصة فى الصراع الفلسطينى والعربى الإسرائيلى، ومن الواضح أن تلك الثوابت والمبادئ كانت تبدو بفعل الأمر الواقع على الأرض لإدارة ترامب شكلية؛ إلا أن توابع تلك الهزة؛ والتى ما انفكت تتعاقب وتتراكم لا تشير قط بأن الإدارة الأمريكية قد حققت هدفها التى كانت ترنو إليه، بل على العكس فمن الواضح أن الهزة الأمريكية لم تستطع تدمير تلك الثوابت والمبادئ بل عززت من أساساتها على الأرض، وأظهرت سطحية التقدير الأمريكى لعمق وتجذر تلك الثوابت .
وأكثر من ذلك أن الأمر الواقع على الأرض ظهر خلال الأسابيع الماضية؛ كما لو كان سحابة سوداء فى سماء الثوابت والمبادئ الدولية الزرقاء بزرقة علم الشرعية الدولية ممثلة بالأمم المتحدة، والتى تحولت إلى خصم عنيد مقارع للسياسة الأمريكية الجديدة المنقلبة على كل مبادئ وقرارات الشرعية الدولية، وفى مشهد مخجل أمام العالم فى الجمعية العامة وقفت الإدارة الأمريكية مع إسرائيل عاريتان تماما بورقة توت مهترأة وفرتها لهم خمس من دول جزرالموز فى الكاريبى أمام إجماع دولى فريد من نوعه على رفض الخطوة الأمريكية .
وتدرك الإدارة الأمريكية اليوم أنها أخطأت التقدير، وخاصة تقدير ردة الفعل للقيادة الفلسطينية التى من الواضح أنها استثمرت الخطأ الامريكى على أكمل وجه فى تعزيز شرعية الحقوق الفلسطينية، ونزع أى شرعية عن الأمر الواقع الذى فرضته إسرائيل على أراضى الضفة الغربية بالقوة، علاوة على كسرها لمسلمة احتكار الولايات المتحدة لمسيرة التسوية، وذلك عبر اعتبارها الإدارة الأمريكية طرف منحاز لا يصلح كوسيط نزيه لمسيرة التسوية، وتلك ضربة أخرى لم تكن الإدارة الأمريكية لتتوقعها من القيادة الفلسطينية، إضافة إلى ذلك الإدارة المتزنة التى اتسمت بها ردة الفعل الجماهيرية للاحتجاجات الشعبية، والتى اتخذت طابعا سلميا حكيما فى الضفة والقطاع على حد سواء، وكذلك وفرت الخطوة الأمريكية الفرصة للأجنحة العسكرية فى غزة لإحداث هزة وخلخلة واضحة لمعادلة الردع العسكرى الاسرائيلى، عبر عودة زخات مقننة من الصواريخ من جديد والتى ما انفكت تقطر بتقنين على مستوطنات غلاف غزة.
اليوم الاستثمار الفلسطينى سيظل ناقص إذا لم تستثمر الخطوة الأمريكية الساذجة فى إكمال ملف إنهاء الانقسام وتوحيد شطرى الوطن؛ ورغم أنف الإدارة الأمريكية وإسرائيل، وصحيح أن الإدارة الأمريكية أعطت الضوء الأخضر لإنهاء الانقسام كخطوة فى ترتيبات ما عرف بصفقة القرن، وهو ما أعطى دفعة غير مسبوقة فى حلحلة عقد الانقسام الفلسطينى، لكن الوضع اليوم لم يعد كما كان بالأمس خاصة إذا ما قدر للحراك السياسى والشعبى أن يتحول إلى نهج وسياسة فلسطينية طويلة الأمد، وهو ما يعنى أن تحول الضوء الأخضر الأمريكى للمصالحة إلى الأحمر ليس إلا مسألة وقت، وهو ما يضع على عاتق طرفى الانقسام مهمة تاريخية حيوية لإنهاء الانقسام بأسرع وقت ممكن وبأي ثمن، وهو ما يعنى استبدال الضوء الأخضر الأمريكى بضوء الوطنية الفلسطينية الذى يستمد إشعاعه من عدالة القضية وثبات الحقوق التاريخية المدعومة بقرارات الشرعية الدولية .
إننا أمام اختبار حقيقى فإذا استطعنا استبدال الضوء الأخضر الأمريكى فى ملف المصالحة، بضوء أخضر دولى وإقليمى وعربى ووطنى قبل كل شىء، وتحقيق حلم إنهاء الانقسام فنحن لا محال سيكون بمقدورنا استبدال الدور الأمريكى كوسيط فى ملف التسوية، وهو ما يعنى ببساطة أننا نخطو الخطوة الأولى الفعلية فى مسيرة السلام الحقيقى والتسوية العادلة للصراع وفق مقررات الشرعية الدولية وليس وفق تسوية صفقة الأمر الواقع .
فرصتنا الأخيرة كفلسطينيين والاختبار الأهم للكل الفلسطينى، ففشلنا اليوم يعنى نكبة جديدة تفوق فى تداعياتها نكبة 48 والخيار لنا .
وسوم: العدد 753