في التعصّب للمذاهب الفقهية والكلامية
[ باختصار من كتاب "أدب الاختلاف في الإسلام"، للدكتور طه جابر العلواني ]
بعد القرن الرابع تغيرت الحال. يصف ذلك حجّة الإسلام الغزالي فيقول: "الخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تولاها الخلفاء الراشدون، وكانوا أئمةً علماء باللّه تعالى، فقهاءَ في أحكامه، فقلّما كانوا يحتاجون إلى الاستعانة بالفقهاء. فتفرّغ العلماء لعلم الآخرة، وكانوا يتدافعون الفتاوى... فلما جاء خلفاء ممن لا استقلال لهم بعلم الفتوى اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وبقي من علماء التابعين من هو مواظب على سمْت علماء الصحابة، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى الحكّامُ عزّ العلماء وكرامة العلم. ثم نشأ من يتلقّى العلم لينال العز من قِبَل الولاة، فصاروا طالبين بعد أن كان العلماء مطلوبين.
ثم نشأ الجدل في "علم الكلام" وفروع العقيدة. وبحجة النضال عن السنّة وقمع المبتدعة، راجت سوق المجادلات، وظهر التعصّب للمسائل الخلافية في الفقه أو في العقيدة...".
وتولد فقه نظري افتراضي مع انتشار التعصّب لأحد الأقوال التي اختلف فيها الفقهاء، وتبارى بعضهم في إتقان باب المخارج والحيل، بحجّة التسهيل على العامة، بمقابل آخرين مالوا إلى التشدّد بحجة الحفاظ على التقوى. وما كان ينبغي لهؤلاء وأولئك إلا الاجتهاد في التعرّف إلى حكم الشرع في كل مسألة، لا بقصد التسهيل أو التشديد.
وبذريعة القضاء على الفوضى في الفتاوى أغلق باب الاجتهاد، وصار جهد طالب العلم ينصبّ على حفظ فتاوى مذهب من المذاهب، وإذا تقدّم لفهم الدليل لكل فتوى فإنما هدفه الانتصار لتلك الفتوى بالبحث عما يؤيدها وردّ ما يؤيد الفتوى في مذهب آخر. وصارت هذه السمة غالبة على مرّ القرون بعدئذ، مع وجود علماء في كل عصر ممن لم ينقطعوا عن الاجتهاد وقصد وجه الله في طلب العلم ونشره. وهؤلاء هم الذين ينبغي الاقتداء بطريقتهم، وتوجيه طلبة العلم للنهل من علمهم.
وسوم: العدد 1068