الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت
(1804-1724)
صبحي درويش
"لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما: والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة". ديكارت
لم يشهد تاريخ الفكر في عصر من العصور فلسفة بلغت من النفوذ والسيادة على الأفكار وذروة العقلانية والتنوير ما بلغته فلسفة ايمانويل كانت في القرن التاسع عشر. يعتبر هذا الفيلسوف الألماني فيلسوف النقد الأكبر في تاريخ الفكر الإنساني، ومؤسس العقل الأوربي بدون منازع وربما العالمي الحديث كله. ومع ذلك من الصعب جدا أن تكتب سيرة إيمانويل كانت ـ والعهدة على الشاعر الفكه الظريف هاينرش هاينه لأنه لم يكن له حياة ولا سيرة حياة. وقد وصف الأستاذ عباس محمود العقاد، الرجل بآلة مفكرة، آلة عظيمة بلا شك ولكنها آلة كسائر الآلات: تسير بميعاد وتقف بميعاد. وتأكل وتشرب وتنام وتستيقظ وتقرأ وتكتب وتتريض بميعاد. وكانت رياضة كانت المشهورة هي نزهته اليومية بعد الظهر.كان يخرج في الساعة الرابعة بالتمام والكمال لا يقدم دقيقة ولا يؤخر دقيقة ومهما كان حال الطقس، غائما، ماطرا، عاصفا ..وفي كل الفصول و امتلأ الطريق بالسابلة أم صفر وكان الناس في الطريق الذي سمي بعد ذلك باسم الفيلسوف على يقين من أن صاحبهم لن يخل بالموعد لأي سبب. وإذا ظهر في الطريق أومأ بعضهم إلى بعض وأخرجوا ساعاتهم وضبطوها. تروي كتب الأدب والسير أن كانت أخل بموعد نزهته اليومية مرتين.في المرة الأولى عندما سمع بصدور كتاب التربية للفيلسوف الفرنسي روسو والمرة الثانية عندما اندلعت الثورة الفرنسية. لقد كان كانت رجلا غريب الأطوار حقا. وندر أن غادر مدينة كونجسبرغ ولم ير في حياته جبلا ولعله لم ير البحر قط عن كثب. وصحيح أن الرجل كان آلة في أسلوب معيشته وعاداته الروتينية ولكنه لم يكن آلة في عقله ونفسه وروحه.فقد كرس حياته المديدة كلها للفكر والفلسفة،ولم يتزوج ولم يخطر في باله موضوع الزواج إلا مرتين ولم يبلغ منهما حد المكاشفة، والسبب في ذلك لأنه كان فقيرا فوقف في المرتين عند التفكير والتردد والموازنة بين دخله ونفقات الزواج ومسؤولية العائلة. وبعد ذلك لم يفكر في الزواج وحين يطرح عليه السؤال في هذا الموضوع كان يغير مجرى الحديث ولا يتلقاه بقبول حسن ويعتبر ذلك تدخلا في شؤونه الخاصة. كان كانت يستمتع بالحديث مع النساء المثقفات. وقد ورد في إحدى رسائله إلى إحدى النساء حين دعاها إلى لقاء آخر «وإني أبعث إليك بقبلة، وأرجو أن يكون الهواء متعاطفا، حتى لا تفقد القبلة حرارة عاطفتها». أجاب كانت ذات مرة عن عدم زواجه وكان قد بلغ الخامسة والسبعين بروح النكتة والفكاهة «عندما كنت في حاجة إلى زوجة، لم أكن قادرا على إطعامها، وعندما أصبحت قادرا على إطعام زوجة، لم أعد في حاجة إليها». ولكنه يحب معاشرة الناس وقد اعتاد أن يدعو ضيفا أو ضيفين، غالبا من تلاميذه لمشاركته غداءه ، وكان سمحا ودود النفس،كريم الأخلاق، برا بالمساكين على ما به من خصاصة وقلة، يحب الطيور ويأنس بالأطفال ويعطف على الضعفاء ودعاة الحرية في كل مكان.
ولد كانت في مدينة كونجسبرغ الألمانية يوم 22 نيسان 1724م في عائلة فقيرة .كان والده مجتهدا في عمله يمارس صناعة السروج ومن أصل اسكتلندي.وأما أمه فكانت امرأة تقية صالحة تحرص على سماع المواعظ مما دعاها إلى تسجيل ابنها بمعهد فردريك.ماتت أمه وهو في الثالثة عشرة من العمر وتوفي والده حين كان عمره اثنتين وعشرين سنة. بقى في معهد فردريك لمدة ثماني سنوات تعلم فيه الكلاسيكيات الرومانية وقرأ نصوص الأدب اللاتيني الشعرية والنثرية ثم التحق بعد ذلك بجامعة المدينة في أيلول 1740م .درس فيها الفلسفة والرياضيات وعلم أصول الدين والفيزياء.ثم اضطرته ظروفه المادية الصعبة إلى طلب الرزق من مهنة التدريس فاشتغل مدرسا لأبناء العائلات الغنية في المدينة ولكنه ثابر على التحصيل في الجامعة وتابع دراسته في أوقات الفراغ حتى حصل على الدكتوراه في الفلسفة سنة 1755م وكان عنوان أطروحته في النار وبعد ذلك أعد أطروحة أخرى عن المبادئ الأساسية للمعرفة الميتافيزيقية. ثم أصبح أستاذا محاضرا خاصا في الجامعة يكافأ فقط بالرسوم التي يقرر الطلبة دفعها. ثم قرأ واطلع على مؤلفات نيوتن وهيوم وخصوصا مؤلفات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو .
حسب ول ديورانت في كتابه قصة الحضارةة: «لعل كانت ما كان ليظهر قط لولا وجود فردريك الأكبر. ذلك أن كتابيه "نقد العقل الخالص" و "الدين في حدود العقل وحده" يسرت صدورهما شكوكية فردريك وتسامحه الديني؛ فلم ينقض على موت فردريك عامان حتى أخرجت الحكومة البروسية كانت. كان كانت كفردريك ربيباً لحركة التنوير، وقد تشبث بولائه للعقل حتى النهاية-رغم كل ذبذبته الإستراتيجية، ولكنه أيضاً كروسو كان جزءاً من الحركة الرومانتيكية، مكافحاً للتوفيق بين العقل والوجدان، وبين الفلسفة والدين، وبين الفضيلة والثورة. وقد أشربه أبواه النزعة التقوية، ثم هجنها بعقلانية كرستيان فونفولف؛ واستوعب هرطقات جماعة الفلاسفة؛ وهجنها بـ "اعتراف قسيس سافوا بالإيمان" في كتاب روسو "إميل"؛ وورث سيكولوجية لوك وليبنتز وباركلي وهيوم الدقيقة البارعة، واستخدمها في محاولة لينقذ العلم من هيوم، وينقذ الدين من فولتير. وقد رتب حياته بانتظام بورجوازي، ورحب بالثورة الفرنسية. وإذ عاش منفرداً في بروسيا الشرقية، فإنه أحس ولخص كل تيارات عصره العقلية».
تدرج كانت في المناصب الجامعية فقد تولى عمادة كلية الآداب خمس مرات وكان مديرا للجامعة مرتين وفي هذه الفترة أصدر أهم الأعمال الفلسفية في عصره كنقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي.كان كانت يحاضر في مواضيع كثيرة التباين وبلغة واضحة ليجتذب عددا أكبر من الطلاب ولكن كانت كمؤلف اشتهر بالغموض وكانت كتبه قليلة الطلاوة ومثلا على صعوبة الأداء ويبوسة العبارة. وكان إعجاب الطلبة بفصاحته عظيما حتى أن هردر الأديب الألماني الكبير ، كان أحد تلاميذه ، وصفه بعد ثلاثين عاما محتفظا له بذكرى ملؤها العرفان بالجميل ، قائلا:
"أسعدني الحظ بمعرفة فيلسوف كان معلمي. ففي مقتبل عمره تحلى بشجاعة الشباب المرحة، وأعتقد أن هذه الشجاعة لازمته حتى الشيخوخة. وكان جبينه الواضح المفكر مستقراً للبشر والسرور الذي لا يكدر صفوه مكدر، وكان حديثه حافلاً بالأفكار شديد الإيحاء؛ وفي متناوله الضحك والدعابة الذكية والخيال الفكه؛ ومحاضراته تجمع بين التعليم والترفيه الكثير. وبالروح ذاتها التي انتقد بها ليبنتز وفولف وباومجارتن... وهيوم، بحث في القوانين الطبيعية التي قال بها نيوتن وكبلر والفيزيائيون. وبهذا الأسلوب تناول كتابات روسو... ولم يكن لأي عصبة أو ملة، ولا تحيز أو إجلال لاسم من الأسماء، أدنى تأثير عليه مقابل نشر الحقيقة ودعمها. وكان يشجع سامعيه على التفكير لأنفسهم ويضطرهم في رفق إلى هذا التفكير؛ أما الاستبداد فكان غريباً على طبعه. وهذا الرجل الذي أذكر اسمه بأعظم عرفان وتبجيل هو إيمانويل كانت، وصورته مماثلة أمامي، وهي محببة إلى نفسي".
وفي سنة 1780م أصبح عضوا في مجلس الشيوخ الأكاديمي وبعد ذلك أصبح عضوا في الملكية للعلوم في برلين. استمر في إلقاء المحاضرات في الجامعة وكتابة البحوث والمشاركة في المؤتمرات حتى بلغ سن الشيخوخة.
وحسب ديورانت في كتابه قصة الفلسفة هز كانت العالم وأيقظه من نومه العقائدي في عام 1781م بإخراج كتابه نقد العقل الخالص ولم تكن فلسفة شوبنهور ونظرية التطور وفلسفة نيتشه سوى تطور سطحي يتدفق تحته تيار فلسفة كانت القوي الثابت اشد عمقا واتساعا ولاتزال فلسفة كانت حتى يومنا هذا قاعدة لكل فلسفة أخرى ويرى شوبنهور أن الإنسان يبقى طفلا في معرفته إلى أن يفهم كانت. وما أجدرنا بهذه المناسبة أن نذكر العبارة التي قالها هيجل في اسبينوزا، فنتقول عن كانت، لكي يكون المرء فيلسوفا لابد من أن يدرس كانت أولا.
من المعلوم لم تستطع أن تنهض أوروبا هذه النهضة الباهرة حتى أعادت الاعتبار الكامل للنزعة الفردية واستثمرت ما في الأفراد من اختلاف وتنوع وثراء وقد عبر عن هذا التحول الجذري الفيلسوف ايمانول كانت حين أطلق صيحته الشهيرة مناديا كل فرد بقوله: " اجرؤ على استخدام فهمك الخاص" وهو بذلك لخص فلسفة الأنوار التي انتشلت أوروبا من الاستسلام الأبله والتقليد الأعمى ودفعتها إلى البحث في الآفاق والأنفس وفتحت للناس آفاق التنوع والتعدد وشجعتهم على جرأة التفكير المستقل وهيأت العقول لقبول الاختلاف الذي يؤدي إلى ثراء الفكر والعلم والحياة.. يتساءل كانت: ماذا تعني الأنوار...؟ فيجيب: " إنها تجاوز الإنسان لقصوره ذلك القصور الذي يعد هو ذاته مسؤولاً عنه وأنا أعني بالقصور عجز الإنسان عن استخدام فهمه دون توجيه الآخرين .
كان كانت احد رموز التنوير الكبار في عصر فردريك الثاني وأثرت فلسفته في أوساط المفكرين والأدباء وبعض الأوساط في إدارة الدولة لان فردريك الثاني كان مشجعا للعلم والثقافة وحرية الرأي.
اهتم كانت بالمسألة الأخلاقية أكثر من غيره من الفلاسفة وربط بين السياسة والأخلاق وعارض المذهب الماكيافيلي وكتب عن الأخلاق ثلاثة كتب وهي «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» ثم «نقد العقل العملي» وأخيرا «ميتافيزيقا الأخلاق» وحتى في كتابه الشهير نقد العقل الخالص يتناول موضوع الأخلاق فيه.
عندما اندلعت الثورة الفرنسية، كان كانت في أوج فلسفته وقد عبر موقفه منها عن حقيقة تقييمه للأحداث السياسية في عصره. لقد رحب كانت بالثورة الفرنسية، وعلق عليها الآمال، وتحمس لها قناعة بمبادئها ولكن فتر حماسه مع الأحداث الدامية التي صاحبت الثورة. ولكن مع ذلك ظل كانت وفيا للقيم التي آمن بها مع فلاسفة الثورة: فولتير وجان جاك روسو وديدرو .
لقد دعا كانت في مشروعه السياسي إلى تشكيل هيئة دولية واتحاد فيدرالي للعمل على ترسيخ سلام إنساني دائم بين الأمم وإزالة الجيوش وتأسيس السلطة في الدول على أساس جمهوري﴿يبدو أن كانت كان مخدوعا في موضوع الجمهوريات التي قامت بعد ذلك بأبشع الحروب في تاريخ البشرية ومن حسن حظه انه لم ير الجمهلوكيات التي تفتقت بها عبقرية العربان﴾ وأن يكون النظام السياسي فيها قائما على القانون والدستور المدني واحترام فلسفة حقوق الإنسان والمواطن. وكانت فكرة إنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى صدى لدعوة كانت وكان أول من فكر بتنفيذ مشروع كانت السياسي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ويلسون.
توفى إيمانويل كانت في 12 شباط 1804م فودعت مدينة كونجسبرغ فيلسوفها الكبير في مأتم مهيب ودفن في كاتدرائية كونجسبرغ وقد كتبت على قبره وعند تمثاله هذه العبارة الشهيرة من كتابه نقد العقل العملي :
« شيئان يملآن قلبي بالإجلال والإعجاب المتجددين المتعاظمين على الدوام كلما أمعن التأمل فيهما : السماء المرصعة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي ».