أيها السادة ! إنه الملك
كانت الحجرة كبيرة ، ولكنها خفيضة السقف ، وكان في أحد أطراف الشقة الطويلة العريضة موقد ضخم تكدس فيه كوم من الأخشاب المضطرمة التي أضاء نورها وجوه الرجال العشرين الذين جلسوا في الحجرة أكثر مما أضاءتها أنوار المصابيح الكثيرة المعلقة في مسامير الجدران الخشبية . كان السقف مكونا من الخشب الثقيل الذي
اسود بفعل الزمن والدخان . وكانت النافذة الطويلة الخفيضة ذات الإطار المشابه للماسة قد غطيت بالستائر تغطية
تامة قدر الممكن ، بيد أن اهتماما أقل مما يجب بذل للحيلولة دون نفاذ النور إلى الظلماء في الخارج ؛ ذلك أن الليلة كانت عاصفة الريح زعزعا ، وكان المطر يضرب دارة الصيد ضربا عنيفا ، تلك الدارة التي شهدت في زمانها كثيرا من حفلات الصيد المرحة التي تمت تحت سقفها الوسيع . ومن حين إلى حين ؛ كانت عصفة ريح
ترج المبنى الخشبي من عاليه إلى سافله مسببة هبوط نفثة دخان خلال المدخنة ، ومبعثرة الرماد الأبيض دوامات
صغيرة فوق الموقد . وفي الطرف المقابل للنافذة المستَرة ؛ كان باب الحجرة قد حُطت فوقه قُضُب كثيرة . وشغلت وسط الحجرة مائدة طويلة من خشب البلوط . كان حول هذه المائدة عشرون رجلا في مجموعات بعضها
جالس وبعضها واقف وسيوفهم على أجنابهم ، وفي سيما كثير منهم عجرفة لا مبالية يفترض أنها من صفات أهل
المحتد النبيل . كانت كئوس الخمر نثيرة فوق المائدة بينما استقر برميل خمر في أقصى زاوية من الحجرة عن الموقد ، ولكن كان واضحا أن تلك ما كانت حفلة شرب عادية ، وأن الاجتماع منعقد لغاية سامية هامة ذات طبيعة
بالغة الجدية والخطورة حتى إنها وسمت بالقلق والتوتر جبين كل واحد من الحاضرين . ولم يكن في المكان خدم ، وتعين على كل من أراد كأسا أخرى من الخمر أن يأخذ القدر الذي يريده بنفسه من البرميل القائم في زاوية الحجرة . كانت دارة الصيد في أرض خالية قرب حدود مملكة اللوريا على مبعدة اثني عشر فرسخا من حاضرة
البلاد ، والدارة مملوكة للكونت شتوم الذي انتصب قوامه الطويل الهزيل على رأس المائدة يستمع صامتا إلى النقاش الذي كان يزداد سخونة من لحظة إلى أخرى بينما تولى الأجزاء الرئيسة من الكلام كل من البارون العنيد
السليط اللسان برونفلز والمستشار السابق المحترف الشبيه بالثعلب شتاينتز . زمجر برونفلز داقا المائدة بيده : أقول
لكم . لن أقتل الملك . هذا الاقتراح يجاوز ما نويناه حين كونا عصبتنا . الملك أحمق ؛ لذا فلندعه يهرب كأحمق !
فقال المستشار السابق في رقة كأنما نبرات صوته زيت وكلام البارون العنيف مياه عكرة : القضية قضية عدالة لا قضية قتل .
صرخ البارون في احتقار : عدالة ! علمتَ هذا لا قيمة له في مجلس الملك الذي سيقذفك ساخرا خارج المجلس .
إنه دائم الثرثرة عن العدالة ، بيد أنني لا أريد أن أعد مكيدة لموته مباشرة أو من خلال الثرثرة عن العدالة مع مقتي له .
رد المدافع عن موت الملك : أتأذن لي في بيان السبب الذي يغويني بالظن بأن العفو المتواصل عنه لن ينسجم
مع السياسة الرسمية ؟ إذا هرب رودولف فإنه سيقيم في بلد مجاور ومن ثم ستتوالى حتما المؤامرات والمؤامرات
المضادة ، فتظل اللوريا في حال متصل من الاضطراب . ولا ريب في أنه سينشأ داخل المملكة نفسها حزب مقسم على إعادته ، وهذا سيوقعنا في مصاعب داخلية وخارجية ، ولم كل هذا ؟ للحفاظ فقط على حياة إنسان
معادٍ لكل واحد منا ؟ إننا بهذا نعرض حياة آلاف الأرواح للخطر ، ونجعل مراكزنا بلا أمان ، ونجلب الاضطراب الموصول إلى الدولة في حين أنه من الممكن تجنب كل هذه الأخطار بنحر رقبة واحدة ولو كانت رقبة الملك .
كان واضحا أن لهجة المحامي ( المستشار ) المغرية جلبت الكثيرين من الحاضرين إلى رأيه ، وبدا أن المتآمرين انقسموا تقريبا فريقين متعادلين حول قضية حياة الملك أو موته . وكان البارون على شفا الانفجار مرة أخرى في شيء من العنف تأييدا لوجهة نظره حول القضية وذلك حين اقترح الكونت شتوم مقترحا قبله الجميع في حماسة باستثناء برونفلز . قال الكونت : الجدال دائما عدو الصحبة الحسنة . لنسوِ القضية كلها من خلال لعبة النرد مرة
واحدة وإلى الأبد . برونفلز ! أنت مقامر متعود على معارضة هذه الطريقة في إنهاء النقاش . شتاينتز ! القانون الذي أنت أحد ممثليه المتميزين يغلب أن يقارن باليانصيب ؛ لذا ليس في مقدورك النظر في غير رضا إلى طريقة مقنعة وعادلة عدالة حكم قضائي متوازن . دعونا إذن نرمِ زهر النرد على حياة الملك ! وسأكون أنا الحكم بصفتي رئيس هذا الاجتماع . الرميات الفردية والعدد الأعلى هو الذي سيفوز . بارون برونفلز ! ستمثل الملك فإن فزت فقد تهب الملك حياته . والمستشار شتاينتز ! يمثل الدولة ! فإن فاز ضاعت حياة الملك . هل توافقون يا
سادة ؟ صاح المتآمرون في صوت واحد : موافقون . موافقون .
فدمدم البارون برونفلز ببعض كلمات ، لكن عشق المقامرة برق في عينيه حين أحضروا صندوق طاولة النرد
وسمع طقطقة العظام في الأسطوانة الجلدية ، ولم يبدِ مزيدا من الاعتراض . وضع المستشار السابق صندوق النرد في يده وأوشك أن يهزه ، ولكن بغتة دهمتهم ثلاث ضربات كبيرة على الباب كان واضحا أنها تمت بمقبض
سيف ، فوقف كثيرون منهم كانوا جلوسا ، ونظروا جميعا إلى وجوه بعضهم والخيبة العميقة في نظراتهم . كل عصبة المتآمرين كانت حاضرة خاصة عشرين رجلا علموا موعد الاجتماع . والآن هاهو الرقم الواحد والعشرون في الخارج يدق إطار البلوط ، وتكرر الدق مصحوبا بكلمات : افتحوا أرجوكم !
ترك الكونت شتوم المائدة ودنا من الباب متسللا مثل قط . سأل : من ؟
ـ مسافر . متعب ومبتل . يطلب ملاذا من العاصفة .
قال الكونت : امتلأ بيتي قبل أن تأتي . ليس عندي سعة لشخص آخر .
هتف الغريب : افتح الباب في أمان ولا تجبرني على فتحه عنوة !
كان في صوته رنة حسم سببت الشحوب لأكثر من خد بين الحاضرين ، ووقف المستشار شتاينتز مصطك الأسنان والرعب بادٍ في عينيه . ولاح أنه يعرف نبرات المتكلم غير المرئي . ونظر الكونت شتوم إلى المجتمعين
من فوق كتفه بانطباع في وجهه يقول في جلاء : ماذا أفعل ؟
وفح البارون برونفلز محتاطا مع ذلك حتى لا يكون صوته عاليا : باسم الشيطان ! إن كنتم فزعتم أشد الفزع من
ضربة على الباب ما عساكم تفعلون حين تهوي الضربات الحقيقية على رؤوسكم ؟ افتح يا كونت ودع الغريب الملحاح يدخل ! هنا عشرون رجلا يجيبون على سؤال ما إذا كان سيغادر المكان حيا أم لا .
وفك الكونت الأربطة عن الباب وفتحه فدخل رجل طويل يتلفع كاملا في عباءة سوداء تقطر ماء وقد أسدل على عينيه قبعة صياد من اللباد عليها جلد منسدل متسخ وحلا . وانغلق الباب وراءه مباشرة وقضب .
صمت الغريب لحظة حين واجهته عيون كثيرة متسائلة ، ثم نضا عباءته وألقى بها على ظهر أحد الكراسي
ورفع قبعته ناثرا قطرات المطر . نظر إليه المتآمرون دون كلام ينتابهم متباين الانفعالات فرأوا أمامهم جلالة
رودولف ملك اللوريا . ولم يبدِ الملك أي شعور بالخطر إن كان قد شعر به فعلا ، ولم يكن هناك أي تجهم في جبينه الأشم الناعم ولا أثر للخوف . كان رجولي السمت طوله فوق ست الأقدام لا دونها ، وليس رقيقا نحيلا
مثل الكونت شتوم ، ولا سمينا زائد السمنة مثل البارون برونفلز ، وقد مست يد الزمن شعر وجهه بالبياض
كما كان هناك شعيرات بيض في ذقنه المدببة إلا أن شاربه المنحدر كان لا يزال في سواد فحمة الليل الذي
انبثق منه . مسحت عيناه الصريحتان الصافيتان الصادقتان جمع الحاضرين مستقرة لحظة على كل واحد ،
ثم قال في صوت صارم خالٍ من الشك في وجود أي ارتعاشة فيه : أيها السادة ! أقول لكم : طاب مساؤكم .
ومع أن كرم ضيافة الكونت شتوم احتاج إلى محفز فإنني لا ألومه ؛ لأنني أعرف جيدا أن تراخيه الواضح
مرجعه عدم توقعه زيارتي . وإذا تصرف الكونت بصفته نادلا فسنغرق كل ذكر الباب المقضب في كأس خمر .
أقول لكم الحق أيها السادة ! واجهت الصعاب حتى أنال لذة الشرب في صحبتكم .
وأثناء تفوه الملك بتلك الكلمات المنذرة بالسوء ألقى نظرات ثاقبة التركيز على الجمع جبن أكثر من واحد تحت
وقعها ، وخطا صوب الموقد فصلصلت المهاميز أثناء سيره ، ووقف موليا ظهره النار باسطا يديه إلى اللهب .
غادر الكونت شتوم الباب الموصد وتناول كأسا فارغة وملأها من البرميل الكائن في الزاوية وقدمها طافحة إلى
الملك منحنيا انحناء شديدا . ورفع رودولف كأسه من خمر بوجوندي ، وحين فعل هذا قال في صوت عالٍ رن حتى
عمد السقف : أيها السادة ! أهبكم نخبا مناسبا . لعل أحدا من الذين اجتمعوا هنا لا يواجه عاصفة أقسى من تلك التي تعصف دون . . .
قال ذلك وشرب الخمر وأمال رأسه إمالة خفيفة إلى الكونت وأعاد الكأس . لم يتكلم أحد منذ دخول الملك سوى الملك . وبدا أن كل كلمة قالها تحمل معنى مزدوجا ، وجلبت إلى أذهان مستمعيه المتشككين صور مكان اجتماع
تحيط به القوات والملك يلعب معهم لعب النمر مع فرائسه . أرعبتهم ثقته البسيطة . وحين دخل ظل كثيرون من الذين كانوا جالسين على حالهم ، لكنهم قاموا بعد ذلك واحدا وراء الآخر ماعدا البارون برونفلز وإن كان وقف حين أُعطيَ الملك النخب . كان واضحا وضوحا كافيا أن نظراتهم الخائفة لم تكن موجهة نحو الملك وإنما نحو
البارون برونفلز . عدة أزواج من العيون توسلت إليه ضارعة إلا أنه لم يواجه أيا من تلك النظرات ؛ لأن نظرته
كانت مركزة على الملك . كان كل واحد من الحاضرين يعلم أن البارون لا يبالي العواقب وأنه صريح في كلامه
وصاحب سيف بمعنى الكلمة ويزدري الدبلوماسية ، وخافوا أن يكشف في أي لحظة غاية اجتماعهم ، وحمد أكثر من واحد في سره التخطيط البارع للمستشار السابق الذي أصر طول الوقت على ألا يكون هناك دليل موثق على
مشاريعهم في بيوتهم أو في شخوصهم . ولابد أن إشاعة مثيرة بلغت سمع الملك فجلبته إليهم هكذا دون توقع . وتطلعوا جميعا إلى وجوب قيام واحد بإقناع الملك بأنهم محض جماعة صيادين حاصرتهم العاصفة ، وارتجفوا
متوقعين صراحة برونفلز الجلية وتخوفوا من كشف علة مؤتمرهم الحقيقية . ولم يكن هناك أي فرصة لتحذير
البارون وهو الرجل الذي يقول ما في ضميره ولا ينظر إلى أبعد من بوصة وراء أنفه ولو قادت عاقبة ذلك إلى
دحرجة رأسه . وإذا كان رأس الرجل لا قيمة له عنده فكيف نتوقع منه الاهتمام برؤوس جيرته ؟
قال الملك بإشارة من يده : أطلب منكم الجلوس .
والآن ماذا سيفعل البارون العنيد الأحمق سوى المكوث واقفا في حين جلس الجميع سوى رودولف وسواه ؟
فجلب إليه انتباه جلالةالملك مباشرة وجعل الحديث الوشيك بينهما لا ملاذ منه . وكان الذين يلون المستشار
السابق مباشرة يكزونه بمرافقهم طالبين منه باسم الله أن يقف ويبتدىء أي مناقشة لا بد أن تنشأ بينهم وبين
جلالة الملك لعلها تمضي يسيرة ، لكن المستشار كان في لون الرماد خوفا ، ترتجف يده فوق المائدة .
قال الملك وابتسامة تحوم فوق شفتيه : عزيزي اللورد برونفلز ! أعرف أنني قاطعت لذتك القديمة للعب النرد
. أطلب منك متابعة لعبك كأنني ما دخلت عليكم ، ولكن هل لي أن أغامر بالأمل بأن الرهانات التي تلعب عليها
ليست عالية ؟
وحبس الجميع أنفاسهم ينتظرون في قلق عميق رد برونفلز المتجهم ، وحين جاء هذا الرد مندفعا مرعدا لم يكن فيه إلا القليل مما يخفف قلقهم . قال : يا صاحب الجلالة ! الرهانات أعلى ما يمكن أن يلعب عليه مقامر .
فقال الملك : تغريني يا بارون بالظن بأن المجازفة هي روح الإنسان على أنني أرى أن عدوك هو مستشاري السابق الجدير بالوثوق به . ونظرا لأنني يجب أن أتردد في أن أصمه بنعت الشيطان فإنني سأنتهي للاستنتاج
بأنك تلعب لصالح حياة الإنسان . حياة من التي تلعب عليها في رمية النرد يا عزيزي اللورد برونفلز ؟
وقبل رد البارون نهض المستشار السابق شتاينتز في شيء من التردد وبدأ الحديث راجف الصوت : أستسمح
كريم إذنك لبيان سبب اجتماعنا .
فصرخ الملك مشتدا : سيد شتاينتز ! سأطلب تدخلك حين أرغب فيه . وتذكر هذا يا سيد شتاينتز : من يلعب لعبة
عليه أن يتمها حتى نهايتها ولو عارضه الحظ .
فجلس المستشار ثانية ومسح جبينه المبتل عرقا بيده . وتكلم البارون بصوت فيه رنة تحدٍ : يا صاحب الجلالة !
باسمي أتحدث لا باسم رفاقي . لا أبدأ لعبة أخاف إنهاءها . كنا على قرب أن نبدأ لعبة نرد لاكتشاف ما إذا كان جلالتك يجب أن تحيا أو تموت .
ولاح أن تأوهة انبعثت في وقت واحد من كل الخونة ، وعادت الابتسامة إلى شفتي الملك . قال : أيها البارون !
ما حدث أن لمت نفسي على حُبيكَ ؛ لأنك كنت دائما مثالا سيئا للطبائع الضعيفة التي لا تخلف أيما أثر في النفوس . ولم أملك إلا أن أحترم أمانتك الصلبة حتى عندما اضطرني تشددك المستبد العنيد إلى إقصائك من قيادة جيشي .
وما أروع عصبة المستشارين التي كنت سأحيط بها نفسي لو ملكت تطعيم مستشاري بحبك للحقيقة ، بيد أننا أخذنا
ما يكفي من الهزل ، والآن فلتبدأ المأساة ! الذين يخونون حاكمهم ليس من حقهم الدهشة إن وجد بينهم خائن مزدوج . ما سبب وجودي هنا ؟ لم يحاصر هذه الدارة المشئومة مائتا فارس مسلح ؟ أيها البؤساء التعساء !
ما تقولون حتى لا ينفذ فيكم الحكم حالا ؟
فزمجر البارون برونفلز سالا سيفه : عندي هذا أقوله . مهما حدث لاجتماعنا فليس لك أن تعيش لتفخر به على الأقل .
وقف الملك ساكنا والبارون يهم بالانقضاض عليه إلا أن الكونت شتوم وآخرين فصلوا بينه وبين ضحيته ملاحظين في كلمات الملك بعض الرحمة الحميمة التي ستنبسط إليهم لو منعوا هجوما فعليا عليه .
قال الملك هادئا : عزيزي لورد برونفلز ! أغمد سيفك ! لطالما سل آباؤك الأولون هذا السيف ، لكنهم كانوا
يسلونه دائما ذودا عن صاحب العرش لا عليه . والآن اسمعوا يا سادة قراري وتمسكوا به مخلصين ! اجلسوا
إلى المائدة ! عشرة على كل جانب وصندوق النرد وسطكم . لن يخيب مرجاكم ، لكنكم ستنهون لعبة الموت
والحياة . كل واحد سيلعب مع مقابله . من يلقِ أكبر عدد ينجُ ، ومن يلقِ العدد الأقل يضع سلاحه على الكرسي الخالي ويقف عند الجدار الخلفي لينفذ فيه حكم الإعدام لخيانته . وبهذا يعيش نصف جمعكم والنصف الآخر
يطلب الموت في شجاعة حسب المتاح له منها . أتوافقون أم أعطي الإشارة ؟
فوافقوا في صوت واحد ماعدا البارون برونفلز الذي اعتصم بالصمت . قال الملك : تعال أيها البارون !
كنت أنت ومستشاري الوفي على وشك أن تبدآ اللعب حين دخلت . ابدآه !
رد البارون دون مبالاة : جيد للغاية . شتاينتز ! صندوق النرد عند يدك . ألقِ !
ووضع أحدهم المكعبات في كوب جلدي وقدمها إلى المستشار الذي أعفته أصابعه المرتجفة من ضرورة هز
الصندوق . تدحرجت مكعبات النرد على المائدة : ثلاثة ، أربعة ، واحد . أدنى الجالسين إلى المائدة أعطوا الرقم
المجمل . هتف الملك : ثمانية ! دورك الآن يا بارون !
ألقى البارون المكعبات دون مبالاة في وعائها . وبعد لحظة رنت العظام على المائدة ، وصاح البارون : ثلاث
ستات أيها اللورد ! ليت لي مثل هذا الحظ حين ألعب للنقود !
كانت عينا المستشار السابق شرعتا تجحظان وحشيتين من الخوف . صرخ : رمينا ثلاث مرات .
فقال الملك : ليست ثلاثا .
فصرخ شتاينتز واثبا من كرسيه : أحلف أنني فهمت بأننا سنلعب على ثلاث فرص ، لكن كل الأمر غير قانوني ولا يمكن تحمله . لن أخسر حياتي في لعبة نرد لإرضاء الملك أو العامة .
وسل سيفه واتخذ لنفسه موقفا دفاعيا . أمر الملك : أمسكوه ! جردوه من سلاحه ! وقيدوه!
في هذا الجمع ما يكفي من السادة ليروا أنه يتم التمسك بقواعد اللعبة .
وسرعان ما تمت السيطرة على شتاينتز وتكبيله وهو يصارع ويتضرع مسترحما . وقام آسروه بإسناده إلى
الجدار وواصلوا جلوسهم إلى المائدة . وكان التالي الذي تقرر مصيره هو الكونت شتوم ، فنهض من كرسيه
وانحنى أولا للملك ، ثم للأصحاب المجتمعين وسل سيفه وكسره فوق ركبته ومضى إلى جدار المحكومين .
وتوالت لعبة المباراة المخيفة في صمت ، ولكن في سرعة عظيمة . وقبل انقضاء ربع ساعة كان عشرة
رجال أداروا ظهورهم إلى الجدار بينما ظل العشرة الباقون جالسين إلى المائدة ؛ بعضهم على يمينها وبعضهم
على يسارها . كان الرجال المصفوفون على الجدار ناكسي الرؤوس ؛ ذلك أنه مهما تكن بسالة الجندي في مواجهة الموت في صدام عدائي يختلف الأمر معه حين يوجهه مقيدا لا حول له على يد جلاد . وبدا أن ظل أسى
يرين على وجه الملك الذي حافظ على المكان الذي شغله منذ البداية وظهره إلى نار الموقد . وتحرك البارون برونفلز قلقا في كرسيه ، ونظر بين وقت وآخر متعاطفا إلى رفاقه المحكومين ، وكان أول من كسر الصمت .
قال : يا صاحب الجلالة ! كرهت دائما رؤية ميتة الجبان . أشعر بالضيق من نشيج مستشارك السابق .
لذا هل لي أن أحل محله طيب النفس وأهبه الحياة والحرية اللتين ربما تعدهما لي ؛ إذا منحتني في المقابل
حق التعبير عن رأيي فيك وفي ملكيتك النفيسة ؟
قال الملك : فكوا شتاينتز الشجاع ! وعبر عن رأيك بحرية يا بارون برونفلز !
فنهض البارون وسل سيفه ووضعه على المائدة وشرع يقول : حكمت يا صاحب الجلالة تؤيدك القوة الوحشية
، ووصفتنا بالخيانة _ ونحن حقيقة خونة _ بالموت على عشرة من رعاياك ؛ لذا أراني لا أجد معابة في حكمك
إلا أنني أقر بأنك في الوقت الراهن تمثل اليد العليا . تذكرني بأن آبائي الأولين قاتلوا في سبيل أسلافك وأنهم ما
وجهوا سيوفهم على حكمهم ؛ فلم إذن توجهت شفار سيوفنا نحو صدرك ؟ السبب يا ملك رودولف أنك أنت شخصيا خائن ! أنت تنتمي للطبقة الحاكمة ، لكنك أدرت ظهرك إلى نظامك . أنت _ أيها الملك _ جعلت نفسك أخا للخطيب الشعبي في زاوية الشارع شوقا إلى الرضا الرخيص من أقنان الأرض . لقد جردت النبالة من امتيازاتها ، ولأي سبب ؟ فرد الملك مرتفع الصوت : لأي سبب ؟ ليحصد الحراث في السهل ما زرع ، ولينعم
الراعي على سفح التل بزيادة قطيعه ، وليخف الخراج على الناس ، وليتعامل نبلائي مع الناس بأمانة ، ولا يستغلوا مراكزهم في السرقة والنهب ، وليقنع الذين تشرفهم الدولة بالتعيين في مواقع الثقة بالأجر الذي ينالونه
قانونيا ويمتنعوا عن اختلاس المال ، وليستقر السلام والأمان على الأرض ، ولكي لا يذرع المقامرون المتعطشون للدماء البلاد طولا وعرضا يحرضون الناس على القتل والنهب باسم الوطنية . تلكم هي المهمة
التي أخذتها على عاتقي حين وليت العرش ، فأي عيب تراه في هذا البرنامج يا عزيزي اللورد البارون ؟
رد البارون هادئا : عيبه البسيط أنه برنامج شخص أحمق . كسبت بمتابعتك له بغض نبلائك ، ولم تتلقَ
حتى المحمدة من أولئك المزارعين الباعثين على الشفقة والحراث في الوادي أو الراعي في التلال . أفقرتنا
حتى يحصل المهرجون على مزيد من النقود القليلة ليلقوا بعقولهم الغبية في حمأة الشراب . أنت الآن قدوة
في الكوخ وفي القصر . لا تستطيع الثبات في مكانك لحظة دون أن يكون وراءك جيش . ولحماقتك تحسب
عامة الناس يحبون الأمانة بينما هم يلعنون حظهم ؛ لأنهم لا نصيب لهم من السرقة .
قال الملك وقورا : ضلل الناس . أسيء إلى مسامعهم بالافتراء والتزوير . لو استطعت شخصيا أن أشرح لهم
الخير الذي لابد أن يأتي البلاد التي تعمها الأمانة فأنا واثق بأنني سأكون نلت كامل تأييدهم حتى وإن تخلى عني نبلائي . قال البارون : الأمر ليس كهذا يا صاحب الجلالة ! سيسمعونك ويحيونك ، ولكن حالما يظهر بينهم الخطيب التالي واعدا بتقسيم القمر بينهم ومنح كل واحد قسما منه سيجتمعون حول رايته ويطردونك من المملكة .
ماذا يعنيهم من استقامة الحكومة ؟ هم لا يرون سوى الفلورين ( عملة ) الذي يلمع في أكفهم . حين كان نبلاؤك أثرياء قدموا إلى قصورهم وسط الناس وفرقوا عليهم ذهبهم في سخاء ، وما اهتم الفلاحون إلا قليلا بكيفية نوال
ذلك الذهب ماداموا أخذوا نصيبهم منه بل قالوا يومئذ : " جاءنا المال الذي ما كددنا لأجله" . أما الآن والقصور
خالية والوكلاء مطرودون فعلى الناس أن يعتصروا الفضة الآتية بطيئة من التجار ويصيحوا : " لم يكن الأمر
كهذا في ما سلف ، وهذا الملك هو السبب " . وهكذا يبصقون على اسمك ويهزون أكتافهم غير مبالين حين تذكر
عندهم أمانتك . والآن يا ملك اللوريا ! أراني فعلت مرادي ، وأذهب إلى موتي أكثر تأنقا بعد أن تبادلت معك حديثا
عادلا قبل النهاية .
نظر الملك إلى الجمع بعينين غشتهما نداوة الدمع وقال متأنيا : حسبت حتى الليلة أنني كنت أملك على الأقل
مؤهلات حاكم الناس . جئتكم وحيدا بينكم ومع أن في هذا الاجتماع رجالا شجعانا إلا أنني أملك القدرة على توجيه الأحداث مادمت اخترت أن آمر هؤلاء الرجال دون أن أمنع الغرائب التي جعلت عشرين رجلا يقفون في مواجهتي . وما زلت أجرؤ على الظن بأنه مهما كانت الإخفاقات التي أحاطت بسنوات حكمي اللوريا
فإنها ناجمة عن عيوبي شخصيا لا عن عيوب في الخطة ذاتها أو عن الحاجة إلى تقدير الناس . ولابد لي من أن أخبركم الآن بأنه إذا كان من الكارثة ألا يعمل الملك بالتعاون مع نبلائه فهي كارثة أيضا بنفس القدر عليهم أن يتآمروا على قائدهم ، وأرجو أن أعلمكم الحقيقة وهي أن العصيان المسلح الذي أعد بعناية قد تحطم قبل الأوان .
عاصمتي الآن في قبضة الفصائل التي يقطع رجالها رؤوس بعضهم بعضا في مثابرة ليقرروا أي الصعلوكين
المعسولي اللسان سيكون رئيسهم بينما كنتم أنتم تلعبون النرد لتقرير مصير ملك سبق خلعه ، وكنت أنا أحكم عليكم بموت خيالي . كنا جميعا في خراب شامل . شاهدت الليلة ممتلكات في ضرام النار أكثر مما تعوضه مدخراتي طيلة السنين الثماني الماضية . ليس ورائي فوارس وعثرت عليكم هنا خبط عشواء ، وهاربا عليه كثير من الطين بعد أن ضللت طريقي بكل ما في العبارة من المعاني . ومن ثم أرجو من كرم الكونت شتوم كأسا أخرى من الخمر ومأوى لجوادي العليل الذي ترك طويلا في العاصفة دون مأوى ، أو اتجاها إلى الحدود حيث
ننطلق أنا وجوادي لنجد ذلك المأوى .
فصرخ البارون برونفلز ممسكا سيفه مرة أخرى ورافعا له : ليس نحو الحدود بل نحو العاصمة . سنحيط بك
ونشق لك طريقا وسط الرعاع المتقلبين نحو عرش أسلافك .
وقفز كل رجل إلى سلاحه ورفعه فوق رأسه بينما دوى هتاف حتى السقف الخشبي : الملك ! الملك !
فابتسم رودولف وهز رأسه وقال : ليس هكذا . أترك العرش الجاحد في سرور أرى من المستحيل أن أعبر عنه .
عندما ركبت جوادي ، وفي منتصف الطريق ، فوق التل المشرف على المدينة المحترقة ، وسمعت قعقعة الأسلحة ؛ امتلأت دهشة من التفكير في أن الناس قد يقتتلون فعلا من أجل منصب حاكم الشعب . المستقبل وحده
سيبين إن كان العصيان المسلح جلب الحرية أم لا ؟ إلا أنه جلب إلي الحرية على الأقل . أنتمي الآن إلى نفسي . لن يناقشني أحد في دوافعي وأفعالي . أيها السادة ! اشربوا معي نخب رئيس اللوريا الجديد أيا كان ! لكن الملك شرب وحيدا دون أن يرفع أي رجل آخر الكأس إلى شفته . فصرخ البارون برونفلز عالي الصوت : أيها السادة !
إنه الملك .
ولم يحدث أن نال شرب نخب مثل هذا التكريم في تاريخ اللوريا .
* للكاتب الكندي روبرت بار (1848 _ 1912 ) .
وسوم: العدد 644