الجنية والصياد
يقع شاطىء ميو في مقاطعة سوروجا ، ويميزه رمله الذهبي الجميل الذي يزينه المحار الوردي حين يعلو المد ، وشجر الصنوبر المطل عليه عتيق ، يتأود نحو جهة واحدة وفق عصف الريح العاتية ، وأمامه يهدر الخضم العميق ، ووراءه يشمخ جبل فوجي المقدس الموصوف بجبل الجبال ، وهو في الحقيقة الأعجوبة الفذة التي تدفع " الغرباء " لزيارة ميو . ولا يعرف الناس حتى في ميو الكثير عن هؤلاء الغرباء مع أنهم يزورونها . ويبدو أنهم أهل حياء ، وأكثر من ذلك أهل عطف ولطف . ويأتي هؤلاء الغرباء عبر الأثير النقي أو عبر دروب البحر الغامضة المجهولة . وما سبق لأحد أن رأى آثار أقدامهم على رمل الشاطىء الندي ؛ لأنهم يمشون عليه خفافا لطافا إلا أنهم غالبا ما يسحبون ذيول ثيابهم في رقصهم فوقه ، فيخلفون على أديمه خطوطا وغضونا ، ويحدث هذا غالبا حتى إنه ليشاهد جليا . وما هذا كل شيء عنهم ؛ إذ حدث أن رأى صياد من أهل ميو فتاة منهم ، وتحدث إليها ، وجعلها تطيع أمره ، وهذا حقيقي ، وحدث على النحو الآتي : بات ذلك الصياد مرة ليله بطوله في مركبه ، ورمى شبكته هنا ورماها هناك ، وأوجع قلبه أنه لم يصد أيما سمكة ، ويمكن القول إنه أدركه اللغوب قبل الصباح ، ولما طلع الصباح باردا رجع بمركبه إلى الشاطىء ، وتركه ومضى إلى ميو على قدميه . ويقول إنه هبت عليه ريح دافئة نفخت ثيابه وشعثت شعره وجعلت وجهه أحمر ، وصار معها رمل الشاطىء مريحا لقدميه المقرورتين ، وحملت إليه تلك الريح عطر الأرز وعطر نبتة رِعي الحمام يخالطهما عطر مئات الأزهار . وتهامت الأزهار رقيقة من الجو تشبه مطرا ملتمعا ، فبسط يديه والتقطها ، التقط أزهار لوتس وياسمين ورمان ، وطوال ذلك كانت الموسيقا تصدح عذبة مطربة . هتف الصياد : ما هذا بشاطىء ميو الذي أرسيت فيه مركبي آلاف المرات ، وأرسلت الطائرات الورقية في جوه في الإجازات ! أخشى أنني أبحرت إلى جزر السعد على غير وعي مني ، أو أنني بلغت حديقة ملك البحر على غير إرادة ، بل جائز جدا أنني مت دون أن أعلم ! هذه يومي ، أيْ يومي ! يا أرض يومي ! ما أشبهك بشاطىء ميو موطني العزيز !
وبعد ذلك سرح بصره في أنحاء الشاطىء ، ودار ورأى فوجي جبل الجبال ، ودار ورأى البحر العميق الهادر ، فعلم أنه في ميو وليس في مكان آخر . فتنهد طويلا وقال : حمدا!
ورفع بصره فرأى ثوب ريش معلقا فوق شجرة صنوبر . في الثوب ريش من كل صنوف الطير التي تطير في المنطقة ، كلها بلا استثناء : القاوند ، والتدرج الذهبي ، واليمامة ، والبجعة ، والغراب ، ، والغاق ، والحمامة ، والدغناش ، والباز ، والزقزاق ( بشير المطر ) ، ومالك الحزين .
قال : آه ! يا له من شيء جميل يهفهف !
والتقطه ، وقال : آه ! إنه شيء دافىء جميل من عالم الجن ! سأحمله كنزا نفيسا إلى بيتي ، ما من مال يكفي ثمنا له ! سأعرضه على كل أهل القرية !
وعاد بريش الجنية محمولا على ذراعه . وكانت فتاة الغرباء إذ ذاك تلهو مع أطفال الزبد البيض الذي يحيون في البحر ، ونظرت من الماء النقي البارد ، ولحظت أن ثوبها لم يعد فوق الصنوبرة ، فصاحت : ويلاه ! ويلاه ! ثوبي ! ثوبي الريشي !
ووثبت أسرع من السهم ، وعدت فوق الرمل الندي ، وعدا أطفال الزبد خلفها ، فلحقت بالصياد يكسوها شعرها السبط الطويل كأنه عباءة . قالت : هات ثوبي الريشي !
وبسطت يدها إليه . سألها : لم تطلبينه ؟!
قالت : ثوبي . أريده ، ويجب أن آخذه .
قال : عجيبة ! " من وجد شيئا فهو له " !
ولم يعطها إياه .
قالت : أنا جنية .
قال : مع السلامة يا جنية !
قالت : جنية من القمر .
قال : مع السلامة يا جنية القمر !
وهم بالسير مع شاطىء ميو ، فأمسكت بهدب الثوب ، فتمسك به بقوة ، وتناثر الريش وتساقط على الرمل .
قال : لن أعطيك إياه ! ستأخذينه نتفا!
قالت : أنا جنية من القمر ، جئت فجرا للهو على شاطىء ميو ، ولا أستطيع العودة إلى موطني دون ريشي .موطني في السماء العلياء ، أعطني ريشي !
قال : كلا !
قالت : يا صياد ! يا صياد ! أعطني ثوبي !
وجثت على ركبتيها ، ومال رأسها مثل سوسنة في حر الهجير ، وأحاطت ساقي الصياد بذراعيها ، وأحس بدموعها تهوي على قدميه وهي تتوسل سائلة ثوبها ، وانتحبت وتغنت :
" أنا طائر يا سيدي الصياد جِد ضعيف "
" هاضوا جناحي ، والجراح لها نزيف في نزيف "
" سأموت في المنفى ، بعيدا عن دياري والأليف "
" خمس من الكربات في أثري مشددة الوجيف "
" ذبلت زهور ضفائري ذات التأرج والحفيف "
" والثوب ، ثوبي ، لم يعد أمثولة الثوب النظيف "
" وطغى على جسدي اللغوب كأن عمري في خريف "
" وفقدت إبصاري ، وصرت يغمني حزن الكفيف "
" ما عدت أفرح في حياتي ، أين فرحته الأسيف ؟! "
" إيهٍ غيومَ الجو ، يا ذات السخاوة للجفيف "
إيهٍ عصافير الفضا ، ذات الملاحن والرفيف "
" يا أيها الريح المحمل بالغبار وبالزفيف "
" يا هاته الخطرات ، يا ذات السمو ، ويا دعاء المستخيف "
" ما عاد في دنياي غير الحزن والألم العنيف "
فقال متأثرا : كفى ! ستأخذين ثوبك .
صاحت : هاته !
قال : على رِسلك ! على رِسلك ! ليس بهذه السرعة . سأعطيك ثوبك إن رقصت لي هنا على شاطىء ميو !
سألته : ماذا أرقص ؟!
_ ارقصي الرقصة الغامضة التي تجعل فلك القمر يدور !
قالت : هات ريشي وسأرقصها ! لا أستطيع الرقص دون ريشي .
قال : ماذا أفعل إن خدعتني ؟! ماذا أفعل إن خفرت ذمتك وطرت من لحظتك صوب القمر ولم ترقصي لي ؟!
قالت : آه منك يا صياد ! عهدي عهد جنية .
فأعطاها ثوبها ، وراحت بعد أن لبسته ، وردت ضفائرها إلى الوراء ، ترقص فوق الرمل الذهبي وساقاها تظهران وتختفيان في ثوبها . استرسلت في روية ورقة مقبوضة الجناحين تغني : " يا جبال القمر الذهبية والفضية !
ويا طيور السماء الحلوة الغناء !
إنها تغني بين غصون شجر القرفة
لتمتع الملوك الثلاثين ،
خمسة عشر منهم ثيابهم بيض ،
سيحكمون خمسة عشر يوما .
وخمسة عشر ثيابهم سود ،
سيحكمون خمسة عشر يوما .
أسمع موسيقا السماء ،
فأطير بعيدا ، بعيدا إلى بلاد الجنيات "
وهنا فردت جناحيها القزحيين ، وجعل الهواء الذي أوجده خفقهما الزهور الحمراء في شعرها ترف ، وانبسط ثوب الريش لامعا ، وضحكت ، ولامست قدماها موج البحر وأعشاب الشاطىء وزهوره وأغصان الصنوبر العالية ، ثم الغيوم البيض ، وصاحت : وداعا أبديا يا صياد !
وما عاد يراها ، وطال وقوفه وتحديقه في السماء ، وفي الختام انحنى والتقط ريشة صغيرة من الشاطىء . كانت ريشة حمامة ، ومسدها بيده وأخفاها في حزامه ، وعاد إلى بيته .
*من الحكايات اليابانية .
*للكاتبة الأميركية : جريس جيمس .
وسوم: العدد 681