الدكتور ياسر برهامي

الدكتور ياسر برهامي

معطيات اللعبة السياسية لا تسمح بمشاركة السلفيين

علي عبد العال

صحفي مصري/ القاهرة

[email protected]

رغم أهمية (الثقل الاجتماعي) لأي حركة سياسية في العالم، يمثل الاتجاه السلفي ـ في مصر والوطن العربي ـ نموذجاً مغايراً، نظراً لما تتمتع به هذه الدعوة من انتشار كثيف بين فئات المجتمع، لم تعكسه يوماً على وجودها أو تأثيرها السياسي. البعض اعتبر ذلك سلبية أو ربما عجز عن خوض غمار العمل السياسي، في حين أرجع منظروها الأسباب إلى المخالفات الشرعية، والمعطيات الفاسدة، والممارسات السيئة، و(الفيتو) الذي ترفعه الأنظمة والدكتاتوريات في وجه الإسلاميين.

 وهو ما أوجد إشكالية اجتماعية وسياسية وفكرية، طالما أثارت التساؤلات والبحث في خلفياتها، ولعل ذلك كان دافعنا للبحث عن ردود شافية لدى أحد أبرز الوجوه السلفية قبولاً وانتشاراً في مصر والعالم العربي، الدكتور/ياسر برهامي، العالم السكندري، والمفكر السلفي، الطبيب والمحاضر ذائع الصيت.

 ولد ياسر برهامي في الإسكندرية عام 1958م، ومن جامعتها حصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1982م، ثم على ماجستير طب الأطفال عام 1992م، ثم تقدم إلى الأزهر الذي حصل منه على ليسانس الشريعة الإسلامية عام 1999م، واستمر فيه إلى أن صدر قانون أزهري يمنع غير الأزهريين من استكمال الدراسة فيه.

 بدء الشيخ العمل الدعوي وطلب العلم الشرعي منذ المرحلة الثانوية، وقد شارك في العديد من المجالات الدعوية بداية من تأسيس (معهد إعداد الدعاة) للمدرسة السلفية العلمية والتدريس فيه، حيث قام بتدريس مادتي (التوحيد) و(أصول الدعوة) إلى حين إيقافه من قبل الدولة عام 1994م. وللشيخ مؤلفات عديدة، منها كتب : "فضل الغني الحميد" ، و"منة الرحمن" ، و"لا إله إلا الله كلمة النجاة" ، و"الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر" ، و"فقه الخلاف".

 السياسة تقتضي أن نتنازل عن قيمنا

 دكتور ياسر.. كثيراً ما تثار التساؤلات حول تنحيكم بعيداً عن العمل السياسي، بينما المجتمع المصري يتعرض لتحديات جسام ربما تؤثر في أمنه واستقراره على المستوى البعيد. حتى متى يظل موقفكم رافض للمشاركة السياسية، وهل ثمة تغير ربما يطرأ على هذا الموقف مستقبلاً أم أنكم عاضون عليه إلى الأبد؟

 يتهم الكثيرُ السلفيين بالسلبية والانعزالية، وعدم مسايرة الواقع بسبب إعراضهم عن المشاركة في اللعبة السياسية، والحقيقة أن معظم السلفيين لا يشاركون في السياسية؛ ليس لأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فإن هذا المعتقد يتضمن إنكار المعلوم من الدين بالضرورة وهو شمول الإسلام لكل ما يحتاجه الناس، ومن جملة ذلك السياسة.

 وقد تناولت سور القرآن مواقف السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها، فإنكار ذلك تكذيب للقرآن وكفر به، ولكن يختار السلفيون الإعراض عن المشاركة؛ لأن معطيات هذه اللعبة في ضوء موازين القوى المعاصرة عالمياً وإقليمياً وداخلياً لا تسمح بالمشاركة إلا بالتنازل عن عقائد ومبادئ وقيم، لا يرضى أبداً أحدٌ من أهل السنة أن يضحي بها في سبيل الحصول على كسب وقتي، أو وضع سياسي، أو مجرد إثبات الوجود على الساحة. فهذه المبادئ أغلى وأثمن من أن تُبَاع لإثبات موقف أو لإسماع صوت بطريقة عالية، ثم لا يترتب على هذه المواقف في دنيا الواقع شيء يذكر من الإصلاح المنشود والتطبيق الموعود لشرع الله. وحينما تتغير هذه الموازين والمعطيات، يمكن وقتها التعامل مع الموقف بطريقة مختلفة.

 ـ الديمقراطية ، والتعددية.. كلمات براقة لا حقيقة لها

 ثم ما هو المقصود بالعمل السياسي؟ هل هو مجرد المشاركة في الانتخابات، وإنشاء الأحزاب والجمعيات، والقيام بالمظاهرات، وإصدار البيانات، وعقد الندوات والمؤتمرات، واللجوء إلى المحاكم من أجل انتزاع بعض الحقوق المضيعة، والتي يتم التحايل عليها في نهاية الأمر؟

وعلى هذه الفرضية أليس الإعراض عن هذه الأساليب المتبعة كنوع من الاعتراض أو التحفظ أو الممانعة، هو في حد ذاته في عرف السياسيين نوع من المشاركة السياسية بكشف الواقع وتعريته وحرمانه من الصبغة الشرعية؟! أعني الشرعية الدينية الإسلامية. ألم تكن الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات المحلية الأخيرة من قبل "الإخوان" موقفاً سياسياً ولم يكن سلبياً ولا كتماناً للشهادة ولا خيانة لأمانة الصوت - كما يقال-؟!.

 وفي الحقيقة فإن كلمات مثل العمل السياسي، والديمقراطية، والتعددية، كلمات براقة لا حقيقة لها، ولا نصيب لها من التطبيق حتى عند من يزعم اعتناقها والدفاع عنها. ثم إن الدعاة إلى الله يقيسون الأمر بموازين شرعية في أهدافهم ووسائلهم، بعيداً عن قياسات غيرهم ممن يزعمون الفهم والإدراك السياسي. وفضاء الدعوة إلى الله أرحب بكثير من هذه الأطر الضيقة الخانقة قليلة النفع والتأثير.

 والواقع يثبت يوما بعد يوم - بفضل الله- أن الدعاة إلى الله هم الأكثر تأثيرا وانتشارا ونفعا للناس، وأنهم ليسوا منعزلين عن الواقع كما يزعم مخالفوهم، وفي الحقيقة فإن السياسيين يبذلون أعمارهم وتبح حناجرهم، وفي النهاية لا يجدون المصداقية الحقيقية لدى الناس، في الوقت الذي تتوفر فيه هذه المصداقية لحاملي لواء الدعوة إلى الله ، رغم حملات التشويه المسعورة.

 ـ للسلفيين مواقفهم في عامة قضايا الأمة

 والسلفيون - بحمد الله- لهم مواقفهم الواضحة في عامة قضايا الأمة مؤصلة بالتأصيل الشرعي الإيماني كمسألة الحكم، ووجوب الخلافة، وشروط الإمامة، وصفات أهل الحل والعقد، والعلاقة مع أهل الملل الأخرى، من خلال عقيدة الولاء والبراء، وما يجوز من المعاملات مع الكفار، وما لا يجوز، ومفهوم الجهاد وضوابطه وأنواعه، وأنواع الصلح والعهد والهدنة مع الكفار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أن موقفهم من قضايا الأمة كفلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها موقف واضح بين. ألا ترى أن هذا كله من المشاركة السياسية؟!

 المظاهرات ولدت في بيئة مختلفة عن بيئتنا

 شهدت مصر مؤخراً دعوتين للإضراب العام في جميع أنحاء البلاد، دعت إليهما قوى سياسية معارضة احتجاجاً على الغلاء، والأوضاع المتردية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ما موقفكم من مثل هذه الوسائل في التغيير؟

 ولدت هذه الوسائل ـ من وسائل المعارضة والتغيير ـ في بيئات ومجتمعات تختلف اختلافا كبيراً عن بيئتنا ومجتمعاتنا، وأيضا تختلف في قوى التأثير في المجتمع، ولا شك أن لها أثراً كبيراً عندهم، لكن في مجتمعاتنا لا تزال هذه الوسائل إما منعدمة الأثر أو ذات أثر ضعيف وقتي لا يستمر، وإما ذات أثر عكسي، وهذا هو الأغلب، خصوصاً في حق الإسلاميين، ولا يغرنك ما يُسمح به من بعض هذه الوسائل ويـُظهر للناس أنه قد أثـَّر إيجابيا؛ فإن عامة ما كان كذلك يكون بتنسيق وترتيب حسب أجندة مصالح مشتركة، وليس من معارضة حقيقية.

 ونحن قد رأينا عبر مسيرتنا أن هذه الوسائل يختلط فيها الحابل بالنابل، ويحرك الدهماء فيها من لا يرتضيه الإسلاميون، ويستغلها أعداؤهم ممن لا يرعى حرمة مسلم في دم أو مال، ويدخل فيها أهل الإفساد والغصب والسرقة، ويهتف فيها أهل الزندقة والنفاق بالشعارات المنكرة التي ينساق وراءها الناس تحت ضغط العاطفة وسلطان الجماهير الحاشدة، التي لا تنضبط بضوابط الشرع فيترتب عليها من الفساد والفتن ما لا يقترب من المصالح فضلاً عن عدم وجود مصلحة أصلا. وهناك مهن لا يجوز لأهلها الاتفاق على ترك العمل؛ لأن في ذلك هلاك لأرواح المسلمين وأموالهم فلو أضرب الأطباء أو رجال الإطفاء مثلا لما وجد المضطر من يغيثه.

 ونحن نرى أن دعوة الناس للعودة إلى ربهم، واستغلال هذه الأزمات لتذكير الناس بأثر المعاصي والذنوب ووجوب التوبة إلى الله، وتوسيع دائرة الالتزام وحقيقته، وتوضيح الارتباط بين أعمال الناس وسلوكهم وبين أرزاقهم وأحوال كسبهم، أنفع للمسلمين من هذه الوسائل.

 الذين حققوا مكاسب انتخابية من الإسلاميين تنازلوا عن هويتهم 

 شهدت العديد من دول العالم الإسلامي صعوداً واضحاً للإسلاميين إلى سدة الحكم، كما هو الحال في تركيا، وماليزيا، والمغرب، وباكستان، ألا تدعوكم هذه التجارب، وما حققته من نتائج من خلال صناديق الاقتراع إلى تجريب آليات الديمقراطية المتاحة، رجاء في تحقيق المصلحة العامة؟

 أولاً: لي تحفظ على تسمية ما حققته الأحزاب التي وصلت، أو شاركت، أو حتى حققت بعض المكاسب في الانتخابات، أن ذلك يعد وصولاً للإسلاميين إلى سدة الحكم، فهذه الأحزاب أو الجماعات لم تحقق ما حققته إلا بفقد الكثير من هويتها الإسلامية والتضحية بها. إن شرع الله سبحانه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا تقبل أن تكون موضوعا لأخذ آراء البشر عليه.

 ونقول إن موازين المصلحة والمفسدة لابد أن تكون بميزان الشريعة، ونحن والمسلمون جميعاً نعلم أن مفسدة الكفر أعظم المفاسد؛ فلا يجوز لمسلم أن يوافق على الكفر والشرك، أو يتكلم به لتحقيق مصلحة، بل لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعاً، قال تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106)

 فمن يقول للعالم مثلا "إن الإسلام لا يناقض العلمانية" مع ما يوضحونه من مفهومهم لها من أنها فصل للدين عن السياسة، وإبعاد للكتاب وللسنة عن المرجعية في التشريع، وقبول نتائج صناديق الاقتراع ولو كانت بإلغاء الشريعة كمصدر للتشريع، أو دين للدولة وكذا.... ولو جاءت برئيس كافر أو زنديق أو شيوعي أو غير ذلك فهذا بلا شك يزن المصلحة والمفسدة بميزان غير ميزان الشرع. رغم أن من فعل ذلك ليس مرضياً عنه بل ولا حتى يقنن وجوده في اللعبة السياسية، والأمثلة في كثير من البلدان واضحة. 

 أما مشاركتنا نحن في هذه اللعبة السياسية فإذا كان هذا حال من عنده استعداد للتنازل، فما بالك بمن يقدم شرطاً مسبقاً وهو عدم التنازل وعدم دفع الضريبة الجبرية؛ هل يسمح له بالمشاركة وفق ضمانات حقيقة بقطع الشوط الديمقراطي حتى نهايته؟!

 هذا هو ملخص تجربة من حاولوا تجربة ما ذكرت من الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ورغم أن لكل بلد خصوصياته، إلا أن هناك قاسم مشترك بين كل البلاد التي ذكرت وهي أنه لا يسمح للإسلاميين فيها بخوض الانتخابات، واستخدام أدوات الديمقراطية المزعومة إلا بعد تقديم ضريبة ذلك مسبقاً، وبدون ضمان حقيقي لإتمام الصفقة.

 ـ رغم تنازلات أردوغان في تركيا حكومته مهددة بالإقالة

 ودعنا نتكلم كلاماً واقعياً. تركيا: الدولة علمانية بامتياز، وحكومة "أردوغان" قدمت في سبيل المشاركة السياسية تنازلات يصعب تقديمها، ومع ذلك فهذه الحكومة مهددة الآن بالإقالة لأنها تسعى للخروج عن الإطار العلماني للدولة، كما حدث ذلك من قبل لحزب "الرفاه" الذي أقيم "العدالة" على أنقاضه، فهل هذه هي الديمقراطية؟! وقس على ذلك كل الدول ذات التأثير الحقيقي في العالم، ولا أظن أنه كلما قل أثر الدولة ككل وصغر وزنها كلما كبرت المساحة المسموح بها للإسلاميين في المشاركة والتواجد؛ لأن الدولة برمتها في النهاية تكون ترساً صغيراً في آلة عالمية أزرار تشغيلها في أيدي الآخرين. والعكس بالعكس.

 فنحن نتكلم عن مشاركة السلفيين هنا في مصر بالدرجة الأولى ثم في بقية الدول، والحال لا يختلف كثيراً. أما بالنسبة إلى تجربة حماس فأحب أن أؤكد هنا أن المكاسب التي حققتها حركة حماس لم تحققها من خلال الانتخابات، بل من خلال التواجد في أرض الواقع وحقيقة المقاومة التي أبدتها للاحتلال اليهودي.

 بالنسبة لإشكالية العلاقة بين الدعوات السلفية والأنظمة الحاكمة في بلدانها، هل ثمة منهجية محددة للتعاطي؟ أم يظل أهل مكة -على الدوام ـ أدرى بشعابها؟

 الدعوات السلفية موجودة في كل بلاد الدنيا - بفضل الله- طالما وجد الإسلام في هذه البلاد، وتختلف الظروف من مكان إلى آخر، وبالتالي منهجيات التعامل مع الأنظمة بحسب قرب أو بعد هذه الأنظمة الحاكمة عن الإسلام، فليست كلها في درجة واحدة، وكذلك بحسب تحقق معاني المنهج السلفي وفكره وقواعده في نفوس أبناء هذه الدعوات، وكذلك بحسب حجم هذه الدعوات ووجودها على أرض الواقع.

 ولكن لا شك أن هناك ثوابت لكل من يلتزم المنهج السلفي - بحق- لا يمكن التنازل عنها، أهمها:

عدم إمكان التضحية بالشرع وأحكامه عقيدة وعبادة وخلقا وسلوكا تحت الظروف المختلفة؛ فلا يمكن أن يقبل سلفي المداهنة على قضية عقدية أو عملية مجمع عليها لا يسع فيها الخلاف عند أهل السنة، كإفراد الله - سبحانه- بالعبادة وإفراده - سبحانه- بالتشريع، وكأمر الولاء والبراء وغير ذلك مما تجد أمثلة كثيرة له في كتاب "فقه الخلاف" فيما لا يسع فيه الخلاف، في حين أن الوسائل الدعوية تقبل الشد والجذب والتقدم والتأخر حسب موازين المصلحة والمفسدة والقدرة والعجز، وأحيانا يسع الفرد ما لا يسع الجماعة والطائفة.

العالم الديمقراطي وقف ينظر بتلذذ لما يحدث في غزة

 كيف يتعاطى السلفيون مع المفاهيم التي يراد لها أن تحكم العالم؛ كالتعددية الدينية، وقبول الآخر، والحوار، والتعايش؟

 الحقيقة أن هذه المفاهيم وضعت من قبل من وضعها لتمرير أغراضهم، داخل المجتمعات الإسلامية، ومن لم ينتبه إلى ذلك فيمكنه الاعتبار بما حدث في غزة، حيث وقف العالم الديمقراطي ينظر بتلذذ إلى هذه الشعوب التي صدقت الخدعة، وبالتالي عليها أن تتحمل نتيجة خيارها الديمقراطي على يد الدولة اليهودية واحة الديمقراطية المزهرة في صحراء العرب القاحلة.

 فبالنظر ـ مع إحسان ظن زائد ـ إلى هذه المصطلحات، يمكن القول بأن ملخصها هو أن قائلها ومعتنقها يريد أن يعيش في الدنيا بسلام، ونحن نقول: إن هذا السلام لا يمكن أن يتحقق في الدنيا والآخرة إلا بإتباع الإسلام وشريعته؛ فإنه قد أتى بأوضاع معينة للتعايش مع المخالفين في الدين وقبول وجودهم في بلاد المسلمين وخارجها، وبضوابط معلومة تجدها في سورة التوبة وغيرها.

وأما بالنظر المدقق المتفحص لهذا الدعاوى والألفاظ ، فهي لا تعدو كونها النسخة الأخيرة من دعاوى وحدة الأديان، وقبول الإلحاد، إلى غير ذلك من المصطلحات سيئة السمعة التي استبدلوا بها هذه المصطلحات البراقة، كنوع من الترويج لها؛ وعلى الرغم من تأنقهم بهذه الكلمات إلا أنه "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"، "ولتعرفنهم في لحن القول". فخذ وصفهم من خالقهم "ولا ينبئك مثل خبير".

 وبالنظر إلى النماذج الواقعية لتطبيق هذه الدعاوى يمكنك ـ بلا مشقة ـ التأمل في تعامل الأوروبيين والأمريكان مع قضايا العالم الإسلامي - وهي الأكثر زخما على مستوى العالم- لتعلم كيف تكون التعددية الحقة وقبول الآخر كما يريدون، لا كما تريد الترجمة العربية لهذه المصطلحات. وهم قابلون لها ومطبقون لها ما لم يكن المقابل لهم والمخالف هو الإسلام وأهله، عندها تنقلب الموازين.

 وسؤال أطرحه أنا: ما هو المصير الحالي لدعوات الحوار بين الإسلام وغيره من الأديان، لاسيما بعد التصريحات المتتالية الأخيرة لبابا الفاتيكان ومستشاريه؟. الإجابة ستكون كاشفة ولاشك...

ونحن نريد أن نوضح ما يمكن قبوله من هذه الأفكار وفق شرع الله وبالتحديد وفق فهم أهل السنة والجماعة: ففي الجانب الاعتقادي، يلزم كل مسلم أن يعتقد أن الإسلام هو الحق دون سواه :(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وأنه كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)، ولابد لكل مسلم أن يحقق الحب في الله، والبغض في الله، وأن ينصر الإسلام وأهله وأن يعادي الكفر وأهله ويتبرأ منهم.

 أما في الجانب العملي، فهناك صور من المعاملات المحرمة مع الكفار، وبعضها قد يكون كفراً، كمناصرتهم في حروبهم ضد الإسلام والمسلمين بالقتال في صفوفهم، وكمتابعتهم قولا أو فعلا على ما هو كفر وردة ونفاق - وبعضها محرم وليس بكفر-، وهناك صور من المعاملات الجائزة مع (الحربي) منهم و(المعاهد)، كالبيع والشراء والإجارة والزواج من الكتابية ورد السلام عليهم. وهذه الصور تدخلها المصلحة والمفسدة ويلزم المسلم أن يفعل ما فيه المصلحة كأمة ثم كأفراد.

 وهناك صور من المعاملات الواجبة: كالعدل معهم، وهو إقامة شرع الله وليس المساواة، والوفاء بالعقود والعهود لمن عاهدناه، وعدم الغدر، وتحريم الظلم، وحفظ حرمة دم ومال من كان ذميا أو مستأمنا أو مهادنا، وغير ذلك من تفاصيل مهمة تجدها ملخصة في كتابي : (فضل الغني الحميد)، و(منة الرحمن).

 "المنهج السلفي" هو الإسلام نقياً، والدعوة إليه واجبة

 لو توقفنا أمام "السلفية" كحركة اجتماعية؛ هل ترونها تخضع لسنة التطور والتبدل، أم أنها متجاوزة للزمان والمكان كما قد توحي بعض الكتابات؟

 - لاشك أن لزوم منهج أهل السنة والجماعة هو الواجب على كل مسلم ومسلمة، ولا نشك أن المنهج السلفي الحق هو الذي يمثل منهج أهل السنة، ولكن السلفية ليست مجرد اسم، بل هي عقيدة وعمل وسلوك ودعوة ومواقف محددة في القضايا المختلفة مبنية على الأدلة من الكتاب والسنة، وقد أصبح مصطلح السلفية اليوم واسعاً ينتمي إليه أناس لهم مشارب متباينة. المنهج السلفي هو الإسلام نقياً كما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، والدعوة إليه واجبة في هذا الزمان وغيره، فالعقيدة والإيمان والإسلام بما فيه من العبادات والحلال والحرام، والإحسان بما فيه من أعمال القلوب الواجبة، والأخلاق الإسلامية السامية لا تتغير من زمان إلى زمان.

فالمنهج السلفي بهذا المعنى لا يحتمل التطور ولا التبدل، بل هو متجاوز للزمان والمكان والأفراد والجماعات، والتبديل فيه والتحريف بدعوى التطوير جرأة وافتئات على الشرع. أما العمل وفق هذا المنهج في أطر عملية ودعوية يقوم بها البشر فإن الأمر في النهاية متعلق ببشر يسري عليهم ما يسري على البشر من الخطأ والنسيان، والموت والمرض، والانتقال، والإكراه، والأهواء والفتن، وبالتالي فلابد من مراجعة دائمة لمدى تمسك هؤلاء الدعاة السلفيين بالمنهج السلفي حتى يتحقق التطهير والتنقية الدائمة للثوب السلفي النقي، الذي هو كالثوب الأبيض نقاء، وبالتالي تظهر فيه أدنى العيوب بعكس الأثواب الأخرى، التي هي أقرب إلى الأسمال البالية ومع ذلك يفخر بها لابسوها.

كما لابد لهؤلاء الدعاة السلفيين من تطوير إمكانياتهم وبذل مزيد من الجهد في الالتصاق بواقع الناس والاقتراب من مشاكلهم الحقيقية، وكذلك إعداد الأجيال التي تتحمل المسئولية حتى لا تتوقف المسيرة والتي لن تتوقف - بفضل الله وبحفظه لدينه ولكتابه-. وقد سبق في إجابة السؤال الماضي في الكلام على الوسائل ما يدلك على ما يقبل التطور والتبدل من وسائل الدعوة لا مبادئها.

 شرع الله الجهاد رحمة للعالمين، وليس للعلو والانتقام

 كيف يمكن تفسير هذا الزخم والحضور المتعاظم للحركة الجهادية الخارجة أصلاً من رحم "السلفية"؛ هل هي إعلان شرعي عن ذراع عسكرية سلفية؟

 لا شك أن الجهاد بضوابطه الشرعية هو جزء من هذا الدين، بل هو ذروة سنامه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لا يتوقف القيام بالدين على وجوده من الأفراد، فقد يوجد من يكون قائماً بالدين، وهو عاجز عن بعض صور الجهاد. وينبغي الانتباه إلى أنه قد أصبح اسم السلفية مستعملاً لاتجاهات شتى متفاوتة، حتى من يكفرون عوام المسلمين منهم من يتسمى بالسلفية، وكثير ممن سمي بالسلفية الجهادية مثلا - وليس كل من تسمى- عنده جرأة في التكفير، وفى سفك الدماء كما شاهدنا ما وقع من حوادث التفجير العشوائي في شوارع وأسواق المسلمين، بل وأحيانا مساجدهم، وأنا أعني من يقوم بهذه الأعمال أو يرضى بها ويسوغها... ثم إنه لا يتصور أن تكون الحركات الجهادية الإسلامية السنية بصفة عامة لها جذور في غير السلفية؛ لأنها هي الفهم الصحيح للإسلام، فهل يتصور أن تخرج مثلا من رحم الصوفية، أو من رحم ما يسمى زورا بالإسلام المعتدل المستنير الذي يستنير في  الحقيقة بغير نور الشرع؟! ولا يلزم من كون أن لها جذورا سلفية أن كل أفرادها وجماعاتها يكون ملتزما التزاما صادقا بالمنهج السلفي، بل قد تدخل بعض هؤلاء جذور أخرى.

 أنا أفهم أنك تنقل هذا السؤال بناء على أن هذه هي تساؤلات المراقبين للحالة الإسلامية، ولكن إيراد السؤال على مثل هذا النحو من قبل أعداء السلفية يكون مبطـَّـنا بنوع من الطعن على السلفية وكأن هناك بديلا إسلامياً آخر لا تخرج من رحمه حركات جهادية، وبالتالي ينبغي أن يُقبل هذا البديل، أو أن تتبرأ السلفية على الأقل من الجهاد - حتى بضوابطه الشرعية-؛ وإلا مورست ضدها أنواع الدعاية المغرضة التي مفادها أن للسلفية ذراع عسكرية توشك أن تعمل بالذبح في رقاب أبناء المسلمين، وتقفز إلى السلطة وتغمد سيفها في قلوب معارضيها، وبالتالي يكون المطلوب من الحكومات هو بتر هذه الذراع إن وجدت وتجفيف منابع خروجها حتى لو لم توجد.

 يبقى الجهاد إلى يوم القيامة، والمطلوب ممن يسر الله لهم سبل الجهاد في سبيله أن يلتزموا بأحكام الشرع وأن يلزموا غرز علماء الأمة المعتبرين، وأن يعلموا أن الجهاد إنما شرعه الله رحمة للعالمين من ظلمات الكفر والبغي، وليس وسيلة للعلو في الأرض والانتقام من الخلق.

واقعنا لا يزال أصغر بكثير من منهجنا

 ما هي أبرز ملامح المنهج السلفي في التغيير والإصلاح، وما مدى قابليته للتعايش مع الواقع الحالي، بكل تفاصيله وهمومه ومساوئه، حتى يتقبله الناس؟

 - قبل أن نطرح تصورنا في الإصلاح نقرر أن واقعنا لا يزال أصغر بكثير من منهجنا، وأن حالنا أبعد عما نعلم أن يلزمنا أن نكون عليه، ولكن الواجب النصيحة، والأمل في أن يكون الجميع على الطريق المستقيم - ولو كان سيره بطيئاً لا خارجاً عنه- هو الذي يدفعنا إلى هذا الطرح، فمنهج الدعوة السلفية يمكن تلخيصه في الآتي:

 أولاً: الدعوة إلى الدين: إلى الإسلام والإيمان والإحسان بمعانيه.. وأركانه كلها من معرفة الله بأسمائه وصفاته والتعبد له بها، وتوحيد الربوبية والألوهية، والكفر بالطاغوت، ومحاربة الشرك في كل صوره القديمة والحديثة، من شرك القبور والخرافات، وشرك الحكم والولاء وغير ذلك، وكذا الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، وما يتبع ذلك من قضايا الاعتقاد في الصحابة، وتحقيق الإتباع للسنة النبوية ومحاربة البدع، وتحقيق التزكية عبادة وخلقاً ومعاملة، والسير في طريق الدعوة، وإقامة الدين، وإعلاء كلمة الله في الأرض، كل هذا على وفق منهج أهل السنة والجماعة، إجمالاً وتفصيلاً.

 ونقرر أن الدعوة إلى الدين بهذا المفهوم الشامل هي أصل دعوة الرسل، وهي الطريق الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وصحابته، فهذا المنهج هو أولى الأولويات في العمل، والذي لا يتحقق أي واجب بعده بدون هذا الواجب الأول، وهذا المنهج تجب الدعوة إليه بكل الطرق، وتربية الناس عليه بالوسائل العامة، كالخطبة، والدرس، والكتاب، والنشرات العامة، وقوافل الدعوة، وغير ذلك من وسائل التربية.

 ـ من أهم الأولويات: إيجاد الطائفة المؤمنة الملتزمة بالإسلام

 ثانياً: إيجاد الطائفة المؤمنة الملتزمة بالإسلام -عملاً به وعملاً من أجله- المجتمعة على إقامة فروض الكفاية المضيعة وبكل ما أوتيت من قدرة، والساعية في نفس الوقت لتحصيل أسباب القدرة فيما تعجز عنه في الحال. نرى أن إيجاد هذه الطائفة المؤمنة على منهج أهل السنة والجماعة هو من أهم الواجبات والأولويات، وهذه الطائفة تسعى إلى أن يكون أفرادها في خاصة أنفسهم يؤدون الواجبات العينية عليهم في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة والخلق، ويتركون المحرمات، كما أنهم ملتزمون بالتعاون المنضبط على إقامة الفروض التي خوطبت بها الأمة ككل، كالتعلم والتعليم قال - تعالى-: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة:122).

 ـ أهمية طلب العلم لدى السلفيين

 وللعلم منزلة خاصة وأهمية كبرى في دعوتنا، إذ عليه تقوم وبدونه تفقد هويتها وانتمائها للسلف، ولابد أن يكون هذا الأمر على كل المستويات، للصغار والكبار للرجال والنساء وفي سائر قطاعات المجتمع، وكالحسبة والدعوة، قال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران:104)، ولابد من مراعاة الواجبات الاجتماعية من سد حاجات الفقراء والمساكين، ورعاية اليتامى، وحث الأغنياء على الزكاة والصدقة، ومعاونتهم في إخراجها على ما جاء في الكتاب والسنة، وعيادة المرضى ودعوتهم إلى الله، وإحياء الروابط الأخوية بين المسلمين، وغير ذلك.

 وكالسعي إلى إيجاد نظام المال الإسلامي، لإبعاد الناس عن الربا والريبة وسائر المعاملات المحرمة، وكذا تربية الأمة على روح الجماعة برد الناس إلى أهل العلم منهم وجمعهم عليهم ونهيهم عن التفرقة، وكذا إقامة الجهاد في سبيل الله ، طالما وجدت مقوماته وشروطه والسعي إلى أسبابه عند العجز عنه، وما قام به المسلمون في بلادهم التي احتلها الأعداء عبر التاريخ هو من أعظم الواجبات والقربات. وكذلك تعليم الناس لزوم التحاكم إلى الشرع، برد موارد النزاع إلى أهل العلم، الذين يجب وجودهم، والسعي إلى إيجادهم في كل مكان، لفض الخصومات وفق الكتاب والسنة، بعيداً عن القوانين المخالفة للشريعة التي يكون الرضا بالتحاكم إليها تحاكما للطاغوت.

 ـ كيف تقام دولة الإسلام

 ثالثاً: كيفية إقامة الدين: وأما نهاية المطاف وكيف تقام دولة الإسلام بعد ذلك فنحن لا نوجب على الله أمرا معيناً نعتقد حتميته ولزومه، وأنه لا سبيل سواه، بل قد قص الله علينا من قصص أنبيائه ورسله من آمن قومه كلهم بدعوته بالحكمة والبيان، قال -تعالى-: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ . فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(الصافات:147-148)، ومنهم من نصره الله بإهلاك أعدائه بقارعة من عنده أو بأيدي الرسل وأتباعهم، وقد جعل - سبحانه وتعالى- في سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمور أيضاً، ففتح الله عليه المدينة بالقرآن، وكذا فتح عليه البحرين واليمن وكثيرا من جزيرة العرب، كما فتح عليه مكة بالسنان، وفتح على أصحابه العراق وما وراءه والشام ومصر وغيرها بالسنان كذلك، وله الحمد سبحانه على كل حال.

 فالتمكين منة من الله ووعد غايته تحقيق العبودية لله - للفرد وللأمة-، والأخذ بالأسباب المقدورة لنا واجب علينا والنصر من عند الله لا بالأسباب، قال - تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور:55)، وقال -سبحانه-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء:105)، وقال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(التوبة:33).