مع الكاتب ناجي ظاهر
الكاتب ناجي ظاهر في حديث لـ" العرب":
أنا حكاية جميلة لا تُريد أن تنتهي!
حوار أجرته: نادية ضاهر*
*ناجي ظاهر، الكاتب والشاعر الفلسطيني، ابن الناصرة، وابن عائلة فلاحية هُجِرت قسرا عام 1948عن حبيبته سيرين تلك القرية الفلسطينية التي هدمها الاحتلال وأزال معالمها، لكنه لم يستطع أن يمحوها من ذاكرة ناجي ظاهر ولا من وجدانه، وكما سيرين التي كتب عنها كثيرا وعرفها من خلال عيني والديه كما قال، كانت الناصرة التي أبصر النور فيها لم تغب عن أدبياته، وبقيت حاضرة في مشاعره وأحاسيسه إلى اليوم، قال عنها(إنني كبّرت الناصرة حتى أصبحت العالم، وصغّرت العالم حتى أصبحت الناصرة).التشريد،والاحتلال، والغربة، والألم، والفقر، والموت، آلمت وأحزنت ناجي لكنها لم تضعفه ولم تهزمه، بل صمد في وجه كل المحن والمعانيات، كان يحلم بالفجر وبالنور وبيوم جديد، وجد في الأحلام طريقا آخر يبتعد فيه عن معاناته اليومية، لكنه بحسه المرهف وبموهبته، اخذ يغترف من أعماق روحة ووجدانه، وينسج من نور الشمس خيوطا ناجي ذهبية، فيحوك منها تارة قصيدة، وأخرى قصة حزينة، تنبع من أعماقها كل معاني الإنسانية.
مؤلفاته عديدة منها: مؤلفاته في الشعر:- * البحث عن زمن آخر، عكا، 1978.-* قصائد إلى أبي حيان التوحيدي 1979- * قصائد أول الدنيا، عكا، 1979-، مختارات من الشعر العالمي-* الزهرة اليابسة 1980.
مؤلفاته في الادب: * أسفل الجبل وأعلاه، 1981، قصص. * الشمس فوق المدينة الكبيرة، عكا، 1981، قصص-* بحجم سماء المدينة، الناصرة، 1982، قصص- * حدث في ذلك الشتاء، الناصرة، 1982، قصص
- * فراش أبيض1 كالثلج، الناصرة، 1985، قصص* مجنون هند* الأفق البعيد قصص. * جبل االشيخ، قصص. * المناطق السحرة، قصص-* يوم الحمامة وست الحسن، قصص. * درس نورا – قصة.اضافة انه نشر له مجموعة قصص قبل ايام حملت عنون:قصة مهرة.
- اديبنا وشاعرنا ناجي ظاهر اهلا بك ضيفا عزيزا على صفحات مجلة العرب.
اتشرف بك وبالمجلة.
-لاحظت من خلال حواراتي السابقة معك ومن خلال قراءتي للكثير من كتاباتك، أن بداخلك الكثير من التمرد، ما الذي يجعلك تتمرد؟
- فعلاً، أنا مجبول من التمرد، قد يعود هذا الى طفولتي، كنت شقيا، مشرداً، إما أن أتمرد أو لا اكون. التمرد كان طريقتي في الحياة، في البداية ابتدا حساً فطرياً، إلا انه ما لبث ان تحول الى وجهة
نظر، أنا لا يرضيني البسيط من الأمور، في الأدب مثلا، أنا قرأت معظم ما انتجه الكتاب في العالم، ومع هذا يتجرا احدهم طالبا مني ان اقرا كاتباً لم يبدا طريقه بعد ويحتاج الى امتحان في الاملاء ليتاكد من قدراته. هناك من يستهين بالكتابة ويريد مني ان اوافقه وان اعجب به ايضا. تصوري هذا. الذي يجعلني اتمرد هو المعرفة، المعرفة بان عالمنا حافل بالظلم والقسوة، لست قاسيا بطبيعتي، الا انني اريد العالم افضل مما هو. يستحق الإنسان في عالمنا العربي مساحة ولو ضيقة من الاحترام. انني ارى ان كرامة هذا الانسان تداس بالاقدام ويطلب مني بعد هذا الا اتمرد. تصوري اية بجاحة هذه؟! اتمرد على الظلم والقسوة وامتهان حرية الانسان وكرامته. الانسان لم يخلق للاهانة، ولا يحق لاحد ان يستعبده وقد خلقه الله تعالى حرا.
- حدثني عن سيرين تلك البلدة التي احتضنها في روحك وذاكرتك، هل كتبتها في قصصك واشعارك؟
- إنها عمقي في هذا العالم، رايتها في عيني اعز اثنين واحن اثنين، والدي ووالدتي، رحمهما الله. لقد عز علي ان يفارقا، وفي عيونهما امل العودة. نعم، كتبت عن سيرين في مجموعة قصصية لي عنوانها، "مجنون هند" سيرين بروحي. ذات يوم زرتها برفقة صديقي الشاعر سعود الاسدي، اشتقت اليها وانا فيها، عندما زرناها في المرة الاولى، بعد عام 67، القى والدي جسده على ارضها وتمنى ان يموت هناك، الا ان الله لم يحقق له ما تمناه، واماته في الناصرة بعيدا عن صدرها. لهذا ما زلت ابكي حتى هذه الايام، ليس لانه مات وحسب وانما لانه مات ولم يتحقق حلمه.
- تعكس كتاباتك الكثير من الالم والحزن الدفين في روحك وذاكرتك، من خلال الأحداث الأليمة التي مررت بها، فمن التهجير القسري للعائلة عام 1948 من سيرين، إلى رحيل الأب وبعده الأم والأخ والابنة، كيف تعامل ناجي الشاعر والكاتب مع حزنه، ولماذا بقي يلازمه طوال مشواره الطويل؟
- حزني لا حدود له، حتى وأنا في قمة فرحي اشعر بالحزن ياتي الي ويطرق ابواب روحي. لهذا فهمت زوجة صديقي الدانمركية حينما بكت في ليلة عرسها، سألها زوجها لماذا تبكين؟ فردت لانك ستتركني ذات يوم. انا اشعر بالحزن قبل ان يقع ولست بحاجة لان يقع حتى اشعر به، فقد وقع الحزن الاكبر حينما شردتنا النكبة فانغرس سيف الحزن عميقا في ارواحنا. اما بالنسبة للكتابة فانها تقوم على احزان لا حدود لها، أنا حزين بطبعي.
* حدثني عن ناجي ظاهر الكاتب والشاعر، وأهمية الكتابة بالنسبة إليه.
- انه إنسان يضع العالم في داخله هو ليس بحاجة لان يذهب الى الأشياء وإنما هو ينتظرها لتاتي اليه. عندما يحن الى البحر يخرجه من عينيه وياخذ في منادمته، وعندما يتوق الى الماضي يستدعيه بعد ان يفرد له البساط الاحمر. فياتيه طائرا على جناح الشوق. اما الكتابة فانها تحيط بي من كل جانب. انا لا اكتب الاشياء بقدر ما تكتبني.
هناك من يردد مثل هذا الكلام دون ان يعي معانيه البعيدة. انا اعرف ما اقول. اليوم حينما ارسل نظري الى الماضي اكتشف انه بات حكايات احداها تضع يدها في يد الاخرى.انا حكاية جميلة لا تريد ان تنتهي وقصة ابتدات ولا تريد ان ترى النهاية، أو يكون لها نهاية.
* أريد أن أبحر إلى عالمك الرحب، فأتغلغل في تفاصيل الحكاية والقصيدة، كيف يختار ناجي ظاهر البداية والنهاية لاعماله؟
- بحاري عميقة ولا يتقن فيها العوم الا من لانت له عريكة الماء، أما حكاية القصة فانها حكاية الروح والموسيقى التي تطرق ابوابي ليل نهار مطالبة بان يكون لها مكان محدد في مساحة لامتناهية في القلب.
* قلت لي مرة:(ان كل شيء في حياتي قصة) تعيشها اولا وتغوص في اعماقها وبعدها تسترسل في كتابتها؟
نعم. حياتي قصة متواصلة الحلقات، تنتهي واحدة لتبدا اخرى. اكتشفت في هذا العمر انني لم امتلك سوى الحكايات، حتى ما اعتقدت انه كبير وعظيم في حياتي كان نتاجا لقصة. بالنسبة لكتابة القصة، أريد أن أقول لك إنني لا أكاد اعرف الحد الفاصل فيها بين الواقع والخيال مع ان الدافع لكتابها هو الواقع في معظم الاحيان. عندما ابدأ كتابة قصة ما انما اشرع من نغمة موسيقة بعدها يتفتح عالم اكون انا اول المندهشين فيه. انا لا افصل بيني وبين قصتي، نحن كل واحد موحد.
* أهمية الكتابة عند ناجي ظاهر، لمن يكتب؟ولما؟ وهل استطاعت كتاباتك ان تكون سفيرتك الى العالم؟
- أبدا من، لمن اكتب؟ أنا اكتب لنفسي، لا أقول هذا تبجحا وادعاء وانما ايمان بان الانسان انما يكتب لنفسه فاذا تحقق له الصدق ووصل الى نفسه وصل الى القارئ. اما بالنسبة لاهمية الكتابة فانها اشبه ما تكون باهمية التغريد بالنسبة لبلبل تائه يريد ان ينضم الى وليف هاجر، لكن دون جدوى او نتيجة، الكتابة هي رحلة بحث متواصلة الحلقات.
* لنعد إلى الماضي، إلى نقطة البداية، التي اكتشف فيها ناجي ظاهر موهبته وقدرته على الكتابة، وبما أن لكل كاتب قصة، فهل لي أن اسمع قصة البداية معك؟ متى نشرت أول قصة وما عنوانها؟
- كان ذلك عندما طرق بابنا انسان فقيريطلب المساعدة، منا نحن الفقراء، يومها كنت صغيرا، رثيت لحاله، كان يشبه أبي، ذهبت إلى أوراقي وكتبت عنه. تصورته وهو يتجول في الشوارع يبحث عما يعز وجوده, ربما رايت فيه ماساتنا. اما القصة الاولى التي نشرت لي فقد حملت عنوان الكلمة الأخيرة، تحدثت فيها عن امي وحبيبتي المدينة، ارسلتها عام 68 الى اهم مجلة ادبية في بلادي آنذاك، هي مجلة "الجديد"، في نهاية الشهر فوجئت بان القصة نشرت، أحسست بأنني أضحيت كاتبا، فزهوت بنفسي، وشعرت بمعنى ان يكون الانسان كاتبا. منذ ذلك اليوم، لم انم كما ينام الناس، أنا لا أنام إلا حينما تهدني القراءة، ويهزمني سلطان الكرى.
* هل ما زلت تحتفظ بها؟وكيف يمكننا الحصول عليها؟
- ربما، لا اعرف، هي موجودة بين أوراقي، لكن لا اعرف بين اية اوراق.مكتبتي موجودة لاسباب خاصة في اربعة او خمسة ستة اماكن. على اية حالة مجلة "الجديد" ما زالت موجودة. اذا ضاعت القصة مني لن تضيع من ارشيف المجلة وبامكان من يهمه الامر ان يبحث عنها، أما أنا فلا وقت لدي للبحث، العمر قصير وأريد أن أعيش حلمي ليهتم الدارسون فيما بعد.
* لاحظت من خلال قراءتي لناجي ظاهر انه ظل، خلال مشواره الطويل من العطاءات الادبية، يعاني من الوحدة والغربة والحزن، لماذا؟
- أنا وترٌ مركبٌ على قطبين: الغربة والانتماء، كلما عز الشعور بالانتماء اشعر بالغربة اكثر. انا اشعرانني شجرة وحيدة في صحراء، ابتعدت عن قبيلة تعدادها اكثر من ثلاث مائة مليون لتجد نفسها وحيدة واشبه ما تكون بمقام المسيح بين اليهود كما قال احد شعرائنا القدماء. نعم أنا إنسان عربي غريب اليد والوجه واللسان.
* القصة عندك قضية، هدف، رسالة، صوت لمن لا صوت لهم، والقصيدة ضمير الأمة والوطن، يمكنني القول بعد هذه السنين ان صوتك وصل؟
- احترم كلماتك الكبيرة هذه. غير انني اشعر ان القصيدة لدي هي صوت ضميري الشخصي.انا هي الامة وانا هوالشاعروانا هي القصيدة.الكاتب لا يمكن ان يكون كذابا. معظم الكتاب في فترتنا الراهنة يكذبون، كل منهم يريد ان ينجو بنفسه، أما أنا فإنني أفضل الغرق الصادق في لجة المحيط على ان انجو بنفسي كاذبا، وأنا في الواقع اعيش في متاهة كاذبة.انا الصوت الجميل في هذه الامة وستثبت الايام هذا.انا اكتب من اعماق روحي وغربتي ومن لا يقرأني اليوم سيفعل في الغد.
* أبدع ناجي ظاهر في القصة، كما في القصيدة، أين يجد نفسه اكثر؟ اين تجد نفسك اكثر في القصة؟ ام القصيدة؟ هل سيتوقف ناجي يوما عن الكتابة؟
- أنا عالم متكامل لا يمكن الفصل بين اجزائي والا قضي علي، القصيدة لدي عشيقة كما قال انطون تشيخوف، أما القصة فإنها زوجة لا تعرف الا الإخلاص، وحتى حينما ازهو عليها واتحداها طالبا منها أن تمتحن رجولتي بخيانتها لي تبقى مخلصة، يبدو أنها خضعت لي تمام الخضوع لكن من منطلق المحبة لانسان متمرد وليس من باب الخضوع.
* الفن، القصيدة، القصة، الحياة، الأرض، الذكريات، الوطن، الأمل، شجرة الزيتون، المستقبل، كلها مجتمعة، ماذا تعني لناجي ظاهر؟
- اقول لك ما قاله المتنبي. ما اضيق العيش لولا فسحة الامل. كل هذه الاشياء تعيش بالامل ونحن محكومون بالامل كما قال الكاتب السوري المبدع سعد الله ونواس.
* لو أراد ناجي البحث عن الجمال، أين يجده؟
- في كل مكان تقع عيناي عليه ارى الجمال. اما المكان الاجمل في العالم. أعني وطن الجمال، فانه المدينة التي ولدت فيها. في هذه المدينة رايت كل شيئ، واكاد اقول انني رايت الله. في كل موقع في هذه المدينة يوجد اثر لجمال مضى. انها موطن ذكرياتي وموطن جمال لا حدود له.
* هناك الكثير من الشخصيات، عاشت معك وعشتها؟ وما زالت حاضرة في الذاكرة، من منها ترك اثرا في حياتك؟
- ذاكرتي حافلة وتكاد تنوء بما تحمل من ذكريات مثلما تنوء الدالية بعناقيد العنب الخليلية. او منطقة الجليل عندنا. اسأليني عكس ما سالت، اسأليني من لم يعش في ذاكرتي. لكل من وقعت عليه عيني يوجد ذكرى ابتداء من العم ابو محمد زوج المتوالية المسكينة في حارتنا، نيام الطفولة، انتهاء بكتاب كبار، لا أريد أن اذكر أحدا منهم حتى لا انسى آخر أو آخرين. في الفترة الاخيرة بعد وفاة الوالدة الحبيبة عدت الى ماضي وكتبت سيرتي الذاتية من خلال معايشتي لاناس كانوا اثروا في حياتي ومضوا، الذاكرة تحتشد بالاسماء والاماكن ولا يوجد فيها اي فراغ، لهذا أجد صعوبة في التحدث عما تحفل به.
* قصة زوجة الغول، وردت فيها عبارات: الراعي والغنم والمرعى، المغارة والجبل، الزوادة، الفرنية، قربة الماء و زهور البرقوق البرية، الحقول والبراري والفراشات، هل هو الحنين للأرض والماضي؟ أم انه تمرد على الواقع الذي نعاني فيه من تدهور قيمنا وعادات الاخلاقية؟
- أنا مسكون بالحنين الى الماضي. الماضي هو الوحيد الذي لا ينازعني عليه احد ولا ينافسني في امره احد. نعم انا مملوء بالارض بمراعيها، بأغنامها وأعشابها وحتى غولها. قصة زوجة الغول هي اغنية انشودة إنسانية، أردت أن ارفع فيها صوتي هاتفا لكل ما هو جميل، حتى لو اعتقد البعض لانه لا يخلو من قبح. الحياة هي اجمل ما في الحياة والماضي هو الحياة، أما الآتي فلا احد يعرف ما اذا كان سياتي ليكون ماضينا.
* يقولون إن داخل كل منا يوجد طفل، حدثنا عن الطفل الموجود في ناجي ظاهر.
- ناجي ظاهر قرر ان يكون طفلا ابديا وهو يعتقد ان الكارثة الحقيقية ستكون اذا ما كبر. انا فتى لما يزل في العاشرة من عمره. في هذه العمر سيبقى لن يكبر اتى الى هذا العالم وقرر ان يذهب منه في العمر ذاته، انه لا يكبر ولا يريد ان يتنازل عن دهشته الطفولية. جسده هو ما يكبر قليلا، أما روحه فإنها لا ولن تكبر، أحيانا يتوقف ليرى من هو ذاك الذي ينظر اليه في احدى المرايا فيطل اليه طفله المدلل.. هو لا يرتاح الا حينما يطل ذاك الطفل.
* المرأة والحب في حياة ناجي ظاهر؟ هل نجدهما في كتاباتك؟
- قلت إنني شجرة في صحراء. أنا رجل لم يحب ولم يُحب. ربما لم يكن لديه الوقت. في طفولته راى الحب في وجه طفلة اختبات وراء جذع شجرة زيتون معمرة من عهد حمورابي، الطفلة اختفت وهو ما زال يبحث عنها. ربما كانت هناك من تطرق ابواب زيتونته. انه في حيرة من امره. فهو يعرف ولا يعرف. ويتمنى لحظة ان يشعر بامراة حقيقية تطرق الابواب. فهل سيكون له ما لم يكن طوال ايام العمر؟
* هل كتبت الشعر الوطني؟ وهل جسدت معاناة فلسطين في قصصك؟
- نعم. لكن مفهوم الوطن لدي يختلف. هناك من يكتب الشعر السياسي ويدعي انه يكتب الشعر الوطني. يوجد فرق كبير بين الاثنين. الشعر الوطني هو الشعر الذي يتغني بالمكان. السياسي لا يفعل هذا. ام كلثوم حينما غنت لشمس الاصيل غنت للوطن. اما احمد فؤاد نجم في معظمه فقد حكى للسياسة. الفرق بين هذين النوعين واسع. نعم جسدت معاناة الفلسطينيين. انها معاناتي، انا فلسطين.
* كتبت عن زائرة الليل، المرأة الكفيفة، وتحدثت عنها لو كانت في الماضي القريب، مع العلم انك ذكرت انك كنت في الرابعة او الخامسة، أي اثر تركته في اعماقك حتى تذكرها بكل تفاصيلها، رغم الفاصل الزمني؟ قلت (انها جعلتني ارى ما لا يمكن ان يرى في تلك السنين البعيدة سنوات الطفولة) وانها زرعت في اعماقي بذور التمرد والرفض لكل ما احاط بي من ظلم. انها ماضي. عندما تحدثت عنها تحدثت عن حياتي.
- هذه المرأة هي معلمتي الاولى فيها رايت كل النساء واحببت المراة. كانت صورة اخرى من امي رحمها الله. ما زلت اشعر براسي في حضنها وهي، تحكي لي عن الشاطر حسن وعن ست الحسن. انها امراة هامة حبذا لو تمكنت من ان ابني لها مزارا يحكي قصتها الشعبية. هي نموذج لامراة معطاء ساهمت في وجودي دون ان تقصد.
* وأمك؟
- أمي هي العالم الراحل الباقي. بقيت رحمها الله تحب الارض وتصلي لها حتى يومها الاخير. امي تعتبر جانبا هاما من حكايتي، لكن ليس في مجال كتابة القصص وانما في عيشي لها. لغتها كانت راقية كانت عفيفة النفس رغم الفقر، لا أتذكر أنها طلبت مني ان احضر الخبز في يوم من الايام كل ما فعلته حينما ارادت ان احضر الخبز، هو أنها قالت لي بصوت امراة من فلسطين: لا يوجد لدينا خبز.. خلص. لا اعرف ماذا بامكاني ان افعل. حكاية امي طويلة لا يمكن اختزالها بكلمات وهناك عدد وافر من القصص كتبتها من وحيها. هي عالم مساو لهذا العالم.
أتذكر الآن، وأنا اكتب هذه الكلمات عنها، ذلك النضال التي خاضته بقلب امرأة جريئة، من اجل الحياة، ومن اجلنا جميعا، فهي لم تستسلم لآلام التهجير والبعد عن بلدتنا المهجرة حاليا من أحبائها سيرين الواقعة في منطقة مدينة بيسان، وإنما انتصبت إلى جانب والدي رحمهما الله، وراح الاثنان يخوضان معركة الوجود والدفاع عن البقاء معا وجنبا إلى جنب، حتى رحل والدي عام 1976، قبل اثنين وثلاثين عاما، تاركا إياها تواجه تكاليف الحياة، برأس مرفوعة وهمة لا تلين، وكانت في حياة والدي وبعد رحيله امرأة مكافحة تسعى في مناكب الحياة ولسان حالها يقول: قوم يا عبدي تعينك ونام يا عبدي تهينك، وهو ما رددته أمامي وأمام آخرين عشرات وربما مئات وآلاف المرات. حكاية أمي طويلة لا يمكن اختزالها بكلمات وهناك عدد وافر من القصص كتبتها من وحيها. هي عالم مساو لهذا العالم.
* الفضائيات، الانترنيت، العولمة، أثرها على الكتاب والأدب والشعر؟ وهل انتهي زمن الكتاب بوجود الانترنيت؟
- أنا مع كل تطور لست ضيق الافق حتى لا ارى سوى الفترة التي عشت فيها، العالم يتغير من يوم الى اخر ونحن ينبغي ان نواكب تطوراته. العالم تغير ونحن على ابواب فترة تحول عنيفة جدا. علينا ان ندرك هذا.المشكلة ليست في التغيير في الواقع وانما هي فينا. الانترنت ضرورة فرضها العصر وتطوره، وعلينا أن نتقن التعامل معه حتى لا نتوقف عند العصور الوسطى. ثم لا تنسى ان العالم ينتقل الى ثقافة الصورة. اذا احسنا استعمال الانترنت سنتقدم وسنكون ابناء لهذا العصر. بالنسبة للقراءة، الانترنت وسع من دائرة القراء، ولن يضيقها باية من الحالات. انا اليوم اقرا منشورات ما كان يتيسر لي قراتها لو لم اكن دخلت الى عالم الشبكة العنكبوتية. انه عالم ساحر علينا ان ننتقل اليه وان نتعامل معه كما فعل الانسان يوم تحول من الكتابة على الجلود والعظام الى الكتابة على الاوراق حين اختراعها، العصر تغير وعلينا ان نتغير.
* الحروب والنزاعات وهموم الناس المعيشية والتردي الاقتصادي في عالمنا العربي هذه الاسباب مجتمعة، تعتقد أنها أثرت على الذوق الفني والادبي لدى القارىء العربي؟ وهل ساعدت في ابتعاده عن التماس الراحة في القصة والقصيدة؟
- العالم العربي ما زال يشكو من ارتفاع نسبة الامية. يوم قرات ان هذا العالم الذي هو عالمي. ولا عالم سواه لي، باجمعه لا يترجم مقدار ما تترجمه دولة واحدة هي اسبانيا الأندلس، بكيت، ويوم عرفت من احصاءات اليونسكو ان ما يقدمه عالمنا العربي من عطاء علمي للعالم يكاد يساوي الصفر بكيت. متى سنتنفس؟ متى سيحل عقالنا؟متى سنرفض هكذا وضع؟ نتمرد ونثور ونصرف ثمن طائرتي "اواكس" أو نحوه على الثقافة العربية الحزينة كي ننهض؟
* أين هو الأدب الفلسطيني اليوم؟ هل هو في تطور؟ وهل اثرالاحتلال عليه، سلبا أو إيجابا؟ وما هي مميزات الشعر المقاوم، والادب المقاوم؟
- هذه الفترة هي فترة العولمة وامحاء الحدود. وعليه بات مطلوبا من الاديب والكاتب ان يكون كما يفترض، انسانا مبدعا خلاقا، في الفترة السابقة عشنا فترة كاذبة هي فترة الشعر المقاوم. الشعر لا يقاوم. الشعر يعبق في الانسان، لهذا اعتقد ان مهمة الاديب المبدع تختلف عن مهمة سواه. ولعلي اذكر قولا للرسول الكريم عليه واله السلام يمتدح فيه الامة حينما يقف سياسيوها على ابواب علمائها. ما يحصل اليوم هو دمار.علماء الامة العربية يقفون على ابواب سياسييها. هذا محزن ولن يؤدي الا الى المزيد من الدمار الحاصل. علينا ان ندرك انه لا يوجد هناك اي انجاز حقيقي الا بتحقق التقدم الاجتماعي والثقافي خاصة. كل الشعوب التي تقدمت احرزت تقدمها الاجتماعي، فبات التقدم السياسي امرا مفروغا منه. نحن حينما نفهم الوطن نتعلق به اكثر، ونحن لا يمكننا ان نمارس مثل هذا الحب الا اذا كنا على مستوى عال من الوعي والادراك الاجتماعي خاصة. انا لا اعرف كيف سيدافع انسان منتهك عن أرضه؟!
ليشاهد الناس في بلادنا "ضيعة تشرين" ليشاهدوا تمثيلية الغوريلا لغوار الطوشة من مسلسل "صح النوم" كي يفهموا ما ارمي إليه، نحن نستطيع ان نقتل الغوريلا برصاصة واحدة، إلا أن المطلوب أولا أن يقتل كل منا الغوريلا في داخله.
* هل افهم انك توجه رسالة للامة؟ من خلال ان التحرر يبدأ من ذواتنا واعماقنا؟
- نعم علينا أن نتحرر أولا من انفسنا. نحن من نقرر ان يكون لنا مكان تحت هذه الشمس ونحن من ندمر موقعنا. الحياة قرار ونحن يجب ان نقرر ولسان حالنا يردد ما قاله هملت: المشكلة هي ان نكون او لا نكون هذه هي المشكلة، التحرر يبدأ من الذات، أما الله فانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
- لمحة سريعة عن اخر اصداراتك؟
-"حكاية مهرة" هي الإنتاج الأخير مجموعة من القصص تجاوزت فيها كل ماضي، كنت أنا، وصدرت قبل أيام قصة للأطفال عنوانها" ميلاد عازف جديد".
- كلمة أخيرة، ماذا تحب ان تقول لجيل الشباب في الوطن الكبير؟
- كونوا انتم بأحلامكم التي أورثناها إياكم، عيشوا هذا العصر بكل ما فيه من تقدم وتطور، لا تخافوا من التغيير وحققوا ما لم يتمكن الاباء والاجداد من تحقيقه، كونوا الأمل والمستقبل، كونوا أبناء الحياة.
*اشكر لك حضورك اليوم معنا، وأتمنى أن نعود ونلتقي مجددا في وقت آخر، فالكلام مع كاتب وشاعر، حمل هموم شعبه، وعاش معاناته، فكتب بصدق وأمانة، قصصا وعبرا، وسجل من خلال القصيدة والقصة أسمى معانى الإنسانية.
(*)نادية ظاهر، كاتبة لبنانية تقيم في هولندا