اللغة العربية ودورها في بناء الأمة

تشكل اللغة العربية أهم العوامل التي تقوم عليها أمتنا، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: التاريخ والدين والاقتصاد إلخ….، وهي تشكل عنصراً أساسياً في بناء هوية كل فرد من هذه الأمة، ومما يزيد في أهمية هذه اللغة عند العرب والمسلمين أن معجزة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الكبرى، وهي: القرآن الكريم، جاءت بهذا اللسان العربي المبين، ومن هنا جاء استهدافها، خلال القرن الماضي بعدد من الاتهامات غير الصحيحة، من مثل أنها صعبة القواعد والإملاء، وبأنها لغة غير علمية، لذلك ارتفعت الأصوات في عدد من البلاد العربية مطالبة باستبدال العامية بالفصحى، وقد رفع عدد من المفكرين من مثل سلامة موسى ولويس عوض حناجرهم منذ مطلع القرن العشرين بهذه الدعوة، وما زالت الهجمة عليها مستمرة.

ولكن هذه الحملة لم تنجح، ولم يعتمد أي بلد عربي العامية لغة رسمية فيه، لكن حملة من نوع آخر نجحت، وهي تفشي استعمال اللغات الأجنبية كالإنجليزية في التدريس منذ المرحلة الابتدائية، واعتمادها كلغة أساسية في تدريس جميع العلوم من طب وهندسة ورياضيات وفيزياء وكيمياء في معظم جامعات العالم العربي، وتفشي ألفاظها في الأسواق والمعاملات والإعلانات…..، فأصبحت اللغة العربية الفصحى غريبة، وها هي تزداد غربتها بمرور الزمن لكثرة اعتماد مختلف الدول العربية على الإنجليزية.

لقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعمق فهمهم، ونفاذ بصيرتهم، أهمية العناصر الثلاثة التي تقوم عليها وحدة الأمة الثقافية وهي: القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، واللغة العربية.

وأدركوا أن الاختلاف والتفرق عند الأمم السابقة قد جاء نتيجة عدم الحفاظ على رسالة أنبيائهم، لذلك حرص الصحابة رضي الله عنهم على المحافظة على القرآن الكريم، وبدأ ذلك بعد أن استحرّ القتل في القراء الحافظين للقرآن في معركة اليمامة، فقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حاثًّا إياه على جمع القرآن: “إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ”. ثم شرح الله صدر أبي بكر الصديق لرأي عمر بن الخطاب، وشكل لجنة برئاسة الصحابي زيد بن ثابت رضي الله عنه من أجل جمع القرآن الكريم من صدور الرجال ومن الصحف التي كان قد كُتب عليها، ثم حُفظت النسخة عند أبي بكر الصديق، ثم انتقلت إلى عمر بن الخطاب، ثم إلى حفصة رضي الله عنهم أجمعين.

عندما انتشر الإسلام في أصقاع الأرض، وبدأت الشعوب غير العربية في الدخول في الإسلام، وبدأت مشكلة أخرى، وهي: فشو اللحن في قراءة القرآن، نتيجة اختلاف لسانها عن لسان القرآن الكريم، ومن أجل معالجة هذه المشكلة أرسل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه نسخة من المصحف الأم الذي كان عند حفصة رضي الله عنها إلى كل من مكة  والشام والبصرة والكوفة واليمن والبحرين، وأبقى عنده في المدينة مصحفًا واحدًا، ليكون مرجعاً يعود المسلمون إليه في الأمصار عند الاختلاف في تلاوة القرآن.

ثم ظهرت حاجات أخرى من أجل تصويب قراءة القرآن الكريم، فتم ابتكار علمي: تنقيط الأحرف وتشكيل الكلمات، لكي يزيلا أي خطأ في نطق الآيات الكريمة.

ثم ظهرت حاجات أخرى من أجل المساعدة على الفهم الدقيق لمعاني القرآن الكريم وأحكامه، فتم ابتكار علمي: النحو والصرف، ثم ظهرت الحاجة إلى توضيح الإعجاز القرآني وفهم أسراره، فتم ابتكار بعض العلوم من مثل: علوم البلاغة والبيان والبديع.

لقد كانت الإنجازات العلمية السابقة في مجال اللغة، والتي ابتكرت عدة علوم من أجل ضبط النص القرآني وعدم الاختلاف في فهمه، باعتبار أن وحدة الدين أصل في وحدة الأمة.

واعتبر الإمام الشاطبي في الموافقات إن من أولى الواجبات على المسلم العلم بالعربية من أجل أن يقيم بها صلاته وعبادته وتلاوته للقرآن الكريم.

ثم وضح علماء الدين بعض الأحكام الفقهية المرتبطة باللغة العربية، فاعتبروا أن أول ما يؤمر به العبد من أجل الدخول في الإسلام هو الشهادتان، وذلك نتيجة حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان”(رواه البخاري ومسلم)، وبينوا أنه يجب أن يقولها بالعربية، ويدرك معناها كما بينها الدين.

وتتأكد تلك الحاجة إلى تعلم العربية عندما نتفحص الشهادتين اللتين تعتبران المدخل إلى الدين الإسلامي بالنسبة لأي مسلم، فالشهادة الأولى وهي “أشهد أن لا إله إلا الله” جاءت بصيغة المضارع “أشهد”، والشهادة تعني إعمال الحواس، ثم الوعي والعلم بأن الله واحد أحد، من خلال عقل الكون المحيط بالمسلم من شمس وقمر وبحر ونهر وطير وبستان وزهرة إلخ…..، فإن التدقيق في هذه الكائنات ونشأتها وحركتها وتطوراتها تجعل المسلم يعرف بأن الله واحد أحد لا رب غيره، ولا معبود سواه.

أما الشهادة الثانية وهي “أشهد أن محمداً عبده ورسوله” فهي تعني أني أشهد بحواسي وعقلي أن محمداً رسول الله، فكيف يكون ذلك وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

يكون ذلك بأني أعلم وأتبين وأشهد شهادة قاطعة بأن محمداً رسول الله من خلال رسالته الباقية وهي “القرآن الكريم”، ولن يتأتى ذلك إلا بمعرفة اللغة العربية التي يؤكد العلم بها بإعجاز القرآن الكريم، ثم العلم بأن محمداً رسول الله، وكأني معاصر له.

وهذا الوضع تحقق للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو إمكانية التحقق والتيقن بأنه نبي ورسول، ولم يتحقق لغيره من الأنبياء لأن معجزتهم التي أقاموا بها الدليل على نبوتهم ورسالتهم انتهت بوفاتهم، كما هي معجزة موسى أو معجزات عيسى عليهما السلام، أما الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- فإن معجزته باقية بعد وفاته وهي القرآن الكريم، لكننا لا نستطيع أن نعي ونعلم أنها معجزة حقاً إلا بتعلم اللغة العربية، وإدراك أسرارها، وفقه معانيها.

لم يقبل بعض علمائنا إيمان التقليد من المسلم، بل أوجبوا عليه بأن يقيم إيمانه على الدليل حتى يكون مقبولاً من الله، أما العلم بوحدانية الله فيكون من خلال النظر إلى الكون، وأما العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون من خلال العلم بالعربية، والاجتهاد في الترقي بفهمها، وتذوق بيانها، ثم تلاوة القرآن الكريم، ليدرك إعجاز هذا القرآن، ويوقن بعد ذلك بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويتفهم تفاصيل رسالته التي جاء بها في سور القرآن الكريم.

الخلاصة: تشكل اللغة العربية محوراً أساسياً من محاور بناء أمتنا، وعاملاً مهماً في بناء هويتنا، كما تشكل مدخلاً رئيسياً لإدراك معجزة الرسول الكبرى وهي: القرآن الكريم، والإقرار بها، ثم العلم بنبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنك تراه وتعاصره، وبعثت معه صلى الله عليه وسلم.

وسوم: العدد 758