تلازميات شرقية

تعتمد المقولات الشعاراتية في الكثير من الاحيان على موروثات تسمى في المعاجم التي وضعها البشر  بالحضارة، ووفق المنطق التاريخي ،الشرق وبالاخص الاوسط مهد الحضارات البشرية ومهد الاديان الرسالاتية، ومنها انبثقت التشريعات وسنت القوانين ، ونطقت الاحرف وبدأت الكلمة المرسومة المكتوبة، وتكونت اولى البنى للتجمعات البشرية، والحضرية، ومنها انتشرت الى باقي المناطق المجاورة، ناهيك عن ان في الشرق الاوسط بالذات ولد الانبياء والى غير ذلك من الاستدلالات الشعاراتية التي يستشهد بها كل شرقي سواء أكان متدينا ام قومياً او حتى ملحداً، تاركاً وراء مقولاته كماً هائلاً من التساؤلات التي قد تجابه من اصحاب الفكر الشعاراتي بالنكران.

حين نقف عند مفهوم الحضارة بالذات نشعر بشيء من الغبطة، ولكنها غبطة لاتستمر الا للحظات فما ان نستعيد قوانا الذهنية ونفكر  بشكل عقلاني في ماهيات الحضارة سواء القديمة ام الحاضرة، حتى نجدنا امام معضلة لاحل لها، حيث التضاد قد تسرب الى شرايين الشرقي في الشرق، واصبح يلهث وراء وَهم مدون فقط ولا وجود له على ارض الواقع، ولاننا لم نعد نعيش وفق منطق الغيبيات والتراجيديا الميثولوجية القديمة والشعارات، فاننا اصبحنا ننظر الى الامور وفق معطيات اخرى، بحيث لم تعد تلك البرمجيات القديمة بكل تمفصلاتها تؤثر فينا لا عاطفياً ولا حتى تبهرنا لاسيما بتلك الامثلة من المجتمعات القديمة والتي استمرت على نمطها في العصر الوسيط لبرهة قبل ان تتحول هي الاخرى الى وقائع لامسنا فيها عمق التضاد، فالشرقي المتنمق لايستند في حياته الا على المثالية المتعالية التي ورثها ضمن مدونات الاجداد ولو بحث عن التلازميات التي رافقت تدوين تلك المثاليات لوجد عمق التناقض الذي كان يعيشه هولاء، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يزل الشرقي ينظر الى الاقوام المجاورة على نحو من التدني، لكونهم بنظره اقل شأن حضاري منه، ودائما نجده يستشهد بالبنى الرخامية التي تركها اسلافه واجداده في المنطقة ليقول للاخرين باننا كنا اصحاب حضارة وعمران، ولو وقف فقط برهة زمن واسترجع الكيفية التي جعلتهم يبنون تلك الصروح العمرانية مثلاً، لادرك بانهم استخدموا الالاف من العبيد"البشر" ومارسوا معهم الضرب بالسياط والتجويع والقهر والاستبداد حتى استطاعوا من بناء تلك الصروح التي يسميها" الشرقي" الان حضارية وهي في الاصل بنيت بدم الالاف وعرقهم، فكيف تقول عن صر ح ما حضاري وهو قد بني بعمل لاانساني، هذا التساؤل لايحتاج الى جواب منمق اخر مطعم بالشعاراتية التي فقدت عذريتها، انما تحتاج الى عمق عقلاني تأملي تأويلي حداثي وفق منهج انساني بحت ، لانه اذا ما اسلمنا بامر الواقع بانها سنة الحياة في ان يعمل ويكد البعض ويموتون جوعاً كي يخلد التاريخ اسماء مضطهديهم ومستغليهم فانه التضاد والتناقض بحد ذاته، لاننا بذلك ننفي عن وجودنا السمة والصفة الاسمى التي نفتخر بها عن باقي الكائنات وهي الانسانية. ناهيك عن الاستعباد فهناك حيث نسميه مهد الحضارات لم تمر عليه حقبة دون اراقة الدماء والقتل( الصراعات ما قبل التاريخ والصراعات في العصر اليهودي والمسيحي والاسلامي ومن ثم القومي)، و كل الاحداثيات المتعلقة بالصراعات تلك تدور ضمن منظومة واحدة وهي اقصاء الاخر، وبناء صرحه فوق جماجم الاخرين، بحيث تحول تاريخهم الى تمجيد للملوك المقاتلين والمحاربين وكل ما دون وقتها وكل ما رسم وقتها ونقش على الجبال والاحجار والرخاميات والطين واوراق البردي وغيرها هي رماح وسهام والات حرب ودمار، واسماء وحملات ملوك وجيوش واسرى واستعباد ونساء وقهر وحيوانات  كالاسود والنمور والاحصنة والثعابين والنسور تمثل السلطوية بدلالاتها ووحشيتها " قوتها " ، انه المنطق القديم الذي نستشهد به حديثاً لنقول للاخرين باننا كنا مهد الحضارات وكانت ارضنا ارض التشريعات.

والغريب في الامر بانه رغم كل التشريعات سواء الدنيوية او السماوية الرسالاتية فان الرؤية الاقصائية لم تتغير عند ابناء الشرق وظلوا يمارسون هوايتهم المفضلة وهي الحرب والقتل والسبي والخراب والدمار فمن سبي بابل الى وقتنا الحاضر ستجد الالاف من المُمارسات المتشابهة التي اقدَمَ عليها اصحاب الاديان والرسالات باسم نشر التحضر والقيم، وبالتالي فان المنظومة التي يرثها الشرقي لايمكن ان تخلوا في حقبة ما من هذا التناقض والتضاد اللامنطقي، فمن كان  وفق منطقه البداوة او البادية اقل شأن واقل تحضر من المدينة، وفي الوقت نفسه كان يرسل اولاده الى اليها ليتعايشوا لفترة ضمن دائرة البدو وذلك ليتعلموا منها الشجاعة وفصاحة اللسان والقيم والى غير ذلك من الامور التي هي ضمن التوثيقات الحضرية المستمدة من البداوة والتي كان ينظر اليها على انها اقل شأن منه،فانه لابد وان ولد من ماء امتزجت الملوحة والعذوبة فيه بحيث ورث جمع الاضداد منها.

ووفق هذا المنطق فان التلازميات الشرق اوسطية هي من اكبر الاوهام التي جعلت الانسان على هذه البقعة يعيش في خيال لاينم عن وعي وواقع عقلاني، ولعل اكبر دليل على ذلك ما ان تحدثه عن شيء حتى تجده يلجأ الى ماضيه ليستشهد به وهذا ما دفع احدهم الى القول "ليس الفتى من قال كان ابي..." وكأنه انتبه الى حجم التناقض الموروث في زمنه فما بالك بزمننا الذي مازال الشرقي يبني صرحه الحاضر فوق موروثاته القديمة التي ورثها حتى تحول الى مستهلك لانفع منه سوى ان يتحول الى اداة بيد الاخرين ليتم توظيفه وفق اجنداتهم،ومع  ان ماضيه كما اشرت اليه سابقاً لايخرج من دائرة التضاد العقلي النفسي العاطفي بل يصل الى حد الانفصام في احيان كثيرة.. فانه مع علمه بالخلل الكامن فيه الا انه لايستطيع الخروج من تلك الدائرة لكونه اقنع نفسه بنظرية المؤامرة ، وفي الحقيقة بان الشرقي هو في الاصل نواة المؤامرة نفسها وبذرتها التي استقت من نفسيته غير الصالحة وانفاسه الحقدوية، وسعيه الاقصائي للاخر، فتحول من ضحية للمؤامرة التي يعتقد بانها موجودة الى نبع يمدها بكل الوسائل وكل الحاجيات لكي يقصي الاخر، ولعل من يبحث في المحركات التاريخية القديمة ومن ثم في العصور الوسطى والحديثة وحتى المعاصرة سيجد كيف ان الحياة على هذه البقعة استسلمت لمبدأ اقصاء الاخر  ومحاولة بناء الصروحات العمرانية والسياسية التي يعتبرها حضارة على جماجم وجثث الاخرين ممن لاينتمون الى فصيلته سواء الدينية او المذهبية او القومية.

من هذا المنطلق نطرح تساؤلاً غير ملزماً ، ترى هل بناء صرح عمراني حضارة، ونحن ندرك تماما انه بُني بيد العبيد البشر ( من استعبدهم ) الذين وقعوا تحت مطرقة وسيوف ملوك ودول، بل حتى بيد شعوب حكمها أُسر سلطوية اجبرت شعوبها على العمل لتخليد ذكرى حروبهم وسلطتهم او كهنة مارسوا الشعوذة الدينية تجاه ابناء شعوبهم فالزموهم بالعمل تحت وصايتهم ولمصالحهم، وتركوا لنا هذه الصروح البنائية العمرانية وتلك الرسومات والاحرف بكل مراحلها التاريخية.. ونحن ندرك تماماً بان الالاف قد قضوا جوعاً وتعباً ومرضاً وخوفاً وضرباً وهم يبنون تلك الصروح..؟ .

وسوم: العدد 759