الدين والسياسة: تمييز لا فصل الحلقة السادسة

د. سعد الدين العثماني

من مقتطفات من كتاب “الدين و السياسة تمييز لا فصل” للدكتور سعد الدين العثماني

 اتخذت العلاقة بين الديني والسياسي في الفكر المعاصر صيغاً مختلفة، وفي كثير من الأحيان متناقضة. وقد اتخذت في الغرب أشكالاً متباينة على الرغم من وجود قواسم مشتركة. وكل تجربة لها سياقها الخاص، وكل مجتمع يتواضع على صيغة معينة انطلاقاً من خصوصيته.

 ونريد هنا تقديم رأي في الرؤية الأفق للعلاقة بين الديني والسياسي: أهي تطبيق أم انفصال؟ وهل لهذه العلاقة جذور فكرية في ثقافتنا الإسلامية؟

 والمدخل الذي اخترناه هو تحديد المقصود بالدين، لأن كثيراً من الاختلافات وسوء التفاهم بين مختلف المدارس المتصارعة في موضوع علاقة الدين بالسياسة يرجع إلى الاختلاف المصطلحي أكثر منه إلى جوهر الإشكاليات. ولذلك فإننا سنحاول بداية تمييز معاني (الدين) في اللغة والشرع، قبل أن نعرج على أوجه التمييز بين الدين والسياسة في الفكر الإسلامي وفي الواقع المعيش.

أولاً: الألفاظ المشتركة ومراوحتها بين العموم والخصوص:

 تقتضي طبيعة اللغة ضرورة التمييز بين مستويات دلالات الألفاظ المرتبطة بموضوع ما، وعدم التعامل معها بوصفها (كائنات جامدة). ويؤكد (لودفج فيتغنشتاين) Wittgenstein رائد الفلسفة اللغوية في العصر الحديث بأن (معنى الكلمة ليس له ثبات أو تحديد... واللغة ليست حساباً منطقياً دقيقاً لكل كلمة معنى محدد ولكل الجمل وظيفة واحدة ...وإنما تتعدد معاني الكلمة بتعدد استخداماتنا لها ، وتتعدد معاني الجملة الواحدة بحسب السياق الذي تذكر فيه ...) .

 ومن المشترك اللفظي كلمة (العين ) : فهي تدل على العين الباصرة ، وعلى نبع الماء، وعلى وجيه القوم، وعلى الجاسوس ، وعلى الذهب ، وعلى الشيء نفسه ...

 ولذلك فإن معنى الدين والعلمانية لا تحمل المعاني نفسها لدى مختلف الباحثين ..

ثانياً : معاني لفظ الدين في الشرع :

 وأما الألفاظ الشرعية المشتركة فهي كثير وقد وضع علماء الأصول لها القواعد والضوابط، وقد أكد ابن تيمية على ذلك فقال : (الأسماء يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد ) ، فالعبادة لها أكثر من معنى : عام تعني كل ما أمر الله به، والفرائض من صلاة وصوم ...وكذلك التقوى والبرّ والإيمان والإسلام ...وهلمّ جراً .

 ومن هنا عدّ علماء أهل السنة الولاية والسياسة من الطاعات، والعبادات بالمعنى العام .

يقول ابن تيمية : فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله .

 وقد فرق المسلمون بين الأوامر النبوية التي تخص الدين والتي تخص الدنيا مثل : تأبير النخيل ، ومن أدعيته عليه الصلاة والسلام : اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ...وكان يقول حين يصبح : اللهم إني أسألك العافية في ديني ، ودنياي ، وأهلي ومالي .

ثالثاً : التمييز بين الدين والدنيا في نصوص العلماء :

 اتفق العلماء على الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتصرف كنبي ورئيس دولة، يقول النووي في شرحه لتأبير النخل: ( وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره -عليه السلام- من معايش الناس على سبيل الرأي ).

وأبرز من ميز مصالح الدين عن الدنيا الإمام الشاطبي : ( فالمصالح الضرورية لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ...مع التأكيد على أن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ) .

ومقاصد الشريعة هي حفظ الدين والعقل والنفس والمال ..وهذه من أمور الدنيا والدين معاً .

رابعاً : الغنى التنظيري لهذا التمييز :

وقد استخدم العلماء تعبيرات كثيرة للتمييز بين ما هو للدين وما هو للدنيا ، منها :

1-التعبدي مقابل العادي : فالعبادة حق الله على العباد من صلاة وصوم ..، والعادات تكون في الدنيا لتحقيق مصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم .فالغسل يكون لرفع الحدث ، ويكون للنظافة والتبرد .

2-العبادي مقابل المصلحي : يقسم العز بن عبد السلام الطاعات إلى معقولة المعنى تظهر فيها المصالح والمفاسد، وغير معقول المعنى كالعبادة التي قد لا تظهر لنا فيه الحكمة سوى التعبد وطاعة الله .

3-التعبدي مقابل التوصلي : وهذا من مصطلحات الجعفرية فالعبادي لا يتحقق بدون قصد ونية مثل الوضوء والصلاة والحج أما التوصلي فيكفي الامتثال ولو كان دون قصد مثل صلة الرحم وزيارة المريض ودفن الميت ..

4-المطلوب ديانة مقابل المطلوب قضاء : فأحكام المعاملات لها اعتبارات : ديانة يأخذ ببواطن الأمور والتقوى والورع، أما القضاء فيحكم على ظاهر العمل .

5- الديني مقابل المباح : فالديني قربة إلى الله يحتاج إلى دليل، أما المباح مثل أكل البطيخ بالرطب فلو تركه الإنسان طيلة الدهر فلا شيء عليه .

6- ما هو لمصلحة الآخر مقابل ما هو لمصلحة الدنيا : المصالح عن العز بن عبد السلام ثلاثة أنواع :

-أخروية : وهي متوقعة الحصول .

-مصالح دنيوية .

-ما يكون له مصلحتان : دنيوية وأخروية مثل الكفارات والعبادات المالية .

خامساً : نماذج من التجربة التاريخية الإسلامية : أكد الماوردي أن مهمة الدولة خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا .وخلافة العلماء مختلفة عن خلافة الأمراء .

 وميز الطرطوشي بين الأحكام والسياسة فقال: الأحكام تتعلق بالحلال والحرام في البيع والنكاح والطلاق ، والسياسة : تتعلق بالتزام تلك الأحكام والذب عنها .

سادساً : تمايز الدين والسياسة :

 ذهب التيار العلماني إلى ضرورة فصل الدين عن السياسة، ونقول لهم لا خير في فصل السياسة عن القيم والأخلاق، وتركها فريسة الأهواء وأنواع الدجل والكذب، أو عزلها عن حقائق العدل والمساواة وحب الخير للناس ومراعاة مصالحهم .

 وقد ميز القرافي كما رأينا بين تصرفات الرسول بوصفه نبياً، وبين تصرفاته بوصفه رئيساً للدولة .

 ولا يمكن فصل الدين عن السياسة في أي مجتمع من المجتمعات؛ لأن الدين حاضر لدى الفرد المنتمي إلى المجتمع حاضر في لا وعيه وفي ثقافته التي تشربها، وكذلك يطرح الدين قيم نبيلة كالعدل والمساواة والحرية والشورى وغيرها وما ينتظره الدين من الناس المؤمنين به هو أن تنعكس هذه القيم المعيارية في علاقاتهم الدنيوية وفي عملهم السياسي، فالدين مبدأ موجه للسياسة وروح دافعة وقوة للأمة جامعة .

 ونحن ندعو للتمييز بين الدين والسياسة لا الفصل بينهما لكي لا نحرم من الجهود الإنسانية عبر التاريخ .

فالدين يحقق مصالح الآخرة والسياسة تحقق مصالح الدنيا .

 ويفرق القرافي بين الفتيا التي تعتمد على الأدلة الشرعية، والقضاء الذي يعتمد على الأدلة والبراهين العقلية وتصرفات الإمام السياسي تعتمد المصالح الراجحة في حق الأمة ، فشؤون الدين تعود للمفتي وأما القرار السياسي فيعود للمسؤولين .

 إن استيعاب العلاقة الحركية والمتجددة بين الدين والسياسة يؤدي إلى الوعي بضرورة التمايز بينهما دون أن يتطور ذلك إلى تنابذ وتنافر، مما هو مساعد لتأسيس تجربة حضارية جديدة للمجتمعات الإسلامية، ويمكن أن ينتج عن هذا إعادة تأسيس العلاقة بين الدعوي والسياسي داخل الحركة الإسلامية بما يزيد عطاءها الفكري والحضاري وكسبها السياسي والاجتماعي ثراء وتجذراً .

وسوم: العدد 763