اللقاء الأخير مع أستاذنا الشهيد إبراهيم عاصي في جسر الشغور!! وفي السجن!!

كان إبراهيم عاصي ملء عين بلدته ، وأهله وتلاميذه ، وقراء مقالاته في مجلة حضارة الإسلام ، وكتبه وقصصه التي انتشرت في صفوف السوريين وغيرهم !؟ ومن الطرائف أنني استمعت إلى خطبة جمعة في بغداد ١٩٨١ ، فكان موضوعها ماكتبه أستاذنا عن المرأة التي يتاجر بقضاياها التجار والفجار - كما أسماهم -

تعو د بي الذاكرة إلى اليوم الرابع من نيسان ١٩٧٩ م ، وكان آخر درس له في تفسير سورة يوسف عليه السلام ، في جامع الأ نصار ، وهو يغص بالحضور من المدينة ومن الأرياف المجاورة ، وللذكرى فإن هذا الجامع كان جامع المواجهة مع النظام المجرم ، وكان للعيون والمخبرين وجود ظاهر وإن تظاهروا بالتقوى والخشوع المصطنع !؟ وقد كان خطيب المسجد الأخ الشهيد عبد الكريم النايف ، يكاد يميزهم واحداً واحداً ! ولم يكن هذا ليمنعه من قول الحق ، بل كان يكويهم مرة ، وينصح مرة ، كما كان لأستاذنا عبارات تنغرز في جنوبهم لعلهم يستيقظون !؟ 

- ولعل من حكمة الله تعالى أن تكون هذه السورة ، والحديث عن السجن والبراءة من آخر ماسمعه الحاضرون ! كأن القدر يعده لهذه المرحلة التي طالت ، وتحدث عنها في رسالته من السجن إلى ابنه الشهيد عمار ، ومن خلال مقالته التي كتبها ( شيء من النيران ) وسرّبها بعض السجناء ، والتي تعد من أرقى الكتابات الأدبية والتحليل النفسي والتصور الإيماني ، وقد نشرتها النذير في أعدادها الأولى بمقدمة كتبها أستاذنا الراحل الاديب محمد الحسناوي - رحمه الله - 

لم يكن المجرمون ليجرؤوا على اعتقاله في جسرالشغور ؛ لأنهم يعلمون مدى خطورة الأمر عليهم ، فاعتقلوه في إدلب ليلاً  وهو في بيت شقيقته ، بعد نقله  من التعليم  إلى إحدى الدوائر في المحافظة !؟ في الوقت الذي كانت المدارس في حاجة إليه وإلى أمثاله ممن نُقلوا أو سُرّحوا أو سُجنوا ، أو شُرّدوا !؟ 

ومما يُذكر أن عدد المسرحين من التعليم في الدفعة الأولى في محافظةإدلب  كان أكبر من بقية المحافظات ، وقد نالنا شرف ذلك بعد أحداث آذار ١٩٨٠ في جسر الشغور مع عدد من الإخوة زادوا على العشرين من الجسر وريفها !؟ 

وأترك لقلم  الأخ الشاعر سليم عبد القادر - رحمه الله - وقد انقطعت أخبار الأستاذ إبراهيم عن أهله وإخوانه ، لينقل لنا في كتابه ( نقطة ... انتهى التحقيق ) صورة عن انطباعاته وصحبته له في السجن ، فيقول : كان الأستاذ إبراهيم عاصي عالٓماً من الذوق والأدب والفكر ! تعرفت إليه أول مرة من خلال كتبه اللطيفة التي تضم المقالات الرشيقة ( همسة في أذن حواء) والقصص الساخرة الماتعة ( ولهان والمتفرسون ) و ( سلة الرمان ) ، وقصدته مع ثلة من أصحابي في بيته في جسر الشغور ، حاملاً توصية من أستاذي وصديقه الأديب الشاعر محمد الحسناوي ، فاستقبلنا بحفاوة كبرى ، وأكرمنا أكراماً لا يمحوه النسيان ...  وتوطدت بعدها العلاقة فيما بيننا ، ثم اجتمعنا أخيراً في المهجع السادس في سجن كفر سوسة ، فازدادت المعرفة ، وازداد الإعجاب والود ..كان الأستاذ الكبير يمثل السجناء أمام إدارة السجن ، وينطق بلساننا ، ويعبر عن أحوالنا ، وينقل شكوانا ، وكان رئيس الفرع يستدعيه كلما جدّ أمر ، وحين يعود يحدثنا عما جرى ... وكان يتمتع بلباقة عالية ، ومهارة في الحوار ، وذكاء وحكمة ، مع روح مطبوعة بالدعابة ....

دعاه مرة رئيس الفرع بعدما صادروا لنا راديو مهرب نستمع فيه إلى الأخبار ، ودار بينهما حوار طويل ، ثم سأله الأستاذ : حتى راديو صغير تصادرونه !؟ فقال له : كيف دخل الراديو ؟ قال الأستاذ : تهريباً !؟ 

قال رئيس الفرع :وهل من المعقول أن نترك لكم راديو ، وأنتم لا تستمعون إلا إلى نشرات أخبار الكتائب ومونتي كارلو وما شابه !؟ 

ردّ الأستاذ باسماً : وهل من المعقول أن نطلب من الشباب أن يستمعوا لإذاعة دمشق ؟! 

وفي إحدى الليالي جاءت لجنة إلى السجن تمثل القيادة القطرية ، وأجرى أعضاؤها حوارات مع السجناء من قادة الإخوان ، ابتدؤوها بالأستاذ إبراهيم ، ثم راحوا يستدعون الآخرين واحداً بعد الآخر ً فيسمعون كلاماً قوياً  تعلو وتيرته باستمرار ، ويحمل السلطة مسؤولية مايجري من عنف في البلاد ، ولما فرغت اللجنة من مهمتها عادت فاستدعت الأستاذ إبراهيم ثانية ، فقال أحدهم : الكلام الذي سمعناه من إخوانك غير معقول !؟ 

قال الأستاذ :  لماذا ؟

قال : إنهم يحملوننا المسؤولية كاملة ، ولا يتورعون عن توجيه النقد اللاذع ، والإهانات المبطنة ...

ابتسم الأستاذ ابتسامته العذبة وقال : ماذا تريدون ممن يعتقدون أنهم معتقلون ظلماً أن يقولوا !؟ على كل حال ، إذا أردتم أن يغيروا مواقفهم فأطلقوا سراحهم !! 

ويضيف الأخ سليم : كتب الأستاذ إبراهيم رواية عن السجن ، ولما فرغ منها حاول تهريبها مع أهله عند الزيارة ، ولكن المحاولة فشلت وصودرت الرواية التي لم يكن يمتلك نسخة أخرى منها .

كان الأستاذإبراهيم يجلس مستمعاً إلى دروس الشيخ عثمان جمال ، في العقيدة والفقه ، رغم أنه يكبره ببضع سنوات ! كان يجلس مصغياً بأدبه الجم ، وعقله اليقظ ، يتدخل أحياناً مستفسراً أو معلقاً ، أو محاوراً بتلقائية وهدوء ورحابة صدر ... ومامن أحد ألا أحبه ، وتعلم منه الكثير !! 

أما النهاية فكانت في مذبحة تدمر المرعبة ، مع ألف من إخوانه ، دخلت أجسادهم مقبرة جماعية ، ورفرفت أرواحهم سرباً واحداً نحو بارئها !!

** رحم الله أستاذنا الحبيب ، وكتب له أجر المجاهدين والشهداء ، ورحم الله أخي وصديقي العزيز سليم الذي استطاع مع ستة عشر أخاً سجيناً الفرار من السجن ، وظل شوكة في عيون الطغمة المحتلة لسورية يكتب للكبار والصغار ، ويبشر بيوم الخلاص الذي كنا نترقبه !

وسوم: العدد 769